أحمد الصفريوي.. في مواجهة عبد الكبير الخطيبي وكاتب ياسين

| 30 سبتمبر 2019 |
ثاني اثنَيْن، إذ هما يبذران بذور «الأدب المغاربي المكتوب باللُّغة الفرنسية» في المغرب الأقصى. كتب عبد القادر الشطّ روايته المتواضعة «فسيفساء بلا لمعان»، ونشرها سنة (1932)، ونشر الصفريوي «سبحة العنبر» سنة (1949)، ثم نشر (النسر الطائر) إدريس الشرايبي، روايته الصاعقة «الماضي البسيط» سنة (1954) التي صعقت الأوساط الأدبية، والأوساط السياسية، وأذهلتها في كلٍّ من المغرب وفرنسا.. وساد الاعتقاد أن الصفريوي كاتب محافظ، لكن قراءة كتابات الرجل، بمعزل عن هذا الحكم السائد بلا سند، تكشف الجمر تحت الرماد. كان الصفريوي قليل الحديث، ونادراً ما يُجري حوارات. التقيت به ثلاث مرَّات: مرَّتَيْن في طنجة، وثالثة في الرباط، بدعوة منه.
فيما يلي، جزء من الحوار الذي دار بيننا، والذي تنفرد مجلّة «الدوحة» بنشره، لأوَّل مرّة:
قلت لي، ذات مرة، إنك كنت فرانكوفونيا قبل أن يصبح الفرنسيون فرانكوفونيين..
– كنت فرانكوفونيّاً لأنني حالما التحقت بالمدرسة رغبت في أن أقلّد، على الفور، معلِّمي. وأتذكَّر، وأنا صغير جدّاً، قبل التحاقي بالمدرسة أني ذهبت إلى حديقة عمومية رفقة أمّي، حديقة يوجد فيها حوض به سمك، وكان حارس الحديقة فرنسيّاً، فأردت أن أدهشه لمّا سمعته يتحدَّث، ورأيته يعبِّر بحركات، ولم أكن في ذلك الوقت أعرف أيّ كلمة باللُّغة الفرنسية. قمت واقتربت منه، وألقيت خطاباً عجيباً.
باللُّغة الفرنسية أم بالعربية؟
– أحاكي أصوات اللُّغة الفرنسية (ضاحكاً)، وقد تساءل: أليس هذا الطفل الذي يقلّد كلامه وحركاته مجنوناً؟، ثمّ طبطب على كتفي وأعطاني قطعة نقدية، فبدا لي، منذ ذلك الحين، أن معرفة لغة أجنبية، يدرّ دخلاً (ضاحكاً)، ولم أكن أعرف يومها أيّ شيء عن اللُّغة الفرنسية.. وهكذا، أوليت اهتماماً كبيراً باللغة الفرنسية، وقلت، بيني وبين نفسي، إنها باب الخلاص؛ فقد كنت أنتمي إلى أسرة فقيرة جدّاً، وكنت شرعت أفكِّر في وضع الأسرة، فقلت إن والدي أرسلني إلى الكُتّاب، وقد بلغت الثانية عشرة من عمري، وقد ألتحق بالقرويين، ثمّ ماذا بعد ذلك؟ هل سأصبح بائعاً صغيراً للطحين، أم أحفظ ما يتيسَّر من القرآن لقراءة آيات منه، على القبور؟. لن يكون والدي قادراً على إطعامي، يجب علي أن أتعلَّم لغة أجنبية…
رهانك على لغة المستعمر كان رهان المقامر الرابح، فقد مكَّنتك من الرقي الاجتماعي، ومن دخول حقل الكتابة، وترسيخ قدمك بين المبدعين. لماذا تكتب؟
– أكتب لأوجد، ولأخلِّص نفسي من الجهل، والفقر. كتبت لأقول للفرنسيين من نحن، وأصحِّح أكاذيبهم على أنفسهم، وعلينا، وعلى الغير من القرّاء، في حال ترجمة نصوصي.
كيف تقيِّم تجربة «الأدب المغاربي المكتوب باللُّغة الفرنسية»؟
– إنه قضيّة، يصعب الحديث فيها جدّاً. لقد قلت، دائماً، إنه يجب أن يكون هناك كُتّاب، وأن يكونوا أكثرية. لكن، هناك صنفان من الكُتّاب (سواء أولئك الذين يكتبون باللُّغة العربية، والذين يكتبون بالفرنسية)، كُتّاب لديهم ما يقولون، لكنهم يقولونه بشكل رديء، وهناك كُتّاب يكتبون جيّداً، لكن ليس لديهم ما يقولونه. ويمكن أن أذكّرك بأحسن تعريف للأدب؛ ما يعني أنه يجب أن تكون هناك أشياء يجب قولها، ويجب أن نقولها بشكلٍ جيّد. ويجب أن ألحّ كثيراً على طريقة الكتابة، وليس على ما نكتبه… بالأمس، قال لي أحدهم: «قرأ تلامذتي قصّة «الـحمّام» الواردة في «صندوق العجائب»، وقالوا: ماذا تقدِّم هذا القصّة؟ إنها لا تقدِّم شيئاً». فقلت له: اسمع. إنها مكتوبة بطريقة جيّدة، لأنني أعرف أنها مكتوبة بطريقة جيّدة، إنها تضيف شيئاً على المستوى الجمالي. ثمّ إنه، فيما يُستَقبّل من أيّام، سيختفي الحمّام، ثمّ إن الحمّام- كما رآه أحمد الصفريوي- ليس كالحمّام الذي رآه شخص آخر، وهذا ما يجب أن تفسِّره لتلامذتك. يمكن للكاتب أن يسترجع أيّ مضمون تمَّت معالجته من قبل، وإذا ما كان يتمتَّع بموهبة حقيقية فسوف يكون قادراً على تشبيع ذلك المضمون، وإغنائه، والإضافة إليه.
