ألبير كامو.. الظلّ والضياء

| 07 سبتمبر 2022 |
تمثِّل هذه المقالات المنشورة تحت عنوان «L’envers et l’endroit»، والتي تتفرد مجلّة (الدوحة) في إعادة إحيائها، بترجمة جديدة ضمن ملفِّها الخاصّ، محاولةَ ألبير كامو الأولى في صياغة رؤية فكرية تجاه العالم، والذات، والفنّ، والحياة. وهي محاولة -وإن كانت «تفتقد إلى المهارة» كما وصفها كامو- اعتُبرت، من قِبَل الكثيرين، إعلاناً عن ميلاد مبدع كبير.
نُشِر الكتيِّب أوَّل مرّة في مدينة الجزائر، سنة (1937)، ثم في طبعة ثانية، مع تقديم مطوَّل قيَّم فيه الكاتب كلّ مسيرته الأدبية، سنة (1958). ولم تلقَ الطبعة المحدودة النسخ، في البداية، أيَّ إقبال، وكادت تسقط في النسيان، قبل أن يقرِّر كامو إعادة نشرها بعد طول إلحاح من أصدقائه، وطول عناد منه، كما يقول في مقدِّمته.
مقدّمة ألبير كامو
النصوص المتضمّنة في هذا الكتاب، كُتبت بين سنتَيْ (1935) و(1936)، كنت، حينها، في الثانية والعشرين من عمري. ثم نُشِرت، سنةً بعد ذلك، في الجزائر، في عدد محدود من النسخ. هذه الطبعة لم تعد متوفِّرة، ولطالما رفضت نشر طبعة جديدة.
لم تكن لهذا الرفض أسباب خفيّة، فأنا لم أتراجع عن أيّ شيء ممّا عبَّرت عنه في هذه النصوص، لكن شكلها بدا لي، دائماً، غير موفَّق. الأحكام التي تكوَّنت لديَّ، حينها، رغماً عني، عن الفنّ (وسأشرح ذلك فيما بعد)، منعتني طويلاً من تصوُّر إعادة النشر هذه. غرور، ربما، هذا الذي يجعلني أفترض أن كتاباتي الأخرى كانت موفقة. هل من الضروري أن أوضّح أن المسالة ليست كذلك؟ إنما أنا أكثر حساسية بخصوص هفوات «الظلّ والضياء»، مقارنةً بغيره من أعمالي الأخرى، والتي لا تخفى عني. كيف يمكنني تفسير ذلك إن لم يكن بالاعتراف بأن الأولى تعني وتفضح، بعض الشيء، الموضوعَ الأهمّ عندي؟ بما أن القيمة الأدبية لهذا العمل صارت محسومة، يمكنني الاعتراف، الآن، بأن قيمة الشهادة التي يحملها هذا الكتيّب مهمّة بالنسبة إليَّ. بالنسبة إليَّ؛ لكوني الوحيد المسؤول عمّا يتضمَّنه، ولأنني الملزم، أمامه، بنوع من الوفاء، أنا وحدي أقدِّر عمقه وصعوبته. بودِّي أن أوضِّح السبب. يدّعي بريس باران(1)، دائماً، أن هذا الكتاب هو أحسن ما كتبت. باران مخطئ، لا أقولها -وأنا أعلم مدى صدقه- بسبب ردّ الفعل المتسرِّع الصادر عن كلّ فنّان في مواجهة تطاول أولئك الذين يفضّلون ما كان على ما هو كائن، بل هو مخطئ لأننا، في سنّ الثانية والعشرين، ماعدا حالة الموهبة الخارقة، لا نكاد نعرف الكتابة. لكني أتفهَّم ما أراد العدوّ العارف للفنّ، وفيلسوف التعاطف، باران، قوله. كان يقصد -وهو محقّ- أن في هذه الصفحات، المفتقدة للمهارة، من الحبّ الصادق، أكثر ممّا في كلّ الأعمال التي تلتها.
