آلية الترجيح في الترجمة

خالد بلقاسم  |  26 أبريل 2021  |  

من ملامح الحيرة، التي تُصاحبُ آلية الترجيح في الترجمة، اضطرار المُترجِم، مثلًا، إلى الاستعانة بهوامشَ، من خارج النصّ المُتَرْجَم ولكن بإيحاءٍ منه، كي يكشفَ عن الحيرة التي ساورَتْهُ في العُبور من لغةٍ إلى أخرى ومن سياقٍ ثقافيّ إلى آخر، وكي يُفصحَ عمّا دعاه إلى تغليب ما غلّبه في الترجيح، ويُلمحَ إلى ما بقي مُتملّصًا حتى بَعد حسْم عمليّة الترجيح.

يسمحُ الترجيح، بما هو آليةٌ مُصاحبة لمُمارَسة الترجمة، بإثارة أسئلة من صميم ما أثارَهُ التفكيرُ الفلسفيّ في هذه المُمارَسة بَعد أن عدّ الترجمة قضية فلسفيّةً مُضمِرةً لمُختلف الانشغالات التي اهتمّ بها هذا التفكير منذ القديم. لا تتكشّفُ إمكاناتُ استثمار آلية الترجيح في إثارة هذه الأسئلة إلّا إذا تمّ تسييج الترجيح في الترجمة ضمْن مفهومات فلسفيّة، والتفكير فيه استنادًا إلى إشكالات الكتابة، والمعنى، والتأويل، والاختلاف. وهو ما قد يستجْلي جوانبَ من الأسُس المعرفيّة لآلية الترجيح التي تتمُّ، في الغالب العامّ، اعتمادًا على احتمالات النصّ المُترجَم، من جهةٍ، وعلى التصوُّر الفلسفيّ للترجمة، بما هي مُختبر قضايا فلسفيّة، من جهةٍ ثانية، وعلى ما تنطوي عليه، من جهةٍ ثالثة، المسافةُ القائمة بين لغتيْن، أو بين ثقافتيْن، من وُعود تأويليّة، باعتبار هذه المسافة منطقةً فكريّةً خصيبة. أبْعد من ذلك، يُمكنُ الذهاب إلى أنّ التصوُّرَ الذي يبنيه التأويلُ لآليّة الترجيح مشدودٌ إلى الرؤية المُحتكَم إليها في فهْم الترجمة، حيث لا ينحصرُ الترجيحُ في مُجرّد آلية تفرضُها الصّعوباتُ التي تنفتحُ في مُمارَسة الترجمة، بل يَغدو تصوُّرًا عن هذه المُمارَسة يُعارضُ تصوُّرات أخرى.

كثيرًا ما يلجأ المُترجِمُ داخل التردُّد، الذي يُصاحبُ مُمارَسةَ الترجمة ويتولّدُ من مَضايقها واحتمالاتها، إلى ترجيح لفظٍ أو مُصطلح على آخَر، وتغليب معنى على حساب معنى قريب منه، وتشطيبِ احتمالٍ لإثبات احتمالٍ آخَر، وغيرها من الأمور التي تجعلُ الترجيحَ مُضمِرًا لمسافةٍ بَينيّة خليقة بتأمّل مُمارَسةِ الترجمة في ضَوء المُنفلت منها وفيها، وفي ضَوء الاحتمال ذي السّند الفكريّ، الذي فيه تغدو كلُّ ترجمة مُنطويةً على نداءِ المُعاودة، لتملّصها دومًا من الامتلاء، ولانفلاتها من أيِّ انغلاق.

