أدب الأوْبِئة.. فواجع الاستشراف!

أدب الأوْبِئة.. فواجع الاستشراف!  |  03 أبريل 2020  |  

يَحبْل‭ ‬الأدب‭ ‬الأميركي‭ ‬بروايات‭ ‬اتخذت‭ ‬من‭ ‬الأوبئة‭ ‬والجوائح‭ ‬موضوعاً‭ ‬لها؛‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬رواية الطاعون‭ ‬القرمزي‮ ‬‭(‬الصادرة سنة‭ ‬1912‭)‬‮ ‬للكاتب‭ ‬‮«‬جاك‭ ‬لندن‮ ‬Jack London‮» ‬تجري‮ ‬أحداث‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬الاستشرافية‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬2073؛‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬حمّى‭ ‬نزفية‭ ‬عالمية‭ ‬قد‭ ‬انتشرت‭ ‬كالنار‭ ‬في‭ ‬الهشيم‭ ‬منذ‭ ‬سنة‭ ‬2013،‭ ‬حتى‭ ‬إنها‭ ‬قضت‭ ‬على‭ ‬أغلب‭ ‬سكّان‭ ‬المعمور‭. ‬لذلك‭ ‬سيصبح‭ ‬هذا‭ ‬الطاعون‭ ‬بمثابة واقعة‭ ‬تاريخية‭ ‬فارقة،‭ ‬يتخذها‭ ‬من‭ ‬نجى‭ ‬منه‭ ‬كفاصل‭ ‬بين‭ ‬عالم‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الطاعون؛‭ ‬العالم‭ ‬المتمدّن‭ ‬والمتحضّر،‭ ‬وعالم‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الطاعون،‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬تكاد‭ ‬فيه‭ ‬الحضارة‭ ‬الإنسانية،‭ ‬والتقدُّم‭ ‬المعرفي،‭ ‬والتطوّر‭ ‬المجتمعي‭ ‬أن‭ ‬يندثر؛‭ ‬فيحاول‭ ‬من‭ ‬تبقّى‭ ‬إنقاذ‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬إنقاذه،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬ما‭ ‬يتذكَّرونه‭ ‬عن‭ ‬عالم‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الطاعون‭ ‬يبدو‭ ‬لهم‭ ‬وكأنه‭ ‬مجرَّد‭ ‬وَهَم‭ (‬فالطاعون‭ ‬حسب‭ ‬الرواية‭ ‬انتشر‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬لحوالي‭ ‬ستين‭ ‬سنة‭). ‬يأخذ‭ ‬أستاذ‭ ‬عجوز‭ ‬على‭ ‬عاتقه‭ ‬مهمّة‭ ‬ضمان‭ ‬استمرارية‭ ‬الحضارة‭ ‬الإنسانية‭ ‬وإحياء‭ ‬ثقافتها،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ما‭ ‬كان‮ ‬يحكيه من‭ ‬ذاكرته للأطفال‭ ‬الصغار؛‭ ‬علَّ‭ ‬الإنسانية‭ ‬تنبعث‭ ‬من‭ ‬رمادها‭.‬‮  ‬

ولم‭ ‬تنفك‭ ‬روايات‭ ‬مواطنه‮ «‬ستيفن‭ ‬كينغ‮ ‬Stephen King‮» ‬تُبهر‭ ‬العالم‭ ‬بتنبؤاتها‭ ‬التي‭ ‬تمحورت‭ ‬في‭ ‬مرَّات‭ ‬عدّة‭ ‬حول‭ ‬أن‭ ‬العالم‭ ‬سيشهد‭ ‬لا‭ ‬محالة‭ ‬وباء‭ ‬مدمِّراً‭ ‬يأتي‭ ‬على‭ ‬الأخضر‭ ‬واليابس‭. ‬ويميل‮ «‬كينغ‮» ‬على‭ ‬العموم‭ ‬إلى‭ ‬نظريات‭ ‬المؤامرة،‮ ‬وعمليّات‭ ‬التصنيع‭ ‬المخبري‭ ‬للفيروسات،‭ ‬والتجارب‭ ‬المحرّمة‭. ‬وتمثِّل‭ ‬روايته‭ ‬الشهيرة الآفة‭ ‬أو‭ ‬المواجهة‭ ‬ـــ‮ ‬‭(‬الصادرة سنة‮ ‬1978‭)‬‮ ‬أبرز‭ ‬نموذج‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال؛‭ ‬حيث‭ ‬يرى‭ ‬أن نهاية‭ ‬العالم ستكون‭ ‬بسبب‭ ‬فيروس‭ ‬إنفلونزا‭ ‬خضع‭ ‬لعمليّات‭ ‬تعديل‭ ‬داخل‭ ‬المختبرات‭ ‬العسكرية‭ ‬حتى‭ ‬يكون‭ ‬سلاحاً‭ ‬بيولوجياً‭ ‬يوظّف‭ ‬في‭ ‬الحروب،‭ ‬وبسبب‭ ‬خطأ‭ ‬تقني‮ ‬سيتفشّى‭ ‬هذا‭ ‬الفيروس‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬حتى‭ ‬إنه‭ ‬سيقضي‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يفوق‭ ‬99‭ ‬في‭ ‬المئة‭ ‬من‭ ‬سكّانه،‭ ‬رغم‭ ‬كلّ‭ ‬إجراءات‭ ‬العزل‭ ‬والحجر‭ ‬الصحي‭ ‬وتقييد‭ ‬الحركة‭ ‬والاعتقالات‭.‬‮ ‬يصوّر‭ ‬‮«‬كينغ‮»‬‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬فناء‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬نعرفه‭ ‬ليحلّ‭ ‬معه‭ ‬نظام‭ ‬عالمي‭ ‬جديد‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬البقاء‭ ‬للأقوى؛‭ ‬والأقوى‭ ‬هنا‭ ‬همّ‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬حباهم‭ ‬الله‭ ‬بمناعة‭ ‬طبيعية‭ ‬تجاه‭ ‬هذا‭ ‬الوباء‭. ‬ولعلّ‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬تحاول‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬أن‭ ‬تعبِّر‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬ضمن‭ ‬قضايا‭ ‬عدّة‭ ‬أخرى‭ ‬التأكيد‭ ‬على‭ ‬الأنانية‭ ‬التي‭ ‬جُبِل‭ ‬الإنسان عليها؛‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬يفكِّر‭ ‬في‭ ‬ساعات‭ ‬الشدة‭ ‬إلّا‭ ‬في‭ ‬نفسه،‭ ‬وفي‭ ‬نفسه‭ ‬فقط،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬دمار‭ ‬البشرية‭ ‬جمعاء‭. ‬رواية تصور ضعف‭ ‬النفس‭ ‬البشرية،‭ ‬وهشاشة‭ ‬الإنسان‭ ‬إزاء‭ ‬الكوارث،‭ ‬وأنانية‭ ‬بعض‭ ‬الأنظمة،‭ ‬وما‭ ‬قد‭ ‬ينتج‭ ‬عن‭ ‬التجارب‭ ‬المحرّمة‭ ‬من‭ ‬سيناريوهات‭ ‬مرعبة‭.‬‮  ‬