هل يمكن الحديث عن إعادة الاعتبار للصفريوي؟
– بالطبع، بالطبع. فمن الأكيد أن الوضع قد انقلب على عكس ما كان عليه في السابق؛ وهذا أمر جيّد، وإشارة طيِّبة. في الجزائر، لمّا نشرت رواية «بيت العبودية»، والتي لم تُنشَر هنا، في المغرب، طلبت الجامعة أعداداً كثيرة من الكِتاب، لكنها لم تتوصَّل بها، طبعاً، لأن شكل طبع الجزائريين للكتاب كان يدعو للرثاء، فقد صدر في طبعة رديئة، ومن دون استشارتي، ومن دون تصحيح النسخة. وقد كان في نيَّتي تغذية هذا الكتاب بإضافة جزء ثالث. في البداية، قرَّرت أن يشتمل الكتاب على ثلاثة أجزاء، لكن صدر منه جزءان، فقط، ولكنني سأعيد نشره في ثلاثة أجزاء، وسيكون حال الكتاب، في المرّة القادمة، أحسن من الطبعة الحاليّة. وكان هناك عقد جيّد يربطني بالجزائريِّين، لكنهم لم يحترموا عهدهم، ولم أحصل على أيّ (سنتيم) بعد نشر هذا الكتاب، وسأعيد نشر هذا الكتاب في مطبعة «لارماتان» (الفرنسية)، أيضاً، على غرار الحكايات التي بعثتها لهم، أيضاً.
وقد كان الناقد «مارك كونطار» أوَّل مَنْ نَدَّد بالصمت المضروب حولي، أو بهذا الكفن الذي لفَّني به كثير من الكتّاب والنقَّاد. إنه الوحيد الذي تجرَّأ وصدح بذلك الرأي، لأوَّل مرة، ثمّ كان هناك لحْسَن موزوني وفريق آخر من النقَّاد. بعد ذلك، شرع الطلبة يهتمّون بأدبي. كلٌّ كان يهتمّ بالجانب الذي يعنيه أكثر، وبما يناسب مستوى ثقافته، فهناك من عُنِي بالغوص وراء ما يوجد في أعماق الكتاب، وهناك مَن اكتفى بالعناية بالشكل، والوصف.
ما ظروف كتابتك لنصَّيْك الرئيسيَّيْن؛ أقصد كتابَيْك: سيرتك الذاتية «صندوق العجائب»، ومجموعتك القصصية الأولى «سبحة العنبر»؟
– بالنسبة إلى «سبحة العنبر»، كتبتها لأن الحرب كانت على أشدّها، سنة (1941)، وكانت كتب وجرائد ومنشورات كلّ النخبة الفرنسية، الموجودة- خاصّة- في الجزائر، قد بحثت عن ملاذ هناك، وأحاطت بالناشر الذي سيشغل مدير المركز الثقافي الفرنسي في طنجة، فيما بعد (متذكّراً الاسم).
تقصد «إدمون شارلو»؟
– (مقاطعاً) نعم، أحاطت بمطابع «شارلو»، وكانت هناك جريدة عنوانها «TAM»، أي تونس، والجزائر، والمغرب لتغطية أخبار المغرب العربي. شرعت أكتب، في البداية، مقالات في هذه الجريدة، ثمّ أنشر فيها حكاية كلّ شهر. وعندما تطلب مني مجلّة أو غيرها نصّاً، كنت أكتبه لها. وقد تجمَّع لي خمس أو ستّ قصص نُشِرت في مجلّات وجرائد مختلفة، عدا القصص التي سيشملها الكتاب أو المجموعة، ثمّ جمعت كلّ تلك الحكايات، عندما تَمَّ الإعلان عن جائزة المغرب، وبعثت بالمُسَوَّدة، مُسَوَّدتي. وقد أثار الأمر استغراب الفرنسيِّين، فلم يحدث، إطلاقاً، أن حصل مغربيّ على جائزة المغرب (تنظّمها سلطات الحماية الفرنسية، يومها). لابدّ أنه كان للأمر وقع الصدمة الأولى عليهم.