من ملامح الحيرة، التي تُصاحبُ آلية الترجيح في الترجمة، اضطرار المُترجِم، مثلًا، إلى الاستعانة بهوامشَ، من خارج النصّ المُتَرْجَم ولكن بإيحاءٍ منه، كي يكشفَ عن الحيرة التي ساورَتْهُ في العُبور من لغةٍ إلى أخرى ومن سياقٍ ثقافيّ إلى آخر، وكي يُفصحَ عمّا دعاه إلى تغليب ما غلّبه في الترجيح، ويُلمحَ إلى ما بقي مُتملّصًا حتى بَعد حسْم عمليّة الترجيح. نماذجُ هذه الهوامش المُتولّدة عن الترجيح وعن المُتملّص منه عديدةٌ في الكثير من الترجمات، بما يؤكّدُ أنّ الأمر يتعلّق بآليّةٍ مُلازمة لمُمارَسة الترجمة. من نماذج ذلك ما نعثرُ عليه، مثلًا، في الهامش الأوّل الذي خصّهُ للعُنوان مُترجمُ مُحاضرة «هايدغر» المُتصدّرة لكتابه «Acheminement vers la parole»؛ أي المُحاضرة الحاملة لعُنوان «Die Sprache»، وهو ما تمّت ترجمتهُ بـ«الكلام»، إذ ذهبَ المُترجمُ في الهامش، الذي خصّهُ لموَجِّهات تغليبه لاحتمال ترجمةِ هذا العنوان بـ«الكلام»، إلى أنّ مُصطلح Die Sprache في الألمانية يُستعملُ لتعيين «ما نُسمّيه باللّغة»، وأنّ ترجيح ترجمته بـ«الكلام» تَمّ بَعد تردّد طويل. واللافت أنّ المُترجِم أشارَ، في الهامش نفسه، إلى ضرورة استحضار المعنى الواسع للكلمة في الألمانيّة، في كلِّ مرّة نقرأ فيها كلمة «كلام» في ترجمته، أي استحضار المعنى الذي يدلُّ، حسب المُترجِم، على الكلام مُتكلّمًا به في قلب لغةٍ ما، مُحذّرًا أنّ أيَّ تحديد أو تمييز لسانيّيْن لا مجال لهُما في هذا السياق، ولن يُسعفَا في أيّ شيء.

ليس هذا المثالُ المُستشهَدُ به من ترجمة المُحاضرة الأولى في كتاب «هايدغر» المُشار إليه سوى صيغةٍ من صيَغ الترجيح اللانهائيّة التي تُلازم مُمارَسة الترجمة. تُلازمُها وتُلزمُها بأن تتحقّقَ وهي تمحو وتُثبتُ، تُشطّبُ وتُبقي، تَستبعدُ احتمالًا وتُغلّبُ آخَر، وغير ذلك من الآليات التي بها تتبلورُ الترجمةُ على المنوال ذاته الذي به تتبلوَرُ الكتابة بوَجهٍ عامّ، وبه يتبلورُ التأويلُ أيضًا. إنّه أحدُ العناصر التي دفعتْ مُفكّرين غربيّين، ضمْن تقويضهم لميتافيزيقا الترجمة، إلى مقارَبة الترجمة بوَصفها كتابةً، وبوَصفها شكلًا من أشكال التأويل، على نحوٍ جعلَ المسافة بين الأصل والترجمة منطقةَ احتمال مفتوحٍ لا يكفُّ عن الابتعاد عن وَهْم المُطابقة. يتجدّدُ انفتاحُ هذا الاحتمال بناءً على امتناع استنفادِه في الأصل المُترجَم، وبناءً على ما يَستجدُّ في الفعل التأويليّ وفي المفهومات الفكريّة، بما يُغيِّرُ النظرةَ إلى الأصل. فالفاصل الزمنيّ والفكريّ بين الأصل والترجمة يُمْلي تجدّدَ الأولى، التي تظلّ مشدودةً، وَفق ذلك، إلى التأويل. تستندُ كلّ ترجمة إلى الزمن الفكريّ الذي فيه تتمُّ، بدليلِ الحاجة إلى مُعاودة الترجمة، وبدليل حاجةِ الأصْل إلى ترجمات مُتعدّدة. ومن ثمَّ، مثلما تتحدّدُ الترجمة، في الفكر الحديث، بوصفها كتابةً، تتحدّدُ أيضًا بوَصفها تأويلًا. وهما أمْران حيَويّان في الاقتراب من آلية الترجيح.

