أزمةُ سوقِ الكِتاب أمْ أزمةُ تضخُّمِ إنتاجِ الكُتب؟

| 15 أغسطس 2020 |
سُلِّطتْ الأضواء، منذ اجتياح فيروس كورونا للعَالَم، على أزمة الكِتاب والمنشورات الورقيّة، وعلى معاناة سوق وسائط التثقيف ومنتوجات الإبداع المُختلفة. والواقع أنّ أزمة سوق الكِتاب بخاصّة، مطروحة منذ سنواتٍ بسبب عوامل تعود إلى منافسة الوسائط الرقميّة والإلكترونيّة التي تتفوَّقُ في جذبِ المُستهلكين أكثر ممّا تستطيعه الكُتب. وجاءت مناسبة كورونا لتؤكِّد تفوُّق المساحات الرقميّة الشاسعة على بقية وسائط التثقيف الأخرى. تأكَّد ذلك، خاصّةً، من خلال فتح تلك المساحات الرقميّة مجاناً أمام طُلاب الثقافة والتسلية، بلْ ونقلها إلى داخل البيوت والمكَاتِب.
مثلُ هذه الأحداث والتحوُّلات في وسائط الثقافة تفرض، ولا شكّ، إعادة التحليل واستقصاء المُتحوِّل والثابت، وانعكاس ذلك على مجال جوهريّ يتمثَّل في تنشيط الحقل الثقافيّ وتفعيل مسالكه. يمكن، إذن، أن ننطلق من التحليل الذكيّ الذي أنجزته الروائيّة البريطانيّة فيرجينيا وولف (1882 – 1941) في كِتابها «غرفةٌ تخصّ المرء»، حيث اشترطتْ عنصريْن اثنيْن لتتمكَّن المُبدعة أو المُبدع من الكِتابة؛ وهُما: امتلاكُ غرفةٍ خاصّة تتيح الاختلاء بالنفس والإنصات إلى الذات، ثمّ التوفُّر على مبلغ مالي شهري، يكفلُ العيش اللائق لِمَنْ أراد أن يتفرَّغ للإبداع. بعبارةٍ ثانية، هي تؤكِّد على الشروط الماديّة الضروريّة التي لا مناص منها لمَنْ يريد أن يُغامِر في فضاء الكِتابة والإبداع. لكنها لا تتوقَّف في كتابها عند هذا الجانب، بل تلامس أيضاً الحالة النفسيّة المُتيحة لانبثاق النصوص الجديرة بأن تُعتَبَر حاملةً لإضافةٍ فنّيّة أو فكريّة… غير أن هذا الجانب يبتعدُ بنا عن الموضوع الذي نعالجه الآن. لنقُلْ بأن كلَّ كاتِب، مهما كان وضعه الاجتماعيّ، مطالبٌ بأن يُؤمِّن تلك الغرفة الخاصّة مع موردٍ ماليّ ثابت يسمح له بالتفرُّغ للكتابة. وهذه ليست مسألةً سهلة، وكثيراً ما كان غيابُها يؤول إلى وأدِ مواهب واعدة، وتعطيل إبداعاتٍ لم تكتمل الشروط الماديّة لولادتها…
مهما يكنْ، استطاع الكِتابُ خلال عِدّة قرون، أن يضطلع بدورٍ أساس في نقلِ وحفظِ العلوم والنظريّات، وتوصيل الإبداعات على اختلاف أجناسها التعبيريّة، وأن يكون وسيلةً لا مناص منها في تشييدِ ثقافاتِ الأمم ومَدّ حِبالِ الوصل بينها. لكنْ، منذ الرّبْع الأخير من القرن العشرين، ومع الإنجازات المُذهلة، المُتواصلة في مجال الإنترنتْ والرقمنة واختراع وسائط للقراءة والكِتابة بعيداً عن الورق والقلم، أصبح الكِتَابُ في مهبِّ التنافُس والمُزاحَمة والإبدال، وبات مُهدَّدا بأن يُحال على مخازن حفظ الأشياء القديمة التي لم تَعُدْ صالحةً للاستعمال. إلّا أن الكِتاب استطاع أن يُقاوم وأن يصمد في وجهِ الوسائط الإلكترونيّة والرقميّة، مُحتفظاً بتلك الخصوصيّة التي تجعل منه تميمةً حميمة يختلي بها القارئ ليُمارس جزءاً من حرّيّته المُصادَرة، وذلك عبْر القراءة وتقليب الصفحات، والتعليق على ما يستثيرُ حاسّته النقديّة والعودة إلى فقراتٍ ظلّتْ تلاحق فكره وخياله… لِنَقُلْ إنّ قراءةَ الكُتب متعةٌ استثنائيّة تُوهِمُ القارئ أنه يُحقِّق ما لا يستطيع أن يفعله من خلال وسائط القراءة غير الورقيّة التي أصبحتْ مشاعاً بين الجميع. ولعَلّ هذا من أهمّ الأسباب التي جعلت الكِتاب لا يزال حيّاً يُرزَق ويُرزِق، حريصاً على تطوير الإخراج وأناقة الطبْع.