كلّ فنّان يحتفظ، في جوهره، بنبع فريد يغذّي، طيلة حياته، ماهيَّته، وما يصدر عنه. حين يجفّ هذا النبع تتصلَّب العبقرية، تدريجيّاً، وتتشقَّق. إنها البقاع القاحلة من الفنّ، التي توقَّف ذلك المجرى الخفيّ عن ريّها. حين يصير الشَّعر نادراً، عاصياً، ويغطِّيه الشيب، يصير الفنّان ناضجاً من أجل الصمت أو المجالس الأدبية، وهما سيّان. أمّا أنا، فأعرف أن منبعي يوجد في «الظلّ والضياء»، في عالم الحاجة والنور الذي عشت فيه طويلاً، والذي تحميني ذكراه من الخطرَيْن المتعارضَيْن المحدقَيْن بالفنّان(2): النفور، والإشباع. بدايةً، الفقر لم يكن، أبداً، محنة في حياتي؛ فالنور كان يشملها بنعمه. تمرُّدي، نفسه، كان متبصِّراً بفضله. كان، في معظمه (يمكنني التصريح بذلك دون خداع)، تمرُّداً من أجل الجميع، ومن أجل أن تقوم حياة الجميع في النور. ربَّما، لم يكن قلبي مهيَّئاً، بشكلّ تلقائي، لهذا النوع من الحبّ. لكن الظروف أهَّلتني لذلك. لتصحيح لامبالاة طبيعية، وجدتني على مسافة متساوية بين الفاقة والشمس. الحاجة منعتني من الاعتقاد الخاطئ أن كلّ شيء في التاريخ، يسير على ما يرام تحت الشمس. فيما علَّمتني الشمس أن التاريخ ليس كلّ شيء. أن أغيّر حياتي، نعم، لا العالم الذي جعلت منه عقيدتي. هكذا، بدون شكّ، افتتحت هذا المسار المتعب الذي أنا عليه اليوم، حيث انطلقت، ببراءة، على خطّ توازن، أتقدَّم فيه بصعوبة، دون التأكُّد من بلوغ الهدف؛ بعبارة أخرى، أصبحت فنّاناً، إذا كان صحيحاً أنّ «لا فنّ بدون رفض، وبدون موافقة».
في جميع الحالات، إن الدفء الذي ساد طفولتي منعني من كلّ إحساس بالاستياء. عِشت في ضيق، لكن في نوع من المتعة، أيضاً. كان لديَّ إحساس بقوى لامتناهية؛ توجب عليَّ، فقط، أن أحسن توظيفها. لم يكن الفقر هو العائق أمام هذه القوى. ففي إفريقيا، البحر والشمس مجّانيّان. إنما كان العائق في الأحكام الجاهزة أو في الغباوة؛ إذ كانت أمامي كلّ شروط تطوُّر طبيعتي القشتالية التي تسبَّبت لي بالكثير من الضرر، والتي سخر منها، عن صواب، أستاذي وصديقي جان كرونييه(3)، وحاولت تقويمها بلا جدوى، حتى اللحظة التي أدركت فيها أن الطباع، أيضاً، حتمية. كان من الأفضل، إذن، تقبُّل الكبرياء الشخصي، واستغلاله بدلاً من اتِّخاذ مبادئ أقوى من شخصية المرء، كما يقول شامفورت(4). لكن، وبعد مساءلة ذاتي، يمكنني أن أؤكِّد أنه من بين عيوبي الكثيرة، لا يوجد العيب الأكثر انتشاراً بيننا؛ أعني الرغبة، السرطان الحقيقي الذي ينخر المجتمعات والمذاهب.
الفضل في هذه الحصانة الممتعة، لا يرجع إليَّ. أنا مدين في ذلك، أوَّلاً، لمحيطي الذي كان يفتقد كلّ شيء، تقريباً، دون أن يشتهي أيّ شيء، تقريباً. هذه الأسرة التي لم تكن تعرف حتى القراءة، أعطتني من خلال صمتها، وتحفُّظها، وكبريائها الطبيعي الهادئ، أسمى الدروس التي حصلتُ عليها، والتي يستمرّ مفعولها إلى اليوم. إلى جانب كلّ هذا، كنت منشغلاً، بالاستمتاع بهذه الأشياء، عن الحلم بشيء آخر.