(مقاطعاً، لاستقصاء رأيه في الأمر) قد يكون للأمر، أيضاً، ما يبيح التفكير في ضرب آخر من المقاومة.
– (غير راغب في التعليق، ومسترسلاً في سرد الوقائع) قد يكون ذلك.. بالطبع، بدأت أحصل على التهاني من جهات مختلفة، وتوصَّلت- خاصّةً- برسائل من الناشرين يطلبون فيها مني أن أبعث إليهم بمُسَوَّدتي «لتصفُّحها، ولقراءتها». وهكذا، طلب مني الناشر «جيليار – Julliard»، ولم ألتمس منه ذلك إطلاقاً، نشرَ الكتاب، فصدرت الطبعة الأولى منه سنة (1949)، وقد حاز كتاب «سبحة العنبر» نجاحاً منقطع النظير، إذ كتبت عنه أكثر من أربعمئة مقالة، ثمّ حصل، فجأةً، على جائزة هي «جائزة رئيس الجمهورية». الرئيس هو «أوريول» الذي كان أسَّس هذه الجائزة. وفجأةً، أصيب رجال «الشؤون الأهلية» بالذعر والجنون، فاتَّصلوا بي، ليلاً، ليقولوا لي: «يجب أن تجيء إلى باريس لتحصل على جائزتك، ويسلِّمها لك رئيس الجمهورية شخصياً». لم يكن عندي جواز سفر (ضاحكاً)، فأخبرتهم بالأمر، فقالوا لي: «تحصل عليه في رمشة عين». حصلت عليه يوم الغد، ثم سُلِّمت إليَّ تذكرتا الذهاب والإياب، وهأنذا أمتطي الطائرة في اتِّجاه «باريس» للقاء المسيو «أوريول»، رئيس جمهورية فرنسا، الذي دعاني إلى شرب القهوة معه. وعندما وصلت إلى قصر «الإليزيه»، كان كلّ أعضاء اللجنة الذين منحوني الجائزة حاضرين. كان معظم الأعضاء من الأكاديميِّين، ومن بينهم الماريشال «جوان» (مقيم عام في المغرب، 1947 – 1951) لأنه أكاديمي، أيضاً. لقد كانت تلك اللحظة تاريخية. وأنا أنزل من قصر الإليزيه عشت الشهرة الحقيقية: كان هناك صحافيّون، وأصحاب كاميرات، ومصوِّرون، وجنود.. وقد أحسست بالخوف من كلّ ذلك. نسيت أن أقول لك إنني لمّا وصلت إلى باريس وجدت سيّارة خاصّة بي، في انتظاري مع ممثّل فرنسي.. حدث حقيقي يثير الخوف في قلب أيّ إنسان، وقد أعقب كلّ ذلك حوارات يومية للإذاعة وللتلفزة، ثم نداءات عبر الهاتف. كلّ ذلك أرعبني، ولم أقدر على تحمُّله، ولست رجلاً من تلك الطينة التي يعجبها كلّ ذلك. ولمّا عدت إلى البلد، إلى المغرب.. قضيت سنتَيْن من دون أن أكتب أيّ شيء؛ خوفاً من أن تكون هناك عواقب أو تبعات.
عواقب سياسية؟
– لا أقصد الإزعاج. تعلم أنني شخص هادئ، وأحبّ أن أبقى في بيتي. لا أحبّ أن أعرِّض نفسي لألاعيب الحياة الاجتماعية القائمة على البهرجة. هذا أمر غير ممكن لأنه لا يتوافق مع طريقة عيشي، مع حياتي. باختصار: لم أكن أرغب في الشهرة، وانقطعت عن الكتابة مدّة طويلة، ثم قلت لزوجتي، ذات يوم: «سأعود إلى الكتابة.» وكتبت «صندوق العجائب». عانيت صعوبة كبيرة قبل الشروع في كتابة «صندوق العجائب»، لكني ما إن بدأت كتابته حتى استعدت عافيتي؛ فقد كتبَ إليَّ صديقي «إيمانويل روبلس» (الروائي الفرنسي)، قائلاً إنني أنشأت سلسلة تدعى «كتابات متوسِّطية»، وكنت على علم بوجودها، تابعة لدار نشر «السوي»، وما تكتبه يوافق ما أقوم بنشره ضمن السلسلة. فبعثت إليه بـ«صندوق العجائب» فنشرها. وبعد سنة- تقريباً- كتب إليَّ قائلاً: «ألا ترغب في إعادة نشر «سبحة العنبر»؟ لأن دار «جيليار» لم تقم بأيّ جهد إشهاري لدعم الكتاب.. فقبلت، مقترِحاً إضافة قصص أخرى، وحذف مقدِّمة «فرانسوا بونجان». وقد كان الأمر صعباً جدّاً لفسخ العقدة الخاصّة بـ«سبحة العنبر» بيني وبين دار «جيليار»، وتطلَّبَ الأمر وقتاً طويلاً. فسخت العقدة، وذهبت إلى دار «السوي»، لكنهم هناك غضبوا مني، حيث خاب ظنُّهم فيَّ؛ لأنني لم أنشر عندهم أيّ نصّ آخر، ولم أكتب أيّ شيء آخر يمكن أن يوافق السلسلة التي تشرف عليها الدار. بعثت إليهم بكتابي «بيت العبودية»، فتوصَّلت برسالة متحمّسة جدّاً من «إيمانويل روبليس»، يقول فيها: «هذا كتاب رائع».. وغير ذلك.. فاعتقدت أن الأمر انتهى، وأن الكتاب سيرى النور هناك. لكني، بعد أيّام تلقَّيت رسالة، من مصدر آخر، ممّا جاء فيها «إن لجنة القراءة تطلب منك أن تغيِّر كذا وكذا، وتضيف شخصيّات من النوع الفلاني»، فقلت بيني وبين نفسي: «هذا الصنف من لجنة القراءة أستصغره، ولا يهمّني التعامل معه»، فطلبت منهم إعادة المُسَوَّدة، ثم قطعت علاقتي مع دار «السوي». وضعت المُسَوَّدة في درج من مكتبي، قائلاً في نفسي: سأنشرها ذات يوم. في تلك الفترة كنت منشغلاً جدّاً بالندوات واللقاءات الخاصّة بعملي حول المباني التاريخية، وإذا بي أجد نفسي في الجزائر العاصمة. هناك، التقيت بمالك حداد سنة (1963)، فيما أعتقد، فعاتبني قائلاً: «لماذا لم تعد تكتب؟». فقلت له إنني منشغل جدّاً بالمجال الذي هو موضوع زيارتي، ولكنني أتوفَّر على مُسَوَّدة. حكيت له قصَّتها، ثمّ قلت له إذا كان الأمر يهمّك فسأبعثها لك لقراءتها ومعرفة رأيك فيها، ثمّ- فيما بعد- قد نفكِّر في النشر. بعثت إليه بمُسَوَّدة «بيت العبودية»، ولم أتلقَّ خبراً مدَّة ستّة أشهر، وهي مدّة كافية لكي يلقي نظرة على النصّ، ثمّ كتبت إليه رسالة أقول فيها: «قل لي رأيك في الكتاب، وابعث إليَّ بالمُسَوَّدة». فكتب إليّ: «إنها توجد في الـ(S N E D)، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، فقد سلَّمتها لها، مباشرةً». كتبت إلى الشركة قائلاً: «إن مالك حداد قد سَلَّمكم مُسَوَّدة لي. هل قرَّرتم نشرها؟».. توصَّلت بالرسالة، وكان الجواب: «لقد تَمَّ طبع الكتاب». قلت لهم: «مستحيل! والشروط؟». كتبوا لي: سنرسل لك عقدة. بعثوا لي عقدة، بعد شهر، وكانت رائعة حقّاً (نظرياً)، لكن.. لم يبعثوا لي المُسَوَّدات لتصحيحها، ولم يناقشوا معي شكل الكتاب ولا ألوانه ولا حجمه.. وبعد أيّام توصَّلت بعدد من النسخ. لم يعجبني الأمر طبعاً، فكتبت إليهم، وكان ردُّهم: «سنعنى بكلّ هذه الأشياء في الطبعة الثانية، لكننا قد بعثنا لك (شيكاً) مقداره كذا»، ولم أتوصَّل بأيّ (شيك)، وقد اختفت دار النشر تلك (ضاحكاً)، ويجب عليَّ أن أقوم بنشر كتاب «بيت العبودية». حتى الآن، لم ينشر الكتاب، فقد صحَّحت ما نشروه من أخطاء، وأضفت بعض الأشياء، وأنتظر صدور الحكايات لأتبعها بكتاب «بيت العبودية»، بعد أن أعدت فيه النظر، وصحَّحته.
البعض يتحدَّثون، في كتاباتك، عن الغرائبية، ويبدو لي أنك عندما تستعمل الدارجة المغربية، وتشرح معناها للقارئ الأجنبي، كأنك تريد أن تفرض هويَّتنا على الآخر، وتجعله يعترف بها/بنا كما نحن.. ومنه المستعمر.
– تماماً، بالضبط. وقد سألني كثير من المغاربة: لماذا يبقى وجود الأجنبي منعدماً في نصوصك؟. أولاً، يتعلَّق الأمر بنفي أو رفض أو إنكار لوجود الأجنبي، و- ثانياً- من الوجهة الجمالية الصرف، نرى الكتاب مثل اللوحة يجب أن يكون له أسلوب، ثم إنه لا يمكنني أن أرى، فجأةً، داخل مسجد، شخصاً غربياً. يجب أن يكون هناك صفاء في الأسلوب. كتاباتي تدور داخل المدينة القديمة، داخل البيوت.. فلماذا نتساءل: آه، لماذا لا يوجد الفرنسيون، هناك؟ لايمكن أن نراهم! لأننا نحن- المغاربة- لم نكن نراهم.