لعلّ أوّلَ ما يُثيرُ في الهامش الذي أقامهُ مُترجمُ مُحاضرة «هايدغر»؛ الهامش الفائض عن الترجمة والمُتولّد من مضايقها، هو أنّ الترجيح، الذي غلّبه المُترجم بَعد تردُّده الطويل، لا يُبعدُ تمامًا الاحتمالَ الباعث على التردُّد، بل احتفظَ الترجيحُ لِما تمّ استبعادُه بحصّته في المعنى حتى بَعد استبعاده، على نحو ما يُفهَمُ من تنصيص المُترجم على استحضار ما لم يَشمله حتّى المُصطلحُ المُرجَّح، الذي بقيَ مُنطويًا على ما بَدا نقصًا، وإن لم يكُن كذلك من منظور مُفكّرين غربيّين لعَمل الترجمة. فالمسارُ الذي فيه تتبلورُ آليةُ الترجيح دالّ، بمُختلف أطواره، من زاوية التصوُّر الفكريّ عن الترجمة. ثمّة أطوارٌ تُلازم هذه الآلية، إذ ثمّة، أوّلًا، التردُّد الذي يسبقُ الترجيح، يليه، ثانيًا، تغليب احتمال على آخر، ثمَّ، ثالثًا، ضرورة استحضار المُبعَد في الترجيح لإضاءة المعنى. ليست هذه الأطوار، التي تصاحبُ مُمارَسة الترجمة، عمليّات تخصّ المُترجم، بل هي قضايا من صَميم اشتغال الترجمة بما هي إشكالُ علاقةٍ بين لغتيْن. فالعلاقة بين اللغتيْن بحمولاتهما الثقافيّة تقتضي أساسًا المسارَ المُلمح إليه، لأنّها تحتفظ دومًا بالمُنفلت في المسافة بين طرَفيْها وببَونٍ غير قابل للامّحاء التامّ. إنّ هذا المُنفلتَ هو عينهُ الاختلافُ الذي تعملُ الترجمة على إدامته، بعيدًا عن ثنائيّة الأمانة والخيانة التي شهدَت قلبًا فكريًّا في تصوُّرات العديد من المُفكّرين للترجمة بَعد أنْ عملوا على تحرير هذه الثنائيّة من أيِّ بُعد أخلاقيّ، مثلما عملوا، في سياق تفكيكهم لميتافيزيقا الترجمة، على تقويض العديد من الثنائيات المُرتبطة بمُمارَسة الترجمة، مثل ثنائية الأصل والنسخة، والقرب والبُعد، وغيرهما.