ولا‭ ‬يمكن‭ ‬لمن‭ ‬يباشر‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬علاقة‭ ‬الأدب‭ ‬بالأوبئة‭ ‬والتنبؤ‭ ‬بوقوعها،‭ ‬لاسيما‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬تفشى‭ ‬فيه‭ ‬فيروس‭ ‬كورونا‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬بلدان‭ ‬العالم،‭ ‬ألا‭ ‬يستحضر‭ ‬رواية عيون‭ ‬الظلام للروائي‮ «‬دين‭ ‬راي‮ ‬كونتز‮ ‬Dean Ray‮ ‬Koontz‮» ‬‭(‬الصادرة سنة‮ ‬1981‭)‬،‭ ‬والتي‭ ‬أصبحت‭ ‬أشهر‭ ‬من‭ ‬نار‭ ‬على‭ ‬علم‭. ‬لا‭ ‬يهمنا‭ ‬هنا‭ ‬هل‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬من‭ ‬أحداث‭ ‬هو‭ ‬نبوءة‭ ‬أم‭ ‬مصادفة،‭ ‬أم‭ ‬معلومات‭ ‬سرية‭ ‬عرفها‭ ‬الكاتب‭ ‬بطريقة‭ ‬ما،‭ ‬لا‭ ‬يهمنا‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬قد‭ ‬أوحى‭ ‬لأحدهم‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬بتصنيع‭ ‬فيروس‭ ‬ونسبه‭ ‬إلى‭ ‬الصين‭… ‬كلّ‭ ‬هذه‭ ‬الأمور‭ ‬لا‭ ‬تهمنا؛‭ ‬لأن‭ ‬الأهم‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الأدبية‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬وضعت‭ ‬تصوّراً‭ ‬لما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬فكَّر‭ ‬أحدهم‭ ‬في‭ ‬تصنيع‭ ‬فيروس‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬التحضير‭ ‬لحرب‭ ‬بيولوجية‭ ‬مرتقبة‭. ‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬الرواية‭ ‬تشير‭ ‬صراحة‭ ‬بأصابع‭ ‬الاتهام‭ ‬للصين،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬جعل‭ ‬مدينة ووهان الصينية‭ ‬مسرحاً‭ ‬لأهمّ‭ ‬أحداثها،‭ ‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬الفيروس‭ ‬المصنَّع‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاته كان‮ ‬يحمل‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬ووهان‮ ‬400‮»‬،‮ ‬إلّا‭ ‬أن‭ ‬الحقيقة‭ ‬تبقى‭ ‬ضائعة‭. ‬لقد‭ ‬أثارت‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الكلام،‭ ‬وملأت‭ ‬مواقع‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬وشغلت‭ ‬خيال‭ ‬المهتمين‭ ‬بنظريات‭ ‬المؤامرة؛‭ ‬كيف‭ ‬لا‭ ‬وقد‭ ‬تنبأت‭ ‬منذ‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬أربعين‭ ‬سنة‭ ‬بما‭ ‬نعيشه‭ ‬نحن‭ ‬الآن‭ ‬بسبب‭ ‬هذه‭ ‬الجائحة،‭ ‬مع‭ ‬وجود‭ ‬بعض‭ ‬الاختلافات‭ ‬بالطبع،‭ ‬إن‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬مدة‭ ‬حضانة‭ ‬الفيروس،‭ ‬أو‭ ‬درجة‭ ‬شراسته،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬الحيثيات‭ ‬التي‭ ‬أحاطت‭ ‬بظهوره‭ ‬وتفشيه‭.‬‮ ‬

وعلى‭ ‬الضفة‭ ‬الأخرى،‭ ‬عرف‭ ‬الإنتاج‭ ‬الروائي‭ ‬الأوروبي‭ ‬على‭ ‬مرّ‭ ‬التاريخ‭ ‬اهتماماً‭ ‬كبيراً‭ ‬بالأوبئة‭ ‬والجوائح؛‭ ‬ولعلّ‭ ‬أولى‭ ‬المحاولات‭ ‬الخالدة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬مجموعة الديكاميرون للإيطالي‮ «‬جيوفاني‮ ‬بوكاتشيو‮ ‬Giovanni‮ ‬Boccaccio‮» ‬‭(‬ألَّفها‭ ‬خلال‭ ‬الفترة‭ ‬الممتدة‭ ‬من‭ ‬سنة‭ ‬1349‭ ‬إلى‭ ‬سنة‭ ‬1353‭). ‬فعلى‭ ‬غرار‭ ‬‮«‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‮»‬،‭ ‬تتكوَّن‭ ‬هذه‭ ‬المجموعة‭ ‬من‭ ‬حكاية‭ ‬إطار‭ ‬وحكايات مؤطرة عددها‭ ‬مئة‭ ‬حكاية،‭ ‬يتكفَّل‭ ‬عشرة‭ ‬أفراد‭ ‬برواية‭ ‬عشر‭ ‬حكايات‭ ‬لكلّ‭ ‬واحد‭ ‬منهم،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تزجية‭ ‬الوقت؛‭ ‬ذلك‭ ‬أنهم‭ ‬فضَّلوا‭ ‬الانعزال‭ ‬فراراً‭ ‬من‭ ‬الطاعون‭ ‬الذي‭ ‬حلّ‭ ‬بمدينة‭ ‬فلورانسا‭. ‬أمّا‭ ‬الحكاية‭ ‬الإطار،‭ ‬فتحكي‭ ‬عن‭ ‬الطاعون،‭ ‬أو‭ ‬الموت‭ ‬الأسود،‭ ‬الذي‭ ‬فجع‭ ‬المدينة‭ ‬الإيطالية،‭ ‬وما‭ ‬خلَّفه‭ ‬من‭ ‬ضحايا‭ ‬يفوقون‭ ‬الوصف‭. ‬لقد‭ ‬اتخذ‭ ‬‮«‬بوكاتشيو‮»‬‭ ‬من‭ ‬الوباء‭ ‬ذريعة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحكي،‭ ‬وكأن‭ ‬الانعزال،‭ ‬أو‭ ‬الحجر‭ ‬الصحي،‭ ‬مناسبة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الغوص‭ ‬في‭ ‬الذات‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬والانفتاح‭ ‬على‭ ‬الآخر‭ ‬أيضاً؛‭ ‬مناسبة‭ ‬للتعرُّف‭ ‬على‭ ‬الذات‭ ‬في‭ ‬مرآة‭ ‬كلّ‭ ‬من‭ ‬الأنا‭ ‬والآخر،‭ ‬ومناسبة‭ ‬كذلك‭ ‬للتعرُّف‭ ‬على‭ ‬المختلف‭ ‬والاستفادة‭ ‬منه‭. ‬الجائحة‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬واقعاً،‭ ‬فهي‭ ‬تفرض‭ ‬المواجهة؛‭ ‬وأولى‭ ‬خطوات‭ ‬المواجهة‭ ‬تقتضي‭ ‬التعرُّف‭ ‬على‭ ‬الذات،‭ ‬فالآخر،‭ ‬ثم‭ ‬الانخراط‭ ‬في‭ ‬مسلسل‭ ‬البناء‭ ‬بعد‭ ‬مرور‭ ‬العاصفة‭.‬‮   ‬