مع ذلك، أخذتْ أزمة سوق الكِتاب تعبِّر عن نفسها في مجالٍ حيويّ وحساس، يتعلَّق بانخفاض المبيعات، وتقلّص مساحة تخزين الكُتب، وتقلّص عدد الكُتَّاب الذين يتعيّشون من إنتاجهم، خاصّة في مجال الإبداع الأدبيّ. وطبعاً حديثنا هنا، هو عن الأقطار التي تغلّبتْ على الأُميّة ولها تقاليد عريقة في تشييدِ الحقلِ الأدبيّ وترسيخ عادة القراءة وعادة شراء الكُتب. في مثل هذه الأقطار، أعلنت الأزمة عن نفسها من خلال ظاهرة تضخُّم إنتاج كميّة الكُتب السنويّة، بخاصّة في حقل الإبداع الروائيّ. وإذا كان للكُتب العلميّة والأكاديميّة جمهورها المُتخصِّص، فإن كُتب الإبداع الأدبيّ ليس لها جمهور مُحدَّد، وقرَّاء مواظبون على اقتنائها، لأن مُنتجيها يتجدَّدون كلّ سنة، ولأن الحاجةَ إلى متابعة الإبداع لا تخضعُ لقانون الطلب؛ ومن ثمَّ فإن العرضَ لا يُلبِّي طلباً محدَّداً كما الحال في بقية مجالات الاقتصاد. بعبارةٍ ثانية، كُتَّابُ الأدب يكتبون وفق تجربتهم وذوقهم الجماليّ ومستواهم الثقافيّ، والقُرَّاء الذين يشترون الكُتب يختارون ما يُلائم ذوقهم وتكوينهم المعرفيّ. وتتجلّى أهمِّية هذا العنصر المُتحكِّم في سوق الكُتب، وبخاصّةٍ الإبداعيّة منها، من خلال ما تسجله المبيعات التي دأبتْ منذ عقودٍ، على تأكيد تفوُّق الرواية على غيرها من الأجناسِ الأدبيّة والفكريّة. ونجد ذلك واضحاً ومُتواتراً في سوقِ الكُتب بفرنسا، حيث بلغ عدد الروايات المعروضة كلّ سنة ما يفوقُ خمسمئة رواية، علاوة على النصوص المُترجَمَة. أمام هذا الإنتاج السنويّ، يحارُ القارئ وتصبح طاقته الشرائيّة قاصرة عن اقتناء ما يستحق القراءة والاعتبار. نتيجة لذلك لم يَعُدْ عدد لا بأس به من الروائيّين، بخاصّةٍ الجدُد منهم، يحظون بالبيع والرّواج. وفي حوارات واستطلاعات نشرتها الصحف الفرنسيّة، منذ أشهر، أعربَ الناشرون والكُتَّاب وأصحاب المكتبات عن هذه الأزمة، موضحين أنها تعود أساساً إلى ظاهرتيْن: الأولى تتمثَّل في الكساد النسبيّ الذي أضحتْ سوق الرواية تعرفه نتيجة لتضخُّم العرض وصعوبة الاختيار، خاصّة أن وسائط التعريف والنقد لم تَعُدْ قادرةً على ملاحقة كلّ ما تلفظه المطابعُ سنوياً. والظاهرة الثانية تتمثَّل في تقلّص عدد الكُتَّاب الذين يتعيّشون من أقلامهم، إذ قلَّ عددُ الذين يبيعون ما بين خمسين ألفاً ومئة ألف نسخة. لكنْ، في الآن نفسه تستمرّ ظاهرةُ الإقبال على الرواية «الأكثر مبيعاً» (البيستْ سيلر)، وإنْ كان عددُ المُستفيدين منها لا يُجاوز أصابع اليد. والمحظوظون من هؤلاء الروائيين يبيعون ما بين خمسمئة ألف ومليون ونصف المليون نسخة. ومعروف أن هذا النوع من الروايات يتوخَّى التسلية، واعتماد الحبكة المُشوِّقة، واللّغة السهلة المسكوكة…