بناءً على الإشارات السابقة، لا يستقيمُ فهمُ الترجيح بمعنى إيجابيّ وتثمينُ مُوجّهاته إلّا في ضَوء القلب الذي مسّ العديدَ من المفهومات في التصوُّر الفكريّ لمُمارَسة الترجمة. إنّ إعادة هذا التصوُّر لتأوُّل العلاقة بين الأصل والترجمة، واتّخاذَهُ هذه العلاقة منطقةً لمُساءلة الهويّة وتقويض المُطابقة وتمجيد الغرابة في اللّغة، هو ما يُتيحُ استجلاءَ الترجيح بوَصفه دليلًا على انفتاح هذه العلاقة وامتناعها عن كلّ إغلاق. فالتردُّد، الذي يوجّهُ الترجيح ويتركُ أثرَه حتى بَعد تغليب احتمالٍ واستبعادِ آخَر، من الأدلّة التي تعزّزُ أنّ الترجمة ليست مُطابَقةً للأصل، وأنّ أمانتها له مشدودةٌ، خلافًا لِما تكرّسَ في هذا السياق، إلى الابتعاد عنه وإبعاده عن نفسه، وإبعادِ حتى لغةِ الترجمة عن نفسها. فالاقتراب الشديدُ من الأصل لا يتمُّ في الترجمة إلّا بغايةِ استنبات البُعد. ومُحاولةُ التشبُّه بالأصل لا تتمّ إلّا لتُوَلِّد الاختلاف لا بين لغته ولغة الترجمة وحسب، ولكن لتوليده داخل الأصل وداخل لغة الترجمة. فالأوّل يكفّ، في الترجمة وبها، عن أن يكون هو ذاته، ويكتشفُ اختلافَه في لغةٍ أخرى، وهذه اللّغة؛ أي لغة الترجمة، تنطوي، في تحقّقها وهي تتشبّهُ بالأصل، على المُختلف فيها والغريب عنها، وتستضيفهُ كي تنموَ به وتتجدّد، وكي ينموَ بها ويتجدّد في الآن ذاته. لا يكونُ الأصلُ هو ذاته في الترجمة ولا يكونُ غيرَه في الوقت نفسه، إنّ الأصل يكونُ في الترجمة، متى استعرْنا عُنوان كتاب أمبرطو إيكو في الموضوع، هو ذاته «تقريبًا». والتقريب معناهُ الانفصال عن المُطابقة، والاحتفاظ للمسافة بحيّزِ اشتغالها من قلب الاختلاف، وإنتاجُ المعنى من داخل الاحتمال، ومن داخل الترجيح الذي لا يُفرّط في القُرب والتقريب بوَصفهما، في الآن ذاته، بعدًا وابتعادًا واختلافًا.

الترجيحُ بهذا المعنى ترسيخٌ لما كرّسهُ تفكيكُ ميتافيزيقا الترجمة عند مفكّرين غربيّين؛ ترسيخٌ للبُعد في الترجمة، القائمِ أساسًا على قُرب شديد من الأصل، لأنّ بهذا القُرب تكشفُ المسافةُ بينه وبين الترجمة عن بُعد أصيل بينهما يُشطّبُ كلَّ مُطابقة وكلَّ وهْمٍ بتحصيلها. ليست الترجمة، وَفق ما يُعزّزه الترجيحُ وتعزّزه آلياتٌ أخرى، مطابَقةً للأصل. إنّها مُماثلةٌ لا تنفصلُ عن الاختلاف الذي يُحقّقها، بل لا تعملُ، داخل المنطقة البَينيّة التي فيها تتحقّقُ الترجمة، إلّا على تغذية الاختلاف وتقويته، وذلك بتمكين الأصْل من اختلافه، وتمكين اللّغة، التي إليها يُترجَمُ الأصل، من اختلافها. ثمّة دَومًا في الترجمة ما يكشفُ أنّ التطابُقَ رؤيةٌ محجوبةٌ بالمُطلق الذي يُوجِّهُها ويَسكنها، وثمّة دومًا، في مُمارَستها وفي ما يتحصّلُ من هذه المُمارَسة، ما يُهيّئُ لتفكيك هذه الرؤية المُطلقة ولاستجلاء بذور الاختلاف الذي يتخلّقُ بالترجمة، كأنّها لا تعملُ في قُربها الشديد من الأصل إلّا على صَون ما يُبعدُها عنه وعن لغتها في الآن نفسه. لعلّ ما يُعضّدُ هذا التصوُّر، من بين عناصر أخرى عديدة، هو تخلُّل الترجيح لأطوار الترجمة؛ الترجيح الذي يُمليه التردُّد الساري في مُمارَستها والساري في مُختلف هذه الأطوار. فهو الذي يُبرزُ ما يَسمُ المنطقة البينيّة التي فيها تتمُّ مُمارَسة الترجمة. منطقةٌ لا تُفرّط، من داخل التقارُب والتقريب اللذيْن يحكمانها، في بُعدها، لأنّ القرب يَحتفظ بالبُعد، بل يَصونه، ويجعلُ تفاعُلَ لغتيْن وتشابُكهما مُنطويًا عن بَون لا يرتفع. إنّه البَون الذي يجعلُ الأصل يحيَا في غير لغته، ويجعلُ لغةَ الترجمة تتجدّدُ بالغريب الذي يَحلّ فيها. وبذلك، ليس التردُّدُ المُصاحب للترجمة وما يترتّبُ عليه من ترجيح سوى وَجهيْن من وُجوه الاختلافِ المُلازم لمُمارَستِها، الاختلاف الذي يظلّ مَصونًا وغيرَ قابل للمَحو، على نحو ما يومئُ إليه لفظُ «تقريبًا» الباني لعُنوان كتاب أمبرطو إيكو.