وفي‭ ‬روايته‮ «‬الحجر‭ ‬الصحي‮» ‬‭(‬الصادرة‭ ‬سنة‭ ‬1995‭) ‬أبدع الروائي‭ ‬الفرنسي‮ «‬جون‭ ‬ماري‮ ‬لوكليزيو‮ ‬Jean-Marie Le‮ ‬Clézio‮» ‬الحاصل‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬للآداب،‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬ما‭ ‬يعانيه‭ ‬من‭ ‬يكون‭ ‬بداخله‭. ‬تحكي‭ ‬الرواية قصّة‭ ‬أخوين‭ ‬على‭ ‬متن‭ ‬سفينة‭ ‬في‭ ‬اتِّجاه‭ ‬موطنهما،‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬توقّف‭ ‬مؤقَّت‭ ‬للسفينة‭ ‬في‭ ‬ميناء‭ ‬زنجبار،‮ ‬تُكتشف‭ ‬إصابة‭ ‬فردين‭ ‬من‭ ‬مسافريها‭ ‬بالجدري؛‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬السلطات‭ ‬المحلّية‭ ‬تفرض‭ ‬عليهم‭ ‬حجراً‭ ‬صحيا‭ ‬إلى‭ ‬أجل‭ ‬غير‭ ‬مسمّى‭. ‬يحاول‭ ‬الروائي‭ ‬أن‭ ‬ينقل‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الآن‭ ‬معاناة‭ ‬المصابين‭ ‬بالوباء،‭ ‬وخوف‭ ‬المعزولين‭ ‬بالقوة‭: ‬من‭ ‬الوباء،‭ ‬من‭ ‬المكان‭ ‬المحتجزين‭ ‬فيه،‭ ‬ومن‭ ‬المستقبل‭ ‬المظلم‭ ‬والغامض‭. ‬ولكن‭ ‬رغم‭ ‬ذلك،‭ ‬حاول‭ ‬أحد‭ ‬الأبطال‭ ‬أن‭ ‬يوجد‭ ‬لنفسه‭ ‬وسط‭ ‬هذا‭ ‬الفضاء‭ ‬الكارثي‭ ‬الباعث‭ ‬على‭ ‬التشاؤم‭ ‬فسحة‭ ‬أمل‭ ‬وفرجة تفاؤل‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬انغماسه‭ ‬في‭ ‬التمتّع‭ ‬بالمناظر‭ ‬الطبيعية‭ ‬المبهرة‭ ‬المحيطة‭ ‬به،‭ ‬وأيضاً‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تذكّره‭ ‬السعيد‭ ‬لقصّة‭ ‬علاقته‭ ‬مع‭ ‬محبوبته‭.‬

في‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‮ ‬

لم‭ ‬يخل‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬إشارات‭ ‬إلى‭ ‬الأوبئة،‭ ‬إمّا‭ ‬بطريقة‭ ‬عابرة‭ ‬مثلما‭ ‬نجد‭ ‬مثلاً‭ ‬في‭ ‬ملحمة الحرافيش‮ ‬‭(‬الصادرة‭ ‬سنة‭ ‬1977‭)‬‮ ‬لـ‮ «‬نجيب‭ ‬محفوظ‮» ‬‭(‬حيث‭ ‬استشرى‭ ‬وباء‭ ‬فتك‭ ‬بالمصريين‭ ‬وأمعن‭ ‬فيهم‭ ‬قتلاً‭ ‬وتنكيلاً‮ ‬باستثناء‭ ‬البطل‭ ‬‮«‬عاشور‭ ‬الناجي‮»‬،‭ ‬لتبدأ‭ ‬الأحداث‭ ‬الفعلية‭ ‬للرواية‭)‬،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬ثلاثية الأيام‮ ‬‭(‬الصادرة‭ ‬سنة‮ ‬1929‭) ‬لـ‮ «‬طه‭ ‬حسين‮» ‬‭(‬التي‮ ‬أشار‭ ‬في‭ ‬جزئها‭ ‬الأوّل‭ ‬إلى‭ ‬انتصار‭ ‬وباء‭ ‬الكوليرا‭ ‬في‭ ‬مسقط‭ ‬رأسه،‭ ‬وكيف‭ ‬أنه‭ ‬فجعهم‭ ‬في‭ ‬أخيه‭)… ‬وإما‭ ‬بجعل‭ ‬الوباء‭ ‬أساس‭ ‬الحكي‭ ‬الروائي،‭ ‬مثلما‭ ‬نجد على‭ ‬سبيل‭ ‬التمثيل في‭ ‬رواية‮ «‬إيبولا‮ ‬76‮» ‬‭(‬الصادرة‭ ‬سنة‮ ‬2012‭)‬‮ ‬لـ«أمير‭ ‬تاج‭ ‬السر‮»‬‭.‬تحكي‭ ‬الرواية‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬تحكيه‭ ‬فظاعة‭ ‬وشراسة‭ ‬وباء‭ ‬إفريقي‭ ‬بامتياز‭: ‬‮«‬إيبولا‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬حصد‭ ‬آلاف‭ ‬الأرواح‭ ‬وشتَّت‭ ‬شمل‭ ‬مئات‭ ‬الأسر‭.‬‮ ‬وتبقى‭ ‬من‭ ‬أهمّ‭ ‬المحاولات‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الباب،‭ ‬سلسلة‭ ‬‮«‬سفاري‮»‬‭ (‬ابتداءً‮ ‬من‭ ‬1996‭) ‬للمرحوم‮ «‬أحمد‭ ‬خالد‭ ‬توفيق‮»‬،‮ ‬التي‭ ‬خصّص‭ ‬رواياتها‭ ‬بالكامل‭ ‬للحديث‭ ‬عن‭ ‬المشكلات‭ ‬الطبية‭ ‬في‭ ‬القارة‭ ‬السمراء‭.‬‮ ‬بيْد‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬تضاعيف‭ ‬حبكاته‭ ‬الروائية‭ ‬المتعدِّدة،‭ ‬يفاجئنا‭ ‬أحياناً‮ ‬بقدرته‭ ‬الغريبة‭ ‬على‭ ‬التنبؤ‭ ‬والتوقُّع‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬ظهور‭ ‬الأوبئة‭ ‬والجوائح؛ لذلك‭ ‬ذُكِر‭ ‬اسمه‭ ‬بقوة‭ ‬بعد‭ ‬انتشار‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا،‭ ‬خاصّة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭.‬‮ ‬يقول في‮ ‬أحد أعداد‭ ‬سلسلته‭:‬‮ «‬الكابوس‭ ‬الذي‭ ‬يطارد‭ ‬علماء‭ ‬الفيروسات‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬كلّه‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يعود وباء إنفلونزا‭ ‬عام‭ ‬1918‮ ‬الذي‭ ‬أطلقوا‭ ‬عليه‭ ‬اسم‭ (‬الوباء‭ ‬الإسباني‭)‬‭ ‬إلى‭ ‬الظهور‭. ‬لقد‭ ‬فتك‭ ‬هذا‭ ‬الوباء‭ ‬بثلاثين‭ ‬مليوناً‭ ‬من‭ ‬البشر؛‭ ‬أي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ضحايا‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‮»‬‭.‬‮ ‬ولعلّ‭ ‬ما‭ ‬يجعلنا‭ ‬نقف‭ ‬مبهوتين أمام هذا‭ ‬الاستشراف،‭ ‬هو‭ ‬إشارته الغريبة‭ ‬هذه‭:‬‮ «‬لهذا‭ ‬لا‭ ‬نسمع‭ ‬عن‭ ‬أوبئة‭ ‬الإنفلونزا‭ ‬المُريعة‭ ‬إلّا‭ ‬من‭ ‬جنوب‭ ‬شرق‭ ‬آسيا،‭ ‬حتى‭ ‬صار‭ ‬للفظة‭ (‬إنفلونزا‭ ‬آسيوية‭)‬‮ ‬رنين‭ ‬يذكرنا‭ ‬بلفظة‭ (‬طاعون‭)‬‮ ‬‭[…]‬‮ ‬الوباء‭ ‬الحقيقي‭ ‬المرعب‭ ‬قادم‭ ‬لا‭ ‬شكّ‭ ‬فيه،‭ ‬سيبدأ من‭ ‬مكان‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الصين أو‭ ‬هونج‭ ‬كونج‭… ‬ساعتها‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬لنا‭ ‬أمل‭ ‬إلّا‭ ‬في‭ ‬رحمة‭ ‬الله،‭ ‬ثم‭ ‬البيولوجية‭ ‬الجزيئية‭ ‬وسرعة‭ ‬تركيب‭ ‬اللقاح‮»‬‭. ‬