مازلت إلى اليوم، عندما أرى حياة عائلة ثريّة، في باريس، أشعر بالشفقة حيال العزلة التي توحي لي بها هذه الحياة. هناك الكثير من الحيف في هذا العالم، لكنّ هناك نوعاً منه لا يُطرق أبداً، وهو المرتبط بالمناخ. وقد، كنت، دون علمي، ولمدّة طويلة، أحد المستمتعين به. تصلني، حيث أنا، مؤاخذات الخيّرِين الشرسين. فأنا أبدو كأنني أريد تصوير العمّال الفقراء كأغنياء، والبورجوازيِّين كفقراء، من أجل الحفاظ، لمدّة أطول، على العبودية السعيدة للبعض، وعلى السيطرة للبعض الآخر. لا، ليس هذا قصدي. على العكس من ذلك، عندما يقترن الفقر بحياة بلا أفق ولا أمل، والتي اكتشفتها في الضواحي الرهيبة لمدننا، عند بلوغي سنّ النضج، فإن هذا الإجحاف، الأكثر إثارةً للاشمئزاز، يصبح مستنفذاً. ينبغي القيام بأيّ شيء حتى يمكن لهؤلاء الإفلات من الإذلال المزدوج للبؤس والقبح معاً. ومع أني وُلدت فقيراً في حيّ عمّالي، لم أعرف معنى البؤس قبل التعرُّف إلى ضواحينا الباردة.
البؤس العربي الشديد نفسه، لا يمكن مقارنته بهذا الوضع، مع مراعاة اختلاف الأجواء. لكن، بمجرد التعرُّف على الضواحي الصناعية، أظنّ أن الإنسان يشعر بأنه مدنَّس إلى الأبد، وأنه مسؤول عن وجودها.
ألتقي، في بعض المناسبات، أصحاب ثروات لا يمكنني حتى تخيُّلها. لكن الأمر يتطلَّب مني جهداً كبيراً لفهم كيف يمكن للمرء أن يحسد هؤلاء الأثرياء. منذ زمن بعيد، عشت ثمانية أيّام مغموراً بنعَم هذا العالم؛ نمنا على شاطئ تحت أديم السماء، كنت أتغذّى على الفواكه، وأقضي نصف يومي في مياه خالية من البشر. تعلَّمت، في ذلك الوقت، حقيقة جعلتني أتلقّى، دائماً، مظاهر الرفاهية أو الاستقرار، باستهزاء، ونفاد صبر، وأحياناً بغضب. على الرغم من أنني أعيش، الآن، بلا قلق على المستقبل، أي في حظوة، لكنني لا أعرف كيف أتملَّك. ما أملكه، والذي يقدَّم لي، دائماً، دون سعي مني، لا أحتفظ منه بأيّ شيء. وهذا فيما يبدو ليس بسبب البذخ بقدر ما هو ناتج عن شكلّ آخر من البخل؛ أنا بخيل بهذه الحرِّيّة التي تندثر عندما تبدأ المبالغة في التملُّك. أعظم الكماليات لم تتوقَّف، بالنسبة إليَّ، عن التوافق مع نوع معيَّن من العوز. أحبّ المنازل العربية(5)، والإسبانية الخالية من أيّ اثاث. فالمكان الذي أفضِّل العيش، والعمل فيه، حيث لا أكترث للموت (وهذا شيء نادر) هو غرفة الفندق. لم أتمكَّن، أبداً، من الاستسلام لما يسمّى الحياة البيتية، التي غالباً ما تناقض الحياة الداخلية للشخص؛ السعادة المسمّاة (بورجوازية) تضجرني، وترعبني. هذا العجز عن التكيُّف لا يشكِّل أيّ مدعاة للفخر، فقد ساهم بقسط وافر في تغذية نقائصي. أنا لا أشتهي أيّ شيء، علماً أن هذا الاشتهاء من حقّي، لكني لا أحفل كثيراً برغبات الآخرين، وهو ما يفقدني بعض الخيال؛ أي اللطف. صحيح أني اتَّخذت حكمة لاستخدامي الشخصي: «ينبغي إعمال المبادئ في القضايا الكبرى، أمّا بالنسبة إلى الصغرى فالرفق يكفي».مع الأسف، نتَّخذ لنا حِكماً لسدّ الثقوب التي تعتري طبيعتنا الشخصية. الرفق الذي أتحدَّث عنه يسمّى اللامبالاة، وآثاره، فيما يبدو، ليست أقلّ روعة.