يتمّ الحديث، بصدد كتاباتك، عن الطابع الغرائبي، ويراد به نقد كتاباتك لا التعبير عن الحضور البريء والإيجابي لهذا الطابع، وهناك، اليوم، عودة أو استعادة لتيمة الغرائبي في الرواية الأميركية اللاتينية، مثلاً، وفي النقد.
– طبعاً، تماماً. وقد سمّوا ذلك بالخيال، لكن الأمر- بالنسبة إلينا- لا يتعلَّق بالخيال، بل يتعلَّق بالحياة اليومية، والطابع العجائبي جزء من هذه الحياة، وإلّا كانت الحياة صعبة وموحشة ومتموِّجة، ولن تعرف تلك النعومة والطابع المخملي اللذين يضفيهما العجائبي عليها. ثم إن للعجائبي دلالاتٍ كثيرة؛ فعبر توظيف العجائبي يمكن أن ترسل رسائل عدّة أكثر ممّا يمكنك نقل الحياة اليومية من إرسالها.
قد تكون هذه الأشياء هي التي سمحت لي بأن أسألك: هل يمكن الحديث عن إعادة الاعتبار للصفريوي؛ ذلك أن معطيات جديدة تَمَّ اكتشافها، عند آخرين، في الآداب العالمية، وكان لها حضور في أدبك، وكان حضورها في كتاباتك موضوع انتقاد؟
– بالضبط، تماماً. مثلاً، عندما أتحدَّث عن الحياة اليومية يقال إن الأمر يتعلَّق بالإثنوغرافيا وبالفلكلور، وعندما يتحدَّث كاتب ياسين عن الحياة اليومية في «نجمة»، وهذا يحدث في روايته هذه، يقال إن ذلك شيء مبتكر وعبقري.
قد يعود الأمر، في حالة كاتب ياسين، إلى الحضور السياسي في كتاباته وإلى الالتزام، أيضاً.
– (مقاطعاً) بالتأكيد، بالتأكيد. ثم إنه عثر على ناقد يسانده، ويدعمه هو «جان ديجو»، هذا القسّ المزيَّف، لأنه قسّ مزيَّف، حقيقة، وليس قسّاً حقيقيّاً. إنه كان يساند الكتّاب الجزائريين قبل أن يساند الكتّاب المغاربة، مبدئيّاً؛ لأنه كان يقيم في الجزائر، ويعيش فيها، ثم تمّ تمجيد كتابات كاتب ياسين وصحبه. قبل قليل، كنت أودّ أن أشير إلى رشيد بوجدرة، وهو أكثر رزانةً وجدِّيّةً، ولو أنه بدأ يتراجع عن ذلك، مؤخّراً، عندما شرع يكتب أو يقوم بتجارب تخصّ الكتابة باللُّغة الدارجة، ولم يتابع مشواره الجدّي والرزين في الكتابة، بالطريقة التي يكتب بها.
كيف تبدو لك هذه التجربة التي أقدم عليها بوجدرة؟
– يبدو لي أن الأمر مثير للرثاء. إن لبوجدرة أشياء قويّة ليقولها، فليقلها بالطريقة التي دأب على قولها بها؛ فبين يديه وسيلة هي التي تبلِّغ ما يريد قوله.
لكن، يبدو أن هناك مبرّراً لإقدامه على ما أقدم عليه؛ وهو أن معظم مواطنيه لا يعرفون تلك اللُّغة، وهو يشعر، في أحضانها، أنه منفي.. ألا ترى أن هذا الأمر جدِّي؟
– لا أراه جدِّيّاً، البتة. تعلم أن لكلّ واحد مهنته؛ المدّاحون، الشعراء الشعبيون الذين يبدعون بالعامِّيّة، لا يعرفون لغتنا. إنهم يقومون بتطويرها وتعميق البحث فيها لأنهم يعبِّرون بها. فكلّ شخص يكتب قصيدة، باللُّغة العامّية، يكون أرقى تعبيراً من شخص آخر يريد أن يتميَّز فيفعل مثله، بشكلٍ إرادي. هذا غير ممكن، لأوضِّح الأمر أقول: هناك كتاب باللُّغة العامّيّة، وهناك كتاب باللُّغة الفرنسية مثل بوجدرة، وآخرين. لكلّ واحد مهنته.. طريقة تعبيره.
كأني بك معجب بأعمال بوجدرة، ومقدِّر لها!
– بوجدرة.. نعم، أقدّر أعماله لأنه يكتب أعمالاً جيّدة، لا يمكن إنكار ذلك.
وكاتب ياسين؟ كلّ النقَّاد الكبار والقرّاء الحقيقيين يقدِّرون روايته «نجمة»، ويعتبرونها عملاً رائعاً.
– لا، لا..
أعتقد أنها عمل رائع، حقّاً.
– لا أحد منّا كتب عملاً يمكن تصنيفه بكونه رائعاً. كن مرتاح البال.