قد تنفتحُ كوّةٌ من كوى تأمّل الترجمة من موقع آلية الترجيج متى تمَّ توسيعُ هذه الآلية لتشملَ كلَّ صورة تتحقّقُ بها الترجمة، حيث تبدو كلُّ ترجمةٍ لأصل ما احتمالًا تمَّ ترجيحُه. هكذا تغدو إعادةُ الترجمة، التي ظلّت مُصاحِبةً للعديد من الأصول، بحثًا عن ترجيح آخَر ينهضُ، كلّما استندَ إلى الترجيحات التي سبقتْه، بمُراجعتها، أي مُراجعة ما كان ترجيحًا فيها، قبْل أن يغدوَ هو ذاتُه موقعَ تردُّد ومُساءلة في الترجمات اللاحقة. مِن الحيَويّ، إذًا، تصوُّرُ الترجمة في سلسلةِ ترجيحات تنسَخُ بعضَها، وهو أمرٌ مُتحصّل في تعدُّد ترجمات النصّ الواحد، على نحو يشقُّ مسلكًا تأويليًّا يسمحُ بمُناقشة تعدُّد ترجمات النصّ الواحد في أزمنة مُتباينة وفي سياقات فكريّة مُختلفة استنادًا إلى وُعود الترجيح التأويليّة.