الكاتب: ‬نبيل موميد‭


روايات‭ ‬الأوبئة،‭ ‬مثل‭ ‬الأوبئة،‭ ‬تزدهر‭ ‬ثم‭ ‬تختفي‭ ‬ضمن‭ ‬موجات‭ ‬متعاقبة‭. ‬في‭ ‬الستِّينات،‭ ‬ظهر‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬سلالة‭ ‬أندروميدا‭ – ‬The Andromeda Strain‮»‬،‭ ‬لمايكل‭ ‬كريشتون‭. ‬وشهدت‭ ‬فترة‭ ‬السبعينيات‭ ‬نجاحاً‭ ‬لافتاً‭ ‬لفيلم‭ ‬‮«‬الموقف‮»‬‭ ‬لستيفن‭ ‬كينج‭. ‬وقدّم‭ ‬روبن‭ ‬كوك‭   ‬فيلم‭ ‬‮«‬التفشّي‮»‬‭ ‬في‭ ‬الثمانينات‭. ‬وبحلول‭ ‬سنوات‭ ‬2000،‭ ‬‮«‬الحرب‭ ‬العالمية‮»‬‭ ‬لماكس‭ ‬بروكس،‭ ‬و«دليل‭ ‬البقاء‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬الزومبي‮»‬‭. ‬في‭ ‬2014،‭ ‬هيمنت‭ ‬إميلي‭ ‬سانت‭ ‬جون‭ ‬ماندل،‭ ‬بفيلمها‭ ‬‮«‬المحطّة‭ ‬الحادية‭ ‬عشر‮»‬‭ ‬حول‭ ‬طاعون‭ ‬مميت‭ ‬يسمّى‭ ‬‮«‬أنفلونزا‭ ‬جورجيا‮»‬،‭ ‬على‭ ‬قوائم‭ ‬الجوائز،‭ ‬وحصلت‭ ‬على‭ ‬اعتراف‭ ‬واسع‭ ‬النطاق‭.‬

مع‭ ‬فيروس‭ ‬كورونا،‭ ‬في‭ ‬الأذهان،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬قراءة‭ ‬الكتب‭ ‬حول‭ ‬الأوبئة،‭ ‬إمّا‭ ‬تجربة‭ ‬مخيفة،‭ ‬أو‭ ‬تجربة‭ ‬رائعة‭ ‬فكريّاً‭. ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬القرّاء‭ ‬في‭ ‬الفئة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬تقول‭ ‬سيلفيا‭ ‬مورينو‭ ‬غارسيا،‭ ‬مؤلّفة‭ ‬روايات‭ ‬‮«‬آلهة‭ ‬اليشم‭ ‬والظلّ‮»‬،‭ ‬و«إشارة‭ ‬إلى‭ ‬الضوضاء‮»‬،‭ ‬‮«‬شاطئ‭ ‬بلا‭ ‬ترويض‮»‬‭: ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الزومبي‭ ‬أصبح‭ ‬مرادفاً‭ ‬للوباء،‭ ‬هناك‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الروايات‭ ‬التي‭ ‬تتجنَّب‭ ‬هذه‭ ‬العدوى‭ ‬الشائعة‭. ‬نفدت‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬أغنية‭ ‬الناجين‮»‬‭ ‬لبول‭ ‬ترمبلاي،‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬يوليو‭ ‬الماضي،‭ ‬وهي‭ ‬تتعلّق‭ ‬بفيروس‭ ‬يشبه‭ ‬داء‭ ‬الكلَب،‭ ‬مع‭ ‬فترة‭ ‬حضانة‭ ‬قصيرة‭. ‬وعندما‭ ‬تحدَّثت‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬مؤتمر‭ ‬بوسكون،‭ ‬أخبرني‭ ‬أن‭ ‬أخته،‭ ‬الممرّضة،‭ ‬ساعدته‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬أفكاره‭ ‬حول‭ ‬كيفية‭ ‬تعامل‭ ‬الخدمات‭ ‬الصحِّيّة‭ ‬في‭ ‬ماساتشوستس،‭ ‬مع‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬السيناريو،‭ ‬كما‭ ‬تُوِّج‭ ‬عمل‭ ‬بول‭ ‬بوصفه‭ ‬‮«‬أفضل‭ ‬عمل‭ ‬رعب‭ ‬جديد‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬السياق‭ ‬نفسه،‭ ‬تقول‭ ‬لافي‭ ‬تيدهار،‭ ‬مؤلّفة‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الروايات،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬‮«‬القرن‭ ‬العنيف‮»‬،‭ ‬و«المحطّة‭ ‬المركزية‮»‬،‭ ‬و«الأرض‭ ‬غير‭ ‬المقدَّسة‮»‬‭: ‬‮«‬لقد‭ ‬أحببت‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬بونتيبول‮»‬،‭ ‬المقتبس‭ ‬من‭ ‬الرواية‭. ‬ظهر‭ ‬فيروس‭ ‬اللّغة،‭ ‬بالطبع،‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬سابق،‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬تحطُّم‭ ‬الثلج‮»‬‭ ‬لنيل‭ ‬ستيفنسون،‭ ‬وهو‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬ينهي‭ ‬حقبة‭ ‬عصر‭ ‬الإنترنت،‭ ‬لكن‭ ‬الروايتَيْن‭ ‬لا‭ ‬تختلفان‭. ‬إحدى‭ ‬الروايات‭ ‬التي‭ ‬ذكرتها‭ ‬هي‭ ‬ملحمة‭ ‬كيم‭ ‬ستانلي‭ ‬روبنسون‭ ‬‮«‬سنوات‭ ‬الأرز‭ ‬والملح‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬رجعت‭ ‬إلى‭ ‬الوراء،‭ ‬إلى‭ ‬أحداث‭ ‬‮«‬الموت‭ ‬الأسود‮»‬‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬عشر،‭ ‬كنقطة‭ ‬انطلاق‭ ‬لروايتها،‭ ‬لكنها‭ ‬تتخيّل‭ ‬أنه‭ ‬سيقتل‭ ‬الجميع،‭ ‬تقريباً،‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭. ‬وفي‭ ‬السياق‭ ‬ذاته،‭ ‬أثارت‭ ‬الروائية‭ ‬نقطة‭ ‬مهمّة‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬مستقبل‭ ‬البشرية‭: ‬مع‭ ‬تكرار‭ ‬لغة‭ ‬الفيروسات‭ ‬والإصابات‭ ‬والانتقال‭ ‬السريع‭ ‬واسع‭ ‬النطاق‭ ‬في‭ ‬أنظمتنا‭ ‬الرقمية،‭ ‬هل‭ ‬أصبحنا‭ ‬عرضة‭ ‬لشكل‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬الوباء؟‭ ‬وبما‭ ‬أننا‭ ‬أصبحنا‭ ‬أكثر‭ ‬تكاملاً‭ ‬مع‭ ‬أجهزتنا‭ ‬الرقمية،‭ ‬هل‭ ‬أصبحنا‭ ‬عرضة‭ ‬للخطر،‭ ‬بشكل‭ ‬أكبر؟‭ ‬ماذا‭ ‬لو‭ ‬أصبحت،‭ ‬حتى‭ ‬المنازل‭ ‬والسيارات‭ ‬وحتى‭ ‬المفاعلات‭ ‬النووية،‭ ‬تسقط‭ ‬فريسة‭ ‬للعدوى‭ ‬الخبيثة؟