تحدَّثت، قبل قليل، عن الجانب الشكلي، وكلّ الذين درسوا- بجدِّيّة- «نجمة» لاحظوا فرادة شكلها الذي استفاد كثيراً من تقنية الرائد «وليام فولكنر».
– لكن هذا الأمر ليس تلقائياً، وهو ما أشرت إليه، من قبل، التلقائية، وكتابة الذات، لا التقليد، واقتفاء أثر الآخر.
عندما نقارن بين كتابة جيلك، أي كتابتك لأنك- بمعنى من المعاني- مؤسِّس أو رائد، («هذا صحيح» يعلِّق الصفريوي) وجيل الخطيبي، نلاحظ أنك تبقى حِرفيّاً، صانعاً.
– بالتأكيد، بالضبط.. وابن حِرفيّ، وكتبت عن مجتمع الحِرفيِّين..
الآخرون يبقون تقنيِّين لأنهم يعنون عناية قويّة بالجانب الشكلي؛ لذلك قد تخلو كتابتهم من القبض على عناصر من روح بلدهم.
– من حظّي أنني لم أكن جامعياً، مثلما هناك كتّاب فرنسيّون كبار غير جامعيِّين، منهم «برنادوت»، بينما الآخرون متأثِّرون جدّاً بالنقد الذي يُكتب عنهم، أو عن زملائهم، يأخذون به، ويتبعون تعاليمه، ثم إنهم يقرأون، ويريدون أن يعكسوا، في كتاباتهم، قراءاتهم. أنا أقرأ كثيراً، باستمرار، لكنني أقرأ كفنّان؛ ومعنى ذلك أنني أقرأ بوعي، وأعنى بالشكل وطريقته، لكنني لا أقرأ كتقني، أو لأتبع صرعة أدبية أو أنقلها.. كلّ ما في الأمر أن لي أشياء، أريد قولها، وأقولها بطريقتي الخاصّة، وأختار لها الشكل المناسب، وأعتقد أن هذا المعنى هو الذي ذهبت إليه في ملاحظتك. لن أذهب مذهب «جورج سيمونون» الذي قال: «لا ينبغي أن يتمتَّع الكاتب بأيّة ثقافة ليقدر على الكتابة»، وقد كانت ثقافته متواضعة، لكنه أبدع عدّة شخصيات، وخلق عدّة أجواء ومناخات.
(مقاطعاً) وكتب كمّاً هائلاً من الروايات، عدد منها كان ساحراً..
– (مقاطعاً) بالفعل، وقد تقاعد الآن، لأنه تجاوز الثمانين حولاً، ولم يعد يكتب. هو، الآن، شيخ يتنقَّل على متن كرسيّ متحرِّك، وهو وضع يثير الشفقة بالنسبة إلى كاتب من عيار «سيمونون». وقد أخذ المشعل بعده، في فرنسا، الآن، «فريديريك دار» (سان أنطونيو)، الذي ينشر كتباً بإيقاع غير مألوف، تماماً، وثقافته متواضعة جدّاً.
لو عدنا إلى الانتقادات التي وُجِّهت إلى كتاباتك، يقال إن كتاباتك تُشيع مناخاً من الخضوع.. ألاحظ أن ما سمِّيَ عندك (بنزعة الخضوع) قد غطّى على شعرية سرودك، بينما غياب الخضوع وسيادة خطاب الغضب، في نصوص إدريس الشرايبي، وضعاه في موقع متقدِّم، وجعلاه يستقطب الاهتمام؛ الأمر الذي جعل نصوصكما تمثِّلان عالمَيْن متناقضَيْن.
– جعل ذلك الوضع، من الشرايبي، نجماً، بالتأكيد، في الغالب الأعم. ردّ الفعل ذلك، المتميِّز بالشوفينية هو مصطنع، يتبعه الإنسان لأنه يجاري صرعة معيَّنة أو يظهر مزاياه أو ليدَّعي لنفسه مزايا لا يملكها، ولا يسلم الكُتّاب المعاصرون من ذلك، لا يسلمون ممّا يحيط بهم، ولا من المضيّ في طريق تحقيق ما صمَّموا عليه. فالكاتب سرحان عبد الحقّ الذي حكى- مثل مولود فرعون- قصّة قريته، يعمد إلى إضافة مشاهد جنسية، عن قصد، للَفْت انتباه القرّاء؛ ليُقبِلوا على النصّ، فيصبح الأمر مفتعلاً، وفي غير محلِّه. وقد قلت له إن هذا الابتذال لا يضيف أيّة قيمة إلى النصّ، بل قد ينتقص من قيمته.
يمكن النظر إلى كتابات الصفريوي، وكتابات الشرايبي من زاوية تكاملهما في تقديم صورة عن المغرب، لا النظر إليهما على أنهما يمثِّلان عالمَيْن متناقضَيْن.