لربّما من داخل الترجيح المُلازم للترجمة، ومن داخل آليات أخرى في هذه المُمارَسة، يُمكنُ استيعاب حاجة الأصل إلى ترجمات عديدة اعتمادًا على حاجةِ كلّ نصٍّ لقراءات لا نهائيّة، بما يُعمّقُ استثمارَ القرابة التي تصلُ الترجمة بالكتابة وبالقراءة وبالتأويل. وهو ما يُفضي، كما نصّ على ذلك مفكّرون غربيّون، إلى تأوّل الترجمة في ضَوء إرادة اللّغة لا إرادة المُترجم. ضمن هذا التصوُّر، يبدو الترجيحُ رؤية أوسع وأشمل، تتجاوزُ مُجرّدَ حصْره في آلية من آليات الترجمة، لأنّ اللّغة هي التي تفرضُه، لا في ممارَسة الترجمة وحسب، بل حتى في كتابة الأصل. فعدمُ الثبات الذي يَحكمُ التردُّدَ المُفضي إلى الترجيح، وتحوُّلُ ما تمَّ ترجيحُه في ترجمة سابقة إلى عُنصر مُستبعَدٍ في أخرى لاحقة، ينطوي على حركيّة تعودُ إلى ما يَحكمُ اشتغالَ اللّغة في الترجمة وفي الكتابة بوَجهٍ عامّ. فالترجيحُ غير مُتولّد عن الترجمة وحسب، بل يسكنُ الأصل أيضًا، لأنّهُ خصيصةٌ مُلازمة للّغة. لعلّ ذلك ما يتكشّفُ للكُتَّاب عندما يقرؤون أعمالَهم في تآويلَ يُنجزُها القُرَّاء، بل يتكشّف، وهذا أمرٌ شديدُ الدلالة، حتى في إعادةِ الكاتب نفسِه قراءةَ عمله، خُصوصًا عندما يعثرُ على ترجيحات تقترحُها اللّغة؛ ترجيحات تتجاوزُ ما كان الكاتبُ قصدَه أو دارَ بخَلده في أثناء الكتابة. إنّه أمرٌ حيَويّ من زاويةِ الكتابة والتأويل، ومن زاوية عدِّهما معًا ترجمةً داخل اللّغة الواحدة، بما يُوضّحُ امتدادات الترجيح وحمولاته المفهوميّة في الآن ذاته. يُمكن التمثيل لهذا الأمر الحيَويّ بإعادةِ قراءة كيليطو لعُنوان كتابه «بحِبر خفيّ» من خارج المعنى الأوّل الذي قصدَه، إذ تنبّه إلى أنّ عُنوانه ينطوي على سرٍّ من أسرار اللّغة، ويَفيضُ عمّا أرادهُ منه. ذلك ما صرّحَ به في مؤلَّف جماعيّ صدرَ حول أعماله عام 2020، ضِمن منشورات كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بالرباط، تحت عنوان «كيليطو والحوار النقديّ العالميّ». في تقديم هذا الكتاب، يقولُ كيليطو عن عُنوان كتابه «بحِبر خفيّ»: «تبيّن لي ذات يوم وعلى حين بغتة أنّه يُمكنُ أن يُقرأ بحَبر خفيّ، والحَبر كما نعرفُ هو العَالِم الكبير، هو المُتبحِّر في العِلم، ولا غرو أن تتمَّ الإحالة على البحر بصدَده. يكفي تبديل شكل حرف ليَختلفَ المعنى، معنى العنوان، بل معنى الكتاب بكامله. لم أكُن واعيًا بذلك، كنتُ غافلًا تمامًا عن الحَبر، وعن البحر، ولكنّ اللّغة لا محالة واعية ودائمًا بالمرصاد، تنتظرُ الوقتَ المُناسبَ للإفصاح عن المَعنى المُستتر. وهكذا يصيرُ الكتابُ كتابيْن ويجدُ القارئ نفسَه مُلزَمًا بتغيير مُقاربته. وغنيّ عن القول إنّ العنوان في هذه الحالة تستحيلُ ترجمته». يُمكن أن نتأوّل ما عدّهُ كيليطو استحالةً باعتبارها منطقةَ اشتغال الترجيح، إنّها الداعي للترجمة التي تعملُ على اقتفاء المُنفلت الذي لا يفرّطُ، داخل الأصل، في انفلاته، وبه يُنادي دومًا ترجماتٍ عديدة. إنّ ما عدّه كيليطو استحالة هي ما يُقيمُ فيه الترجيحُ المُتجدّد؛ الترجيح الذي لا يَتوقّف عن تقديم الاحتمالات، على نحو يَستحضرُ، في هذا السياق، مفهوم «ما لا يقبلُ الترجمة» l’intraduisible بالمعنى الذي صاغه جاك دريدا، معنى لا يتعارضُ مع ما يقبل الترجمة، بل يتفاعلُ معه، بصورةٍ تجعلُ ما لا يقبلُ الترجمة هو ما يدعو دَومًا لإنجازها.

الترجيحُ، في ضَوء الإشارات السابقة، آليةٌ كتابيّة مُلازمةٌ لإنتاج أيّ نصّ قبل أن تكونَ آليةً في مُمارَسة الترجمة. وهي، فضلًا عن ذلك، آليّةٌ قرائيّة تتمُّ، من موقع التأويل، حتّى داخل اللّغة الواحدة. فكلّ قراءة ليست سوى تأويلٍ يُقدِّمُ ترجيحًا ويحرصُ على دَعمه والاستدلال عليه، غير أنّ اللّغة تحتفظ دومًا بما يَجعلُ كلَّ ترجيح مُجرّد احتمال، على النحو الذي يُؤمّنُ دوامَ ما يُبقي الترجيحَ حيًّا، وما يمنعُ المعنى من الامتلاء. ومن ثمَّ، إذا كان الترجيحُ يتحقّقُ بوَصفه آليةً محكومة بعمليّات عديدة، فإنّه، في العُمق، أكبرُ مِن أن يُختزلَ في مُجرّد آلية. إنّه إرادةُ اللّغة، يَسري في اشتغالها. والوعيُ به، في مُمارَسة التأويل والترجمة، يَنتسبُ إلى منطقة فكريّة ديناميّة لا تكفُّ عن تفكيك الثبات والامتلاء والانغلاق.