أمّا‭ ‬‮«‬ديكاميرون‭ – ‬The Decameron‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬مجموعة‭ ‬قصص‭ ‬للإيطالي‭ ‬جيوفاني‭ ‬بوكاتشيو،‭ ‬فقد‭ ‬‮«‬كانت‭ ‬بمثابة‭ ‬الترياق‭ ‬للطاعون‭ ‬الذي‭ ‬أهلك‭ ‬المدينة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬بحكاياتها‭ ‬عن‭ ‬الحبّ‭ ‬والفكاهة‭ ‬والإثارة‭. ‬يغادر‭ ‬عشرة‭ ‬صغار‭ ( ‬سبعة‭ ‬منهم‭ ‬نساء،‭ ‬وثلاثة‭ ‬رجال‭) ‬مدينة‭ ‬فلورنسا،‭ ‬حوالي‭ ‬عام‭ ‬1350،‭ ‬وسلاحهم‭ ‬القصص‭ ‬بوصفها‭ ‬ملاذاً‭ ‬للموت‭ ‬المتربِّص‭. ‬أمّا‭ ‬‮«‬مجلّة‭ ‬عام‭ ‬الطاعون‮»‬،‭ ‬لدانييل‭ ‬ديفو،‭ ‬أو‭ ‬اليوميّات‭ ‬الوهمية‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬أحد‭ ‬صانعي‭ ‬السروج،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قرَّر‭ ‬البقاء‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬التي‭ ‬مزَّقها‭ ‬الطاعون‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1665،‭ ‬فقد‭ ‬كُتِبت‭ ‬بمنهجية‭ ‬ودقّة‭ ‬عالية،‭ ‬ويمكن‭ ‬القول‭ ‬إنها‭ ‬رواية‭ ‬صحافية‭ ‬عن‭ ‬الطاعون‭ ‬الدبلي‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬الإنجليزية‭. ‬وفي‭ ‬جميع‭ ‬الأوبئة،‭ ‬بشكل‭ ‬عامّ،‭ ‬الأغنياء‭ ‬هم‭ ‬أوَّل‭ ‬من‭ ‬يغادر‭ ‬المدينة‭. ‬يلاحظ‭ ‬ديفو‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬مذكِّراته،‭ ‬واصفاً‭ ‬الخدم‭ ‬الذين‭ ‬يساعدون‭ ‬النبلاء‭ ‬وعبيدهم‭ ‬للخروج،‭ ‬بسرعة،‭ ‬إلى‭ ‬الريف،‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬آلام‭ ‬الوباء‭. ‬

وفي‭ ‬الفصل‭ (‬28‭) ‬من‭ ‬‮«‬المخطوبون‮»‬،‭ ‬الرواية‭ ‬التاريخية،‭ ‬للإيطالي‭ ‬ألساندرو‭ ‬مانزوني،‭ ‬يصف‭ ‬الأخير‭ ‬ردود‭ ‬فعل‭ ‬سكّان‭ ‬ميلانو‭ ‬تجاه‭ ‬الطاعون،‭ ‬عام‭ ‬1648‭. ‬يتمّ‭ ‬احتجاز‭ ‬المصابين‭ ‬في‭ ‬جناح‭ ‬الجذام،‭ ‬في‭ ‬المدينة،‭ ‬بهدف‭ ‬كبح‭ ‬العدوى‭. ‬ويُقبَض‭ ‬على‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬10‭ ‬آلاف‭ (‬بين‭ ‬رجل‭ ‬وامرأة‭ ‬وطفل‭) ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬المدينة،‭ ‬ويتمّ‭ ‬عزلهم‭ ‬في‭ (‬288‭) ‬غرفة،‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬المستغرب‭ ‬أن‭ ‬يُقضى‭ ‬عليهم‭ ‬هناك‭. ‬أُغلقت‭ ‬المتاجر،‭ ‬وأفرغت‭ ‬المصانع،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬يموت‭ ‬فيه‭ ‬100‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬في‭ ‬سجن‭ ‬الطاعون،‭ ‬يوميّاً‭.‬