– بالفعل، هما عالمان متكاملان. وهناك وجوه مختلفة للمجتمع، وكلّ واحد منا يقدِّم وجهاً معيَّناً ومختلفاً للمجتمع ذاته، وللحياة ذاتها.
هل يمكن أن نقول إن كتاباتك هي ردّ فعل على الصورة التي يقدِّمها الأدب الفرنسي عن المغربي أو العربي، وقد يمكن اعتبار تمجيد المغرب التقليدي، في نصوصك، تمجيداً للأصالة، والخصوصية، والروح الجماعية والتضامن، وعبق التاريخ، تلك التي حاربها المحتلّ؟
– نعم، فهناك ذلك الفرنسي الذي اشتمَّ شيئاً عميقاً جدّاً في المجتمع المغربي، وخاف منه.
(مقاطعاً) مِمَّ خاف؟
– خاف من تلك القيم التقليدية، الثابتة، الراسخة رسوخ الجبل. وهكذا، أحسّ الفرنسيون بأنفسهم أجانب في بلدنا. وقد حاول كُتّابهم أن يطمئنوهم قائلين إن تلك القيم ليست شيئاً ذا بال. كلّ ما هنالك هو المواقع الرائعة، والجمال الغرائبي.. وعندما نتعمَّق في الأمر لا نجد شيئاً. وأنا أقول العكس، تماماً؛ قد تكون هناك المواقع الرائعة، وعندما ننقّب ونتعمَّق في الأمر، نجد أشياء عميقة جدّاً، ومتعدِّدة؛ وهذا ما كان يهمُّني جدّاً، لا أحبّ أن تكون الشخصيات بسيطة وساذجة، لكنها شخصيات مهمّة جدّاً وأصيلة. نعم، أصيلة. عندما أقدِّم شخصية نسَّاج، فلأنه إنسان ذو قيمة، على المستوى البشري وعلى المستوى الروحي. إنه يمثّل شيئاً مهمّاً، الحقيقة يمكن أن يجسِّدها رجل بسيط يصنع النعال، أو أيّ إنسان مهما كان مظهره الخارجي بسيطاً، ولا يعكس المظهر الخارجي شيئاً عن حقيقة هذا الرجل الذي هو حكيم حقيقي.
تنعت كتاباتك بالإثنوغرافية والغرائبية، للانتقاص من قيمتها!
– أعتقد أن الأدب الغرائبي هو الأدب الذي كتبه فرنسيون، أولئك الذين يكتبون عن بلد لايعرفونه، ولا يعرفون ما يموج في داخله. وهم غرباء عن الإنسان الذي يكتبون عنه، وعن الأرض، والتاريخ، والدين… جميعاً. والغرائبية تعني- بكلّ بساطة- البعد الخارجي، والمواقع الرائعة والمثيرة، والشخصيات الشاذّة أو الغريبة كالگرّابَة (مفرد: گَرَّابْ وهو بائع الماء الذي يحمل قربة) والسُّقاة في الساحات العمومية.. وقد قدَّمت شخصيات مثل هذه: گرّابة، ورواة قصص في الساحات العمومية لكن من الداخل، وبطريقة مختلفة تماماً؛ معنى ذلك أننا نتعرَّض، بنوع من العمق، لنفسية هذه الشخصيات، ونشير إلى دلالاتها ورموزها. لعلّ وجود كُتّاب من أبناء البلد، باللُّغة الفرنسية، يعود- أساساً- إلى مقاومة هذا الأدب الغرائبي. في البداية، كنّا نقرأ ما يكتبه هؤلاء الأجانب عنّا، وكنّا نلاحظ أن تلك الكتابات تشوِّه واقعنا، وأن واقعنا يختلف عن مضمون تلك الكتابات، وأن هؤلاء الكتاب لم يفهمونا، واستبدَّت بنا الرغبة في أن يعرفونا جيّداً، وأن يفهمونا جيّداً، لأننا لسنا، فقط، كما يقدّمنا هؤلاء الكُتّاب الأجانب (حتى الذين سَلمَ قَصْدهم). أمّا الذين ساءت نيَّتهم فلا نتحدَّث عنهم.. وبدأنا نكتب، لنعرِّف الفرنسيين: من هو المغربي، وما معنى المسلم، وما الحكمة التي تلفّ حياة الكائن المغربي، وما أبعاده الروحية التي لا يدركها كاتب الامبراطورية الاستعمارية.. وكان هناك، أيضاً، كُتّاب متميِّزون، (من الفرنسيِّيْن)، موهبتهم لا جدال فيها، كالإخوة «طارو» الذين كتبوا عن المغرب كتباً عدّة.. لكن، تبقى هناك مسافة بيننا وبينهم: هم ينظرون إلينا كأننا حيوانات، يدرسوننا كأننا حشرات، وحتى عندما يدركون بعض الحقائق الخاصّة بنا، فإنهم يؤوِّلونها تأويلاً غير صحيح. لقد أردنا مقاومة هذه النزعة، وهذا