رابط تحميل العدد كامل

مواضيع مرتبطة

فنّ لعب كرة القدم
ترجمة: عبدالله بن محمد 10 نوفمبر 2022
نسخة استثنائية في رحاب ثقافتنا
مجلة الدوحة 10 نوفمبر 2022
دموع الفوتبول
دموع الفوتبول 09 نوفمبر 2022
جابر عصفور.. التراث من منظور الوعي بالحاضر
حسن مخافي 07 سبتمبر 2022
القاضي والمتشرِّد لأحمد الصفريوي.. حين لا تكون الإثنوغرافيا سُبّة
رشيد بنحدو 02 يناير 2022
فيليب باربو: اللّغة، غريزة المعنى؟
ترجمة: مروى بن مسعود 02 يناير 2022
رسالة إلى محمد شكري: الكتابة بيْن الصمت والثرثرة
محمد برادة 02 يناير 2022
إشكاليةُ اللّغةِ العربيّةِ عندَ بعضِ الأُدباءِ والإعلاميين
د. أحمد عبدالملك 15 ديسمبر 2021
محمد إبراهيم الشوش.. في ظِلّ الذّاكرة
محسن العتيقي 01 نوفمبر 2021
بورخيس خَلَفًا للمعرّي
جوخة الحارثي 06 أكتوبر 2021

مقالات أخرى للكاتب

«والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي».. اِرتيابُ الحكاية في حدَثها ونِسبَتها
02 يناير 2022

تَتّخِذ رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي»(1) قيمتها من قيمةِ الأدب الأساسيّة ومن حَيويّته الوُجوديّة الضروريّة. فالأدبُ حارسٌ من حُرَّاس الارتياب، ومُؤتمَنٌ على عُمْقه. إنّهُ ارتيابٌ يُوسِّعُ مفهومَ الحياة، ويُمكّنُ المَعنى من بُعده اللانهائيّ ومن...

اقرا المزيد
دون كيخوطي.. من مجهول الكُتب إلى مجهول العَالَم
06 أكتوبر 2021

يبدو الأفق، الذي تفتحُهُ رواية «دون كيخوطي دي لامنتشا» للتأويل، كما لو أنّه متاهةٌ لا حدّ لأغوارها. وهي عُموماً صفةُ ما يَبقى ويدومُ في الكتابة وبها، أي الديمومة التي تؤمِّنها الكتابةُ بما تَهَبُهُ من إمكانات للتأويل والتمديد. فأراضي هذه الرواية، المُشرَعة...

اقرا المزيد
في نقد العباراتُ المسكوكة.. تصلّبُ اللّغة إفقارٌ للحياة
07 يوليو 2021

تُصابُ اللّغةُ بالشلَل مثلما يُصابُ الجسد، لأنّ للغةِ أيضًا جسدًا، كلّما تصلّبَ فيه طرَفٌ سرَى الموتُ كي يُجمِّد أطرافًا أخرى، على نحو يوسِّعُ مساحة الشلل، ويُهدِّد بموتِ اللّغة حتى وإنْ اتّخذ هذا الموتُ صورةَ حياة مُقنّعةٍ بتداوُلٍ مُفرط. فتداولُ التراكيب...

اقرا المزيد
عز الدين المناصرة.. الشعر في استجلاء التاريخ البعيد
26 مايو 2021

عاشَ الشاعر الفلسطينيّ عز الدين المناصرة (1946 – 2021) منفيًا عن أرضه مُبْعَدًا عنها، وهي المُفارقة التي تكشفُ عُمقَ الجُرح الفلسطينيّ بوَجه عامّ، وعمقَ غُربة الشاعر بوجه خاصّ. غربةٌ تردَّدت أصداؤها لا في نصوص الشاعر وحسب، بل أيضًا في حُلمه الأخير بأنْ «يُدفَنَ...