ومن‭ ‬أشهر‭ ‬الروايات،‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الباب،‭ ‬نذكر‭ ‬‮«‬الطاعون‭ – ‬La Peste‮»‬،‭ ‬لألبرت‭ ‬كامو،‭ ‬وهي‭ ‬قصّة‭ ‬أكثر‭ ‬حداثةً‭ ‬من‭ ‬الخيال‭ ‬الوبائي،‭ ‬بطلاها‭ ‬هما‭: ‬الطبيب‭ ‬برنارد‭ ‬ريو،‭ ‬والشابّ‭ ‬جان‭ ‬تارو‭ ‬الذي‭ ‬يحتفظ‭ ‬بسجلّ‭ ‬دقيق،‭ ‬للأحداث،‭ ‬زمن‭ ‬انتشار‭ ‬المرض‭. ‬على‭ ‬غرار‭ ‬الحكومة‭ ‬الصينية‭ ‬في‭ ‬ووهان،‭ ‬حاليّاً،‭ ‬أمرت‭ ‬السلطات‭ ‬الفرنسية،‭ ‬آنذاك،‭ ‬بتطويق‭ ‬مدينة‭ ‬وهران‭ ‬الموبوءة،‭ ‬وأجبرت‭ ‬السكّان‭ ‬على‭ ‬ملازمة‭ ‬منازلهم‭ ‬لمنع‭ ‬انتشار‭ ‬الطاعون‭.‬

وفي‭ ‬الرواية،‭ ‬أيضاً،‭ ‬نجد‭ ‬أنه‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬فصل‭ ‬البطل‭ ‬ريو‭ ‬عن‭ ‬زوجته،‭ ‬ظلّ‭ ‬يحارب‭ ‬الموت‭ ‬بجانب‭ ‬تارو،‭ ‬وهذا‭ ‬يحيلنا‭ ‬على‭ ‬الأخبار‭ ‬التي‭ ‬تصلنا،‭ ‬اليوم،‭ ‬عن‭ ‬إصابة‭ ‬المئات‭ ‬من‭ ‬الأطبّاء‭ ‬والممرِّضين‭ ‬الصينيين‭ ‬بالعدوى،‭ ‬وموتهم‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬مكافحتهم‭ ‬الوباء‭. ‬في‭ ‬رواية‭ ‬كامو،‭ ‬كذلك،‭ ‬الطاعون‭ ‬ليس‭ ‬مجرَّد‭ ‬حدث‭ ‬مادّي،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬رمز‭ ‬لأفكار‭ ‬الفاشية‭ ‬والنازية‭ ‬التي‭ ‬هُزمت،‭ ‬حديثاً،‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭. ‬وخلصت‭ ‬الرواية‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬مع‭ ‬تفشّي‭ ‬الأوبئة،‭ ‬وما‭ ‬يرافق‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬تصرُّفات‭ ‬سلبية،‭ ‬يظهر‭ ‬الأبطال‭ ‬‮«‬أشياء‭ ‬تستحقّ‭ ‬الإعجاب‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الاحتقار‮»‬‭. ‬قبل‭ ‬كلّ‭ ‬شيء،‭ ‬يلاحظ‭ ‬الروائي‭ ‬أن‭ ‬النصر‭ ‬ضدّ‭ ‬الطاعون‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬نهائياً،‭ ‬أبداً‭: ‬لمنع‭ ‬انتصار‭ ‬الموت،‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تستمرّ‭ ‬المعركة‭ ‬ضدّ‭ ‬الخوف‭.‬

أمّا‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬حجر‭ ‬القمر‭: ‬الفتى‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أبداً‮»‬،‭ ‬للكاتب‭ ‬الأيسلندي‭ ‬‮«‬سيجون‭ – ‬Sjón‮»‬،‭ ‬فتقوم‭ -‬إلى‭ ‬حَدّ‭ ‬كبير‭- ‬على‭ ‬خلفية‭ ‬ريكيافيك،‭ ‬للعام‭ ‬1918،‭ ‬عندما‭ ‬تسبَّبت‭ ‬الأنفلونزا‭ ‬الإسبانية‭ ‬في‭ ‬هلاك‭ ‬معظم‭ ‬السكّان‭. ‬ورغم‭ ‬طابعها‭ ‬الغنائي،‭ ‬كانت‭ ‬تنقل‭ ‬الواقع‭ ‬إلى‭ ‬حَدّ‭ ‬كبير،‭ ‬وجوانبها‭ ‬الأكثر‭ ‬شبهاً‭ ‬بالحلم‭ ‬تظهر‭ -‬في‭ ‬الغالب‭- ‬في‭ ‬سياق‭ ‬المرض‭ ‬أو‭ ‬الهذيان‭. ‬بطل‭ ‬الرواية‭ ‬هو‭ ‬ماني‭ ‬ستين‭ (‬من‭ ‬هنا‭ ‬جاء‭ ‬عنوان‭ ‬الرواية‭) ‬شابّ‭ ‬مثلي‭ ‬مولع‭ ‬بالأفلام،‭ ‬ويحمل‭ ‬وعياً‭ ‬مفرطاً‭ ‬بأن‭ ‬هناك‭ ‬شيئاً‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬من‭ ‬حوله‭.‬

معظم‭ ‬أحداث‭ ‬الرواية‭ ‬تتجلّى،‭ ‬للقارئ،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬نافذة‭ ‬زيارات‭ ‬ماني‭ ‬للسينما‭  (‬كانت‭ ‬الأفلام‭ ‬صامتة‭ ‬ومصحوبة‭ ‬بالموسيقى‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬تتطوّر‭ ‬إلى‭ ‬صور‭ ‬حيّة‭ ‬حيث‭ ‬تبدأ‭ ‬الأنفلونزا‭ ‬في‭ ‬التفشّي‭ ‬بين‭ ‬السكّان‭ ‬المحليِّين‭. ‬يكتب‭ ‬سيجون‭ ‬‮«‬هنا،‭ ‬أصبحت‭ ‬دور‭ ‬السينما‭ ‬أكثر‭ ‬هدوءًا‮»‬،‭ ‬واصفاً‭ ‬خطورة‭ ‬الوباء‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تقلُّص‭ ‬أعداد‭ ‬الموسيقيين‭ ‬الذين‭ ‬يعزفون‭ ‬موسيقى‭ ‬الأفلام‭ ‬الصامتة‭. ‬إنها‭ ‬نافذة‭ ‬خاصّة‭ ‬على‭ ‬المدينة،‭ ‬نافذة‭ ‬تكشف‭ ‬ما‭ ‬يدور‭ ‬داخل‭ ‬الأسوار‭. ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬انتشر‭ ‬هذا‭ ‬الصمت‭ ‬خارج‭ ‬المسرح‭ ‬ليخيّم‭ ‬على‭ ‬المدينة،‭ ‬بأكملها‭.‬

يجثم‭ ‬الصمت‭ ‬المشؤوم‭ ‬على‭ ‬الجزء‭ ‬الأكثر‭ ‬ازدحاماً،‭ ‬والأكثر‭ ‬نشاطاً‭ ‬في‭ ‬المدينة؛‭ ‬فلا‭ ‬أثر‭ ‬للحوافر،‭ ‬أو‭ ‬قعقعة‭ ‬عجلات‭ ‬العربات‭ ‬أو‭ ‬هدير‭ ‬السيّارات،‭ ‬أو‭ ‬أزيز‭ ‬الدرّاجات‭ ‬النارية،‭ ‬أو‭ ‬رنين‭ ‬أجراس‭ ‬الدرّاجات‭. ‬لا‭ ‬تسمع‭ ‬ضجيج‭ ‬ورش‭ ‬النجّارين،‭ ‬أو‭ ‬دويّ‭ ‬دكاكين‭ ‬الحدادة،‭ ‬أو‭ ‬صرير‭ ‬أبواب‭ ‬المستودعات‭.‬