الواقع، وهذا في رأيي يوضِّح من نحن، لذلك فإن كتب الكتّاب المغاربة، باللُّغة الفرنسية (كما درج على تسمية ذلك التيّار)، هي كتب تتَّخذ شكل شهادات، وهي موجَّهة إلى قرّاء الخارج، إلى الفرنسيين خاصّة، وعبر الترجمة إلى قرّاء دول أخرى. إن كتابتنا ليست بحثاً عن هويَّتنا، فهويَّتنا ثابتة؛ ذلك أننا مغاربة، ونحن مَنْ نحن، وليس هناك شيء تغيَّر في هويّتنا. لكن، مادام الآخر لا يرانا بشكل موضوعي، فقد حاولنا- بلغته- أن نفسِّر له من نحن، هذا من جهة، و- من جهة ثانية- دفعنا إلى الكتابة أمر آخر: هؤلاء الفرنسيون، الذين كانوا يتجاهلوننا، وقد تملَّكوا، وعرفوا- عبر الإعلام- من نحن، أو ما يعتقدون أنه نحن. وقد رغبنا أن نؤكِّد لهم، ونجعلهم يدركون أننا نحن- أيضاً- نعرفهم، لأننا نعرف لغتهم، ونعرف أدبهم، ونعرف عقليَّتهم، و- بالنتيجة- يجب عليهم أن يتعاملوا معنا، بطريقة مغايرة تدرك الإنسان فينا، وهذه خطوة أولى في طريق الاعتراف بوجودنا، وهذه خطوة تقول لهم: حذارِ.. فقد كنتم، حتى الآن، تتعاملون معنا ومع عقليَّتنا بنوع من الفضول، وتصرَّفتم، نتيجة ذلك، بنوعٍ من الأبوية، وقلتم في أنفسكم: «نعم، إننا نعرف أبناء البلد، الآن». لكنكم لا تعرفوننا بما فيه الكفاية، لأنكم وضعتم بين أيدينا- بالرغم منكم- أداة خطيرة، هي لغتكم الخاصّة، وعبر لغتكم يمكن أن نزعم أننا نعرفكم- أيضاً- جيّداً.
وهذا نوع من التناقض الداخلي الذي يقع فيه المستعمر..
– (مقاطعاً) بالطبع؛ لذلك لمّا شرع عبد الكبير الخطيبي وصحبه يتحدَّثون عن كتاباتي قائلين إنها مجرَّد إثنوغرافيا، كتابة سطحية وإلى غير ذلك من هذا الكلام.. لم يدركوا أن المعنى الحقيقي للأدب هو أنه أدب يتمتَّع بمستويات عدّة، فهناك جانب يمكن أن يدركه معظم الناس، بمن فيهم الأطفال الذين لا ينبغي أن يُحرموا من أيّ صنف من الأدب، وهناك جانب عميق، الجانب الذي يدرس الروح المغربية، والروح المغربية موجَّهة- بشكل نهائي، ومنذ عهد بعيد- نحو البعد الروحاني، الديني، وهذا هو البعد الذي أردت أن أعكسه في «صندوق العجائب»، وفي «سبحة العنبر»؛ لأن كلّ حركة في حياتنا هي حركة روحانية، مقدَّسة: تصوُّرنا لبيئتنا ولمحيطنا، مثلاً؛ لذلك نقول إن مدينة فاس مدينة مقدَّسة، ومعنى ذلك أنها روحانية مع دلالة واضحة ترى أن جزءاً منها هو مركز العالم، وهو جامعة القرويين؛ أقدم جامعة في العالم. كلّ شيء في حياتنا روحي، موجَّه نحو الداخل، تصورنا لبيوتنا يقوم على أنها ليست لها واجهة؛ لسنا في حاجة إلى رؤية الآخر لنا، وكلّ واحد منا في بيته الخاصّ به، وكلّ واحد منّا لم ينسَ أن يُوجِد لنفسه جزءاً أو قطعة من السماء، يظلّ على اتِّصال به، لكلّ منا (سماؤه) الخاصّ (يقصد بَهْوَ الدور التقليدية المطلّ على السماء)، لا ينبغي أن ننساه أبداً، أو ننسى علاقتنا به. بينما يقوم التصوُّر الغربي للبيت على حماية النفس من البرودة، ثم الواجهة التي تعكس بعض ما يوجد في الداخل. في حين أن أدوات التزيين، عندنا، نحن- المغاربة والعرب والمسلمين- توجد في الداخل، ولا تنعكس في الخارج.. (موجِّهاً أصابعه نحو الزليج الذي يزيّن جدران القاعة التي كنّا نجلس بها). انظر- مثلاً- إلى هذا الزليج الذي أمامنا، إن له دلالة تجريدية، لكنه- في الآن ذاته- يمثِّل نوعاً من التكرار كنوع من الذكر، يحيل على عالمنا الروحي الذي لا تدركه عين الأوروبي. كلّ شيء له دلالة، كلّ شيء له صدى؛ رجع خاصّ، على المستوى الروحي.