أريد التأكيد، فقط، على أن الفقر لا يفترض الرغبة، بالضرورة؛ ففي وقت لاحق، حين سلبني مرض خطير، مؤقَّتاً، قوّةَ الحياة التي كانت تحوّل كلّ شيء بداخلي، وعلى الرغم من الأعطاب الخفيّة والوهن الذي كنت أشعر به، عرفت الخوف والفتور، لكني لم أشعر، قطّ، بالمرارة. هذه العلّة أضافت، بلا شكّ، عقبات أخرى أشدّ خطورة، إلى تلك التي كانت متأصّلة فيَّ، لكنها، في النهاية، زكَّت الترفُّع، تلك المسافة الضئيلة عن الامتيازات الإنسانية التي وقَتْني من الغيظ. هذا الامتياز، عرفت، منذ مجيئي إلى باريس، أنه غير متاح للجميع. ومع ذلك استمتعت به بلا حدود، ولا ندم، وقد أضاء كلّ حياتي، حتى الآن، على الأقلّ. بصفتي فنّاناً، مثلاً، بدأت أعيش في افتتان؛ أي -بمعنى من المعاني- الجنة فوق الأرض. الكلّ يعلم أن العادة في فرنسا، اليوم، تقتضي من كلّ من أراد أن يدشِّن مسيرة أدبية أو أن ينهيها، اتِّخاذ فنّان موضوعاً للسخرية. من جهتي، لم تكن رغباتي الإنسانية، أبداً، «ضدّ ذلك».
الأشخاص الذين أحببتهم كانوا، دائماً، أفضل مني، وأسمى. الفقر -كما عرفته- لم يعلِّمني الكراهية، بل علَّمني نوعاً من الإخلاص، ومن المثابرة الصامتة. وإذا حدث أن نسيت ذلك، فأنا وحدي، مع نقائصي الكثيرة نتحمَّل المسؤولية لا العالم الذي ولدت فيه.
ولعلَّها، أيضاً، ذكريات تلك السنوات هي التي منعتني من أن أكون مكتفياً، أبداً، بممارسة مهنتي. هنا، أودّ التحدُّث، بأكبر قدر من البساطة، عمّا يسكت عنه الكُتّاب عموماً؛ فأنا لا أثير، أبداً، الرضا الذي يبدو أن الكاتب يشعر به أمام الورقة أو الكتاب الناجحَيْن. لا أعلم ما إذا كان الكثيرون يعرفون هذا الإحساس. بالنسبة إليَّ، لا أظنّ أنه سبق لي أن شعرت بأيّ نشوة من قراءة صفحة منتهية. بل سأعترف، بكلّ جدِّيّة، بأن النجاح الذي لاقته بعض كتبي، لطالما فاجأني. طبعاً، نعتاد على ذلك، فيما بعد، وبطريقة سيِّئة للغاية. مع ذلك، لازلت أشعر، إلى حدود اليوم، بأني مجرَّد متدرِّب لدى كُتّاب، أضعهم في المكانة الحقيقية التي يستحقّونها، وعلى رأسهم الكاتب الذي أًهديته هذه المقالات منذ عشرين سنة. للكاتب، طبعاً، أفراحه التي يعيش من أجلها، والتي تكفي لتغمره سعادةً. أمّا بالنسبة إليَّ، فهذه السعادة أجدها حين أضع التصوُّر الأوَّلي؛ أي اللحظة التي ينكشف فيها أمامي الموضوع، عندما تتشكَّل مفاصل العمل أمام حسّ يصير، فجأةً، متبصرِّاً، في تلك اللحظات الجميلة التي يندمج فيها الخيال، تماماً، مع الذكاء. هذه اللحظات تمرّ كما وُلدَت، ويبقى التنفيذ؛ أي العذابات الطويلة.
على مستوًى آخر، تعتري الفنّان بعض مباهج الغرور. فمهنة الكاتب، لاسيّما في المجتمع الفرنسي، هي، إلى حَدّ كبير، مهنة الغرور. أصرّح بهذا بلا ازدراء، مع بعض الأسف قليلاً. في هذه النقطة، أتشابه مع الآخرين؛ فمن يمكنه ادِّعاء خلوَّه من هذه العاهة المثيرة للاستهزاء؟ في نهاية المطاف، في مجتمع محكوم عليه بالحسد وبالسخافة، يأتي يوم يدفع فيه هؤلاء الكُتّاب، بعد أن يكونوا قد صاروا موضوعاً للسخرية، ثمن هذه الأفراح البائسة. لكن، وبصراحة، خلال عشرين سنة من الحياة الأدبية، لم تجلب لي مهنتي إلّا القليل من الأفراح المماثلة، والتي كانت تتناقص مع مرور الزمن.
