أسئلة مرعبة

| 13 مايو 2020 |
هل العزلة ضرورة؟ لتوليد المعاني؟ لابتكار الكلمات؟ للوقاية من المرض؟ لاكتشاف الدواء؟ لاحتمال الفقد؟ لانتظار البهجة؟ لتوكيد الحضور؟ لتسطيح الغياب؟ لاحتواء الصديق؟ لتحييد العدو؟…
لأشياء أخرى كثيرة تتولد من بعضها البعض في ردهة العزلة الأبدية؟
رغم وضوحه اللّغوي ومشاعيته البائنة، إلّا أن مصطلح «الحجر المنزلي» بدا غريباً، ونحن نتداوله في ما بيننا، كمن يعيد اكتشاف اللّغة وعلاقته بها تحت ظلال الجائحة الكونية. مفردة «الجائحة»- أيضاً- بدت غريبة بدورها، لولا أنها انتصرت على غرابتها تحت وطأة الاستخدام المُلحّ لها.
هكذا تتخلَّق اللّغة، وتعيد إنتاج ذاتها بذاتها، وإن بكلمات معتادة ومتوفِّرة في خزينتها الضخمة فعلاً. وهكذا تبدأ علاقتنا معها كلّما جدّ جديد، فأضاف لها مفردة أو مصطلحاً، وحتّم علينا اللجوء إليه لتوصيف ما استجد علينا من أحداث وما استجدت بنا من مشاعر أحياناً.
كنت أفكر فعلاً بالحجر المنزلي الذي وجدت نفسي أسيرة لأسواره، معنى ومبنى، لغة وواقعاً ووجوداً، لكنني لم أصل إلى شيء مهم، ذلك أن المصطلحات بطبيعتها المستجدة تبدو مراوغة عندما نستخدمها فعلاً.
أفكِّر بطبيعة هذا الحجر، وما يمكن أن يكون بالنسبة لي، ذلك أنني بحكم طبيعة عملي الصحافي لم ألتزم به حرفياً. في البداية، كان مجرَّد تغيير في المواعيد المعتادة ما بين البيت ومقرّ العمل، ثم تحول إلى إلزام حقيقي قبل أن ينتهي إلى هاجس وجودي كوني. لم تعد الحيل التي نردّدها لنختار منها ما يناسب مزاجنا المتغيّر في ظروف مختلفة عن القراءة، والكتابة، والانشغال بترتيب المنزل، وتذكر المهارات المفقودة في الرسم والخياطة، تجدي في مواجهة الغول المهيمن على الوجود كلّه بأسئلة مرعبة؛ النهايات تبدو أقرب ممّا نتخيَّل ونتوقَّع. كلّ النهايات تطل برؤوسها الغريبة لتساهم في إعادتنا إلى نقطة الصفر، ننتهي لأن نسجن أنفسنا في بيوتنا خوفاً من فايروس يتربّص بنا خارج البيت بقليل؟ لكنه مع هذا قد يراوغنا في لحظة سهو، وبطريقة ما، ليستقر بيننا في الحجر نفسه. من يدري؟ كلّ الاحتمالات مفتوحة للمجهول، فهذا الفايروس ما يزال مجهولاً في طبيعته، ومع كلّ خبر يبدو التناقض حول ما أصبحنا نعرفه عنه حقيقة.
بعد أسبوعين كاملين منذ بدء سريان القرار الرسمي في بلدي بحظر التجول والحجر المنزلي على الجميع معظم ساعات اليوم، مع استثناءات قليلة تتعلَّق بطبيعة الأعمال ومدى الحاجة إليها، اتخذت قرار الالتزام بالحجر المنزلي الكامل، بتوصية من إدارة العمل، على أن أواصل مهماتي الصحافية من البيت عبر الإنترنت. كان الخيار صعباً بالنسبة لي، لكنه كان مهماً وضرورياً بالتأكيد.
ما يسمّونه الحجر المنزلي هو حياتي المشتهاة، فهو عزلة عن الآخرين، وتواصل معهم عبر الصوت والصورة والكلمات، وهو التحام بالذات وبكلّ ما هو حميم فيها. لكن الحياة المشتهاة ينبغي أن يُتخذ قرار ممارستها بحرّيّة تامّة لا بقرار مفروض. هنا تكمن إحدى المفارقات الكبيرة بين ما نتمنى وما يتحقَّق لنا من هذه الأمنيات.
لاحظتُ أن كثيرين يتحدَّثون عن الكتب والأفلام باعتبارها الخيارات الأولى لهم في ظرف الحجر المنزلي، لكنها لم تكن كذلك بالنسبة لي، أعني أنها كانت جزءاً من ظروفي العادية خارج الحجر، فلم يستجد شيء لتتغير علاقتي بها.