قدّمت‭ ‬عدّة‭ ‬تفسيرات‭ ‬لوباء‭ ‬Dragonscale‭ ‬الخيالي،‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬الكتاب‭. ‬البعض‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬مخلَّفات‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة،‭ ‬أو‭ ‬ربّما‭ ‬مادّة‭ ‬من‭ ‬صنع‭ ‬بعض‭ ‬الشركات‭ ‬الشرّيرة‭. ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬يهمس‭ ‬بتفسيرات‭ ‬دينية،‭ ‬والبعض‭ ‬الآخر‭ ‬يحاولون‭ ‬الغوص‭ ‬عميقاً‭ ‬في‭ ‬تأويلاتهم‭. ‬لكنّ‭ ‬هيل،‭ ‬بحكمته،‭ ‬يصرّ‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الشعور‭ ‬بالغموض‭. ‬ورغم‭ ‬وجود‭ ‬بعض‭ ‬التفسيرات‭ ‬المنطقية‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬غيرها،‭ ‬لم‭ ‬يتمّ‭ ‬التحقُّق‭ ‬من‭ ‬أيٍّ‭ ‬منها،‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭. ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬سردية،‭ ‬كلّ‭ ‬ذلك‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬منطقيّاً‭: ‬فالكتاب‭ ‬لا‭ ‬يتحدَّث‭ ‬عن‭ ‬الطاعون‭ ‬بحدّ‭ ‬ذاته،‭ ‬بل‭ ‬حول‭ ‬كيفية‭ ‬تغيير‭ ‬المجتمع‭.‬

في‭ ‬‮«‬رجل‭ ‬الإطفاء‮»‬،‭ ‬و«حجر‭ ‬القمر‮»‬،‭ ‬و«ديكاميرون‮»‬،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬روايات‭ ‬الأوبئة،‭ ‬يظهر‭ ‬المرض‭ ‬كخطر‭ ‬داهم‭ ‬على‭ ‬المجتمع،‭ ‬لكنه‭ ‬يؤثّر‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬المصابين‭. ‬ومن‭ ‬الصعب‭ ‬قراءة‭ ‬أيٍّ‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الروايات،‭ ‬دون‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬عالمنا‭ ‬المعاصر‭: ‬المخاوف‭ ‬التي‭ ‬تواجهها‭ ‬شخصيّاتها‭ ‬هي‭ ‬نفسها‭ ‬المخاوف‭ ‬التي‭ ‬يواجهها‭ ‬الكثيرون‭ ‬في‭ ‬وقتنا‭ ‬الحاضر‭. ‬إن‭ ‬إضافة‭ ‬عنصر‭ ‬الأوبئة‭ ‬إلى‭ ‬الرواية‭ ‬يزيد‭ ‬من‭ ‬حدّة‭ ‬التوتُّر،‭ ‬وصعوبة‭ ‬الرهانات،‭ ‬ويذكّر‭ ‬القرّاء‭ ‬بضعف‭ ‬قدراتهم‭ ‬ضمن‭ ‬هذا‭ ‬المخطَّط‭ ‬الكبير‭ ‬للأشياء‭.‬

الكاتب: ‬توبياس‭ ‬كارول

‭‬ترجمة‭: ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬محمد

المصدر‭:‬

Literary Hub.com


في‭ ‬عام‭ ‬1978،‭ ‬أصدر‭ ‬الأميركي‭ ‬‮«‬ستيفين‭ ‬كينغ‭ ‬Stephen King‮»‬‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬The stand‮»‬‭ (‬الموقف‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬تتناول‭ ‬انهيار‭ ‬المجتمع‭ ‬بفعل‭ ‬نشر‭ ‬سلالة‭ ‬معدَّلة‭ ‬من‭ ‬فيروس‭ ‬الإنفلونزا،‭ ‬وكجزءٍ،‭ ‬وفق‭ ‬الحبكة‭ ‬السردية،‭ ‬من‭ ‬حرب‭ ‬بيولوجية‭ ‬تأتي‭ ‬على‭ ‬النسبة‭ ‬العظمى‭ ‬من‭ ‬سكّان‭ ‬الكون‭. ‬يندرج‭ ‬العمل‭ ‬ضمن‭ ‬الخيال‭ ‬العلمي‭ ‬وأدب‭ ‬الرعب،‭ ‬ويصنَّف‭ ‬تحت‭ ‬أدب‭ ‬نهاية‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬راج‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬لذلك‭ ‬فإن‭ ‬ترجمة‭ ‬العنوان‭ ‬إلى‭ ‬الإسبانية،‭ ‬سواء‭ ‬بـ‮«‬Apocalipsis‮»‬‭ (‬في‭ ‬إسبانيا‭)‬،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬رقصة‭ ‬الموت‮»‬‭ ‬La danza de la muerte‭ (‬في‭ ‬أميركا‭ ‬اللاتينية‭)‬،‭ ‬يستجيب‭ ‬لمخزون‭ ‬الذاكرة‭ ‬الجمعيّة‭ ‬الكونيّة‭ ‬عامّة،‭ ‬والغربيّة‭ ‬خاصّة‭ ‬حول‭ ‬فكرة‭ ‬نهاية‭ ‬الزمان‭.‬

قبل‭ ‬انقضاء‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬تحديداً‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1995،‭ ‬أصدر‭ ‬البرتغالي‭ ‬خوسيه‭ ‬ساراماغو‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬العمى‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬حول‭ ‬وباء‭ ‬يجتاح‭ ‬المدينة‭ ‬المعاصرة‭. ‬وفيها‭ ‬يأتي‭ ‬على‭ ‬سرد‭ ‬تداعيات‭ ‬تفاقم‭ ‬الأوضاع‭ ‬وفقدان‭ ‬البصيرة‭ ‬الإنسانوية‭ ‬أمام‭ ‬فردانيّة‭ ‬العدميّة‭ ‬الفوضوية،‭ ‬وتأثير‭ ‬كلّ‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬الأخلاقي‭ ‬وتفكك‭ ‬المجتمع‭. ‬وفي‭ ‬عام‭ ‬1947،‭ ‬كان‭ ‬ألبير‭ ‬كامي‭ ‬قد‭ ‬أصدر‭ ‬روايته‭ ‬الشهيرة‭ ‬‮«‬الطاعون‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬أحداثها‭ ‬أثناء‭ ‬طاعون‭ ‬مدينة‭ ‬وهران،‭ ‬وفيها‭ ‬يحبك‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬نسيجها‭ ‬السردي‭ ‬القلق‭ ‬الوجودي،‭ ‬وسؤال‭ ‬الكينونة‭. ‬وقبل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1912،‭ ‬نشر‭ ‬توماس‭ ‬مان‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬موت‭ ‬في‭ ‬البندقية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تقدَّم‭ ‬بالتوازي‭ ‬مع‭ ‬تطوّر‭ ‬حكائيتها،‭ ‬توصيفاً‭ ‬ينزّ‭ ‬منه‭ ‬فكر‭ ‬نيتشه،‭ ‬ويوجز‭ ‬سيمياء‭ ‬الانحلال‭ ‬أمام‭ ‬تهديد‭ ‬الموت‭ ‬بوباء‭ ‬الكوليرا‭ ‬الذي‭ ‬يلوح‭ ‬في‭ ‬الأفق‭.‬