أمام هذه الأزمة التي تواجهُ الكُتبَ الجيّدة، انقسم مَنْ يعملون ويُنتجون في هذا المجال إلى فريقيْن: الفريق الأول يرى أنّ من الضروري أن تستمرّ دُورُ النشر في طبع ما تجدُه مُستحقاً للقراءة، خاصّة من إنتاج الشباب، لكيْ يظلّ الأدب والفكر مرآةً للتحوُّلات المُتبلورة في أعماقِ المُبدعين، والتي لا تجد متنفّساً إلّا في كتابة النصوص الجيّدة…
والفريق الثاني، يدعو الناشرين إلى أن يُمارسوا المزيد من التدقيق والغربَلة عند اختيار ما يستحق النشر، لكيْ لا يؤدِّي تضخُّم عدد الكُتب المنشورة إلى تناقص عدد القُرَّاء وإلى الحيلولة دون تواجد كُتَّابٍ مُحترفين يُراهنون على الإبداع لكسْب قوتِهم والاستمرار في بلورة رؤاهم الفنّيّة والفكريّة…
نحن أمام مأزقٍ دقيق لا يمكن الخروج منه بالاختيار بين الاستمرار في نشر النصوص الجيّدة أو تقليص عددها لحماية دُور النشر وصناعة الكِتاب. ذلك أن «مهنة الكتابة والشعر» هي ذاتُ طبيعة خاصّة تعلو بها على مستوى العرض والطلب، لأنها تلامس المشاعر والأفكار والمُعتقدات، وتنحو صوْبَ: «تكسير بحر الجليد الرابض بأعماقنا»، على حَدِّ تعبير كافكا. إنّ الكِتابة التي تستحق الاعتبار، تعانق بذور الرفض وتدعو إلى تخطي الحدود المُصطنعة الرامية إلى مصادرة الحرّيّة. من ثمَّ، فهي لا يمكن أن تصادف القبول لدى أغلبيّة المُجتمع الملهوفة على مُعانقَة وَهْمِ «السعادة» في الدنيا قَبل الآخرة. لكنْ، لحُسنِ الحظ، أن النصوص الجيّدة تلاقي، في نهاية المطاف، الاعتراف والتقدير والإقبال على قراءتها، غالباً بعد موت مُبدعيها، حين يلتفت النُقَّادُ والحقلُ الثقافيّ إلى أهمِّيّتها. من هذا المنظور، جازَ القولُ بأنّ الكِتابة ليست مهنة مثل باقي المِهَن، بل هي مغامرة واستكشاف ومُجابَهة، يخوض المرءُ غمارَها إذا أراد أن يجهر بمشاعر وحقائق تُحرِّر النفوس والعقول، لا أن يتخذها مهنةً تضمن العيش الرغيد. وإذا أصبحت الكِتابةُ مُطابقةً للمُراوغة، حريصةً على تملُّق جُمهورٍ يبحث عن السهولة والسعادة الوهميّة، فإنها تُصنَّفُ حينئذٍ ضمن المِهَن العَضَليّة!!!