لكن الباب انفتح على سبيل العزلة، وحدها، ليعيدني الحجر إلى أمنياتي الصغيرة ومشاغلي المتناثرة. إلى ملفات مفتوحة في حاسوبي الصغير، وأخرى مغلقة في رأسي.. كنت أريد المقارنة بالذي يمكن أن يوفِّره لي الوقت الذي لفرط مجانيته بدا رخيصاً، وما يوفِّره لي القلق الذي لفرط احتشاده في كلّ خلايا جسدي بدا قاتلاً.
في حجري المنزلي لم أكن أرصد في تحوّلات البشر الغريبة حولي سوى صور الطوابير، في الساعات المتاحة للخروج من البيت قبل أن يحلّ موعد حظر التجول. طوابير على الخبز، وأخرى أمام بوابات الجمعيات التعاونية، وثالثة بانتظار أن تفتح صيدلية الحي بابها المهمل ليتسابق الواقفون في الحصول على ما يكفيهم وأسرهم من المعقمات والقفازات والكمامات.. هذا كلّ شيء- حتى الآن- بمواجهة الجنرال (كوفيد) ذي الرتبة رقم (19)، فلا لقاح للوقاية، ولا عقار للعلاج. كلّ ما في الأمر تحوّط مبالغ فيه؛ كي لا تنتهي مؤونة البيت من الطعام، ومستلزمات صحية، لسنا متأكِّدين من مدة وحجم فاعليتها في مقاومة الفايروس.
بدت لي المهمة سهلة، أن أضع الكمامة على وجهي، وألبس القفازين المصنوعين من البلاستيك، وتستقر قنينة المعقم الصغيرة في حقيبتي لاستخدامها عند الحاجة. قلت لنفسي وأنا أتجه إلى بوابة المخبز الآلي للحصول على حاجتي.
كان هناك طابوران طويلان جدّاً أمام بوابتي المخبز الكبير، لكن الذين يقفون فيهما لا يكادون يتجاوزون العشرين رجلاً، في كلّ طابور عشرة رجال فقط.. عندما اقتربت منهم، فهمت أنهم يبتعدون عن بعضهم البعض أثناء الوقوف مسافة لا تقل عن المترين وفقاً لتعليمات وزارة الصحة، وهذا ما جعل الطوابير تبدو وكأنها لا تنتهي لمن ينظر إليها من البعيد.
وقفت وراء آخر رجل في الطابور الأوّل؛ لكن المشرف على التنظيم أشار لي أن أتقدَّم لآخذ حاجتي قبل الجميع باعتباري امرأة وكلّهم رجال. رفضت في البداية حرصاً مني على الالتزام بأخلاقيات النظام، لولا أنه أشار إلى الطابور الثاني لأقرأ اللوحة المثبتة فوق النافذة التي تبيع الخبز والمنتجات الأخرى؛ «شباك النساء».. حسناً، أرضيت ضميري بهذه الحيلة الساذجة، لأتقدّمهم وأخذ حاجتي من بسكويت النخالة وبعض الخبز. عندما أردت إخراج محفظة النقود من الحقيبة بدا لي الأمر مرعباً، لم أستطع فتح الحقيبة، وأنا أحمل الهاتف الصغير بيد، وكيس الخبز والبسكويت باليد الأخرى.. فوضعت الكيس على الأرض لأكمل المهمة التي تضاعفت مخاطرها الآن، وأنا أستلم بقية النقود من البائع بيد، وبيدي الأخرى أحمل الكيس من على الأرض. في طريق العودة، كنت أفكر باحتمالات وجود الفايروس برفقتي الآن. كان الأمر مرعباً، حتى أنني قرّرت ألّا أبادر لأي مهمة تسوق جديدة حتى لا أرى المخاطر بعيني. بعدها بأيام صدر بيان من إدارة المخابز بإغلاق أحد الفروع لاكتشاف حالة إصابة من بين العاملين فيه، مما جعلني أعيد النظر في المهمة كلّها. إلى أين سيؤدِّي بنا انتشار الفايروس أخيراً؟ الموت مرضاً؟ أم الموت جوعاً؟
كانت عزلتي تتضاعف، يوماً بعد يوم، ما بين الكتابة وتلقي الأخبار وحسب.
بعد بضعة أيام يقضيها أحدنا في عزلته، شبه الإجبارية، بعيداً عن أجوائه المعتادة خارج المنزل، تعيده إلى المعنى الحقيقي للكلمات، والأشياء، والظروف، والأزمان، والأماكن ومنها كلمة العزلة.. كمفردة وتصور وكمعنى غامض لغوياً، ووجودياً، وفلسفياً، أيضاً.