اقرا المزيد
الحياة بوَصفها حُلماً
15 فبراير 2021

تناولَ «بورخيس» في المُحاضَرة الثانية، ضِمن ما ألقاهُ من مُحاضَرات عامَي 1967 و1968، بجامعة «هارفارد» الأميركيّة، الأنماطَ الأصليّة أو النموذجيّة للاستعارة، وتوقَّفَ، وهو يَعرضُ هذه الأنماط، على النمطِ الأصليّ لاستعارةِ «عدِّ الحياة حُلماً». وفي سياق تأمُّل...

اقرا المزيد
رفعت سلام.. البحث عن مجهول البناء الشعريّ
10 ديسمبر 2020

استناداً إلى خلفيّته المعرفيّة، كان الشاعر المصري الراحل رفعت سلام (1951 – ديسمبر 2020) يَعي أنّ الشعر ليس جماهيريّاً ولا هو نقدٌ مُباشرٌ لِما لا يكفُّ يَحدثُ في الحياة وفي اليوميّ؛ كان يعي أنّ الشعر بحثٌ قادمٌ من المُستقبل بنبرة نقديّة، لكنّها ليْست هي ما...

اقرا المزيد
بيروت أو جروح الضوء!
30 أغسطس 2020

كانت الهزّات التي عرفَها لبنان وعرفتْها، بوَجه خاصّ، مدينة بيروت، مُنذ الحرب الأهليّة مُنتصَف سبعينيّات القرن الماضي وما تلاها من اجتياحات إسرائيليّة سافرة، تُضاعفُ جُروحَ ذاكرة المدينة، وتُضاعفُ، في الآن ذاته، الحاجة الدائمة إلى ضَوء الثقافة الحُرّ...

اقرا المزيد
«اِرتدِ قناعَك» الحياة بنصف وجه!
02 أغسطس 2020

لا ينفصلُ الإنسانُ عن وَجْهه، إذ به يتميّزُ وبه تتحدّدُ هُويّتُه، وقد تهيّأ الوَجهُ، انطلاقًا من تركيبته، لأن يكون مُضاعَفًا، على نحو جعلَ الإنسانَ منذورًا مُنذ البدء لأن يَعيشَ بوَجهيْن، لا بالمعنى القدحيّ الذي اقترَن فيه الوَجهُ بالنفاق، وبإظهار المَرء...

اقرا المزيد
غالب هلسا.. الكتابة بالحُلم
01 يوليو 2020

مِنَ الحُلم جاءَ غالب هلسا إلى الكتابة، التي انجذبَ، مُنذ الطفولة، إلى أسرارها. ما دوّنَهُ في هذا الانجذاب الطفوليّ الأوّل، الذي يَحتفظُ، دوماً، بغُموضه في حياةِ كلّ كاتب، كان مُستمَدّاً مِمّا رآه في الحُلم قبْل أنْ يَمزجَهُ، في البدْء، برَغبات الطفولة،...

اقرا المزيد
ضجرٌ لا كالضجر
02 يونيو 2020

ليس الضَّجرُ شعوراً مَقيتاً في ذاته، إنّهُ جُزءٌ مِنَ الحياة، إذ يَتمنّعُ تصوّرُها بدُونه، ما دامت حقيقةُ الحياة في تناقُضاتها، وما دامت هذه الحقيقةُ وُجوهاً مُتناقضةً لا وَجْهاً ثابتاً بمَلامحَ جامدة. الضَّجرُ شعورٌ إنسانيّ عامّ، لكنّ صيَغَهُ وحِدّتهُ...

اقرا المزيد
في زمن الجائحة
06 أبريل 2020

في مُقابل العَولمة، التي قامَت على إلغاء الحُدود وتمْكين خَصيصة العبور من التحكّم في نظام الحياة العامّ، فرضَ وباءُ كورونا المُستجدّ إقامةَ الحدود لا بَين البلدان وحسب، بل بين مُدُن البَلد الواحد، وحتى بين مكان المُصابين والمدينة التي فيها يُوجَدون، وبين...

اقرا المزيد