يُعثَر‭ ‬على‭ ‬نصوصٍ‭ ‬ثقافية‭ ‬حول‭ ‬الأوبئة‭ ‬في‭ ‬عصور‭ ‬مختلفة،‭ ‬يكفي‭ ‬تذكّر‭ ‬رائعة‭ ‬سوفوكلس‭ ‬‮«‬أوديب‭ ‬ملكاً‮»‬‭ (‬429‭.‬ق‭.‬م‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬يشكِّل‭ ‬الوباء،‭ ‬الذي‭ ‬أصاب‭ ‬مدينة‭ ‬طيبة،‭ ‬مكوناً‭ ‬جوهرياً‭ ‬في‭ ‬بنيتها‭ ‬التراجيدية‭. ‬كذلك‭ ‬معاناة‭ ‬القوات‭ ‬الإغريقية‭ ‬في‭ ‬‮«‬إلياذة‮»‬‭ ‬هوميروس‭ ‬الملحميّة،‭ ‬من‭ ‬وباء‭ ‬يأتي‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬الجنود،‭ ‬بسب‭ ‬تجرؤ‭ ‬آغاممنون‭ ‬على‭ ‬اتخاذ‭ ‬ابنة‭ ‬كاهن‭ ‬أبولو‭ ‬محظيّة‭ ‬له‭. ‬وفي‭ ‬‮«‬العهد‭ ‬القديم‮»‬‭ ‬شكَّلت‭ ‬سيرورة‭ ‬الطامات‭ ‬الكبرى،‭ ‬والجوائح‭ ‬عاملاً‭ ‬أساسياً‭ ‬في‭ ‬مصير‭ ‬البشرية‭ ‬في‭ ‬النصّ‭ ‬السردي،‭ ‬إضافة‭ ‬لدورها‭ ‬في‭ ‬تعددية‭ ‬التأويل‭ ‬النصي‭ ‬والتفسير‭. ‬ولم‭ ‬يتوقَّف‭ ‬الوباء‭ ‬عن‭ ‬الظهور‭ ‬في‭ ‬النصوص‭ ‬الأدبية،‭ ‬بل‭ ‬شكل‭ ‬عتبة‭ ‬‮«‬الديكاميرون‮»‬‭ ‬لبوكاتشيو‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬عشر،‭ ‬حيث‭ ‬ينزوي‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الشبان‭ ‬خارج‭ ‬فلورنسا‭ ‬هرباً‭ ‬من‭ ‬جائحة‭ ‬‮«‬الموت‭ ‬الأسود‮»‬‭ (‬الطاعون‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬عام‭ ‬1348،‭ ‬ويأخذون‭ ‬بسرد‭ ‬الأقاصيص‭ ‬لقتل‭ ‬الوقت،‭ ‬وربَّما‭ ‬لمحض‭ ‬تحدّيه‭. ‬وفي‭ ‬معرض‭ ‬الحديث‭ ‬هنا‭ ‬لابدّ‭ ‬من‭ ‬الإشارة‭ ‬للرواية‭ ‬المعنونة‭ ‬‮«‬يوميّات‭ ‬سنة‭ ‬الطاعون‮»‬‭ ‬للإنكليزي‭ ‬دانييل‭ ‬ديفو،‭ ‬والتي‭ ‬رأت‭ ‬النور‭ ‬عام‭ ‬1722،‭ ‬وتدور‭ ‬حول‭ ‬محنة‭ ‬أحد‭ ‬الأفراد‭ ‬خلال‭ ‬الوباء‭ ‬الرهيب‭ ‬الذي‭ ‬اجتاح‭ ‬لندن‭ ‬سنة‭ ‬1665‭. ‬كما‭ ‬تندرج‭ ‬في‭ ‬السياق‭ ‬السردي‭ ‬نفسه‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬الخطيبان‮»‬‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬1827،‭ ‬لأليساندرو‭ ‬مانزوني،‭ ‬وفيها‭ ‬سرد‭ ‬لمشهدية‭ ‬الرعب‭ ‬وتأثيره‭ ‬المجتمعي،‭ ‬وفضح‭ ‬النفاق‭ ‬الديني‭ ‬والدنيوي‭ ‬المتفشّي‭ ‬أثناء‭ ‬تفشّي‭ ‬الطاعون‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬في‭ ‬العقد‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬عشر.

الكاتب: ‬أثير‭ ‬محمد‭ ‬علي

مواضيع مرتبطة

استاد خليفة الدوليّ.. عراقة، حداثة واستدامة
شربل بكاسيني 07 أكتوبر 2022
استاد المدينة التعليمية.. حيث تلتقي كرة القدم بالعلم والمعرفة
وائل السمهوري 07 أكتوبر 2022
استاد الثمامة.. يغطّي ضيوف «كأس العَالَم» بطاقيّة عربيّة
إبراهيم السواعير 07 أكتوبر 2022
استاد الجنوب.. بوابة بين الماضي والمُستقبل
فراس السيد 07 أكتوبر 2022
استاد أحمد بن علي.. بوابة الصحراء
محمد أدهم السيد 07 أكتوبر 2022
استاد لوسيل.. سحر الكرة أم سحر المكان؟
محمد أدهم السيد 07 أكتوبر 2022
استاد البيت.. خيمة ليست كباقي الخيام
ليال المحمد 07 أكتوبر 2022
«والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي».. اِرتيابُ الحكاية في حدَثها ونِسبَتها
خالد بلقاسم 02 يناير 2022
عبد الفتاح كيليطو في «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي»: أحداث الرواية تنتهي في أغلب الأحيان بالفشل، باضمحلال الأماني وتبخُّر الأوهام
حوار: خالد بلقاسم 15 ديسمبر 2021
عبد الرّحمن بدوي.. وجه الرّوائي
محمّد صلاح بوشتلّة 06 أكتوبر 2021

مقالات أخرى للكاتب

دموع الفوتبول
09 نوفمبر 2022

سنة 1930 كان ألبير كامو حارس مرمى فريق كرة القدم بجامعة الجزائر. وقد أمكن له بعد ذلك بسنواتٍ أن ينتقل من ملاعب الكرة إلى ساحات الثقافة، وأن يحصل على جائزة نوبل للآداب عوضًا عن كأس العَالَم. كما أمكن له أن يكتب عمّا تعلَّمه من لعبة الفوتبول مؤكِّدًا لمَنْ يريد...

اقرا المزيد