أليست آثار الحقائق الواردة في «الظلّ والضياء» هي التي منعتني من الاستكانة في الممارسة العلنيّة لمهنتي، والتي دفعتني إلى كثير من حالات الرفض، ولم تسعفني، دائماً، في اكتساب الأصدقاء؟ عندما نتجاهل المجاملة أو التكريم، نعطي لصاحبها انطباعاً بازدرائه، في حين أننا، فقط، نشكّ في ذواتنا. بالمقابل، لو كنت أظهرت ذلك المزيج من الحدّة والمحاباة اللذين يطبعان المسيرة الأدبية، ولو أني بالغت، حينها، في التباهي، لكنت تلقَّيت المزيد من الوّد، لأنني، في النهاية، سأكون قد قبلت المشاركة في اللعبة. لكن، ما العمل؟ هذه اللعبة لا تثيرني! طموح ريبومبري(6)، أو جوليان سوريل(7)، غالباً ما يحيِّرني بسبب سذاجته وتواضعه. في حين أن طموح نيتشه، أو تولستوي، أو ميلفيل(8)، هو ما يشغل بالي، بسبب إخفاقاتهم، دون غيره.
لا أشعر، في أعماق قلبي، بالتواضع إلّا أمام أشكال الحياة الأكثر بؤساً، أو أمام المغامرات الكبرى للعقل البشري. بين الاثنين يكمن، اليوم، مجتمع مثير للضحك.
أحياناً، خلال افتتاح العروض المسرحية، وهي المكان الوحيد الذي ألتقي فيه بما يسمّى، بوقاحة، علية المجتمع الباريسي، أشعر وكأن القاعة ستختفي، وأن هذا العالم، في الحالة التي يبدو عليها، غير موجود. الآخرون، تلك الشخصيات العظيمة التي تصرخ فوق الخشبة، هم من يبدون حقيقيِّين. ولمواجهة الموقف، لابدَّ، إذن، من تذكُّر أن كلّ واحد من هذا النوع من الجمهور له، أيضاً، موعد مع ذاته؛ أنه يعرف ذلك، وأنه، بلا شكّ، سيتوجَّه إلى موعده بعد قليل. بعدها، على الفور، سيصير أكثر ألفةً. فالوحدة توحِّد أولئك الذين يشتِّتهم المجتمع. مع أخذ هذا بعين الاعتبار، كيف يمكن تملُّق هذا العالم، السعي وراء الامتيازات السخيفة التي يمنحها، والقبول بتهنئة كلّ الكُتّاب على كلّ كتبهم، والشكر العلني للناقد المحابي؟ لماذا محاولة إغراء الخصم؟ وعلى أيّ وجه، بالخصوص، ينبغي استقبال هذه المجاملات، وهذا الإعجاب اللذين يستهلكهما المجتمع الفرنسي – بمشاركة الكاتب، أيضاً، لأنه طرف- كما يُستهلَك شراب بيرنو، والمجلّات العاطفية؟ لا أستطيع القيام بأيّ شيء من كلّ ذلك، وهذه حقيقة. ربَّما يكون في هذا الكثير من الكبرياء السلبي الذي أعرف مداه وقوَّته في نفسي، لكن لو كان هذا وحده؛ أي لو تعلَّق الأمر بغروري، فقط، لكنت -على العكس من ذلك- أظهرت الاستمتاع بالمجاملات عوض أن أجد فيها انزعاجاً متواصلاً. لا، الغرور الذي أشترك فيه مع العاملين في مهنتي، أشعر أنه يتفاعل، بشكل خاصّ، مع انتقادات معيَّنة تحتوي على قدر كبير من الحقيقة. أمام المجاملة، ليس الكبرياء هو ما يمنحني ذلك المظهر الشحيح والجاحد الذي أعرفه جيّداً، ولكنه -علاوةً على اللامبالاة المترسِّخة فيَّ كعجز خِلْقي- إحساس خاصّ ينتابني: «ليس هذا ما أريده…» لا، ليس هذا. لذلك فإن السمعة، كما يقال، يصعب، في بعض الأحيان، تقبُّلها إلى درجة أننا نجد نوعاً من الفرح المتصنَّع في القيام بما قد يؤدِّي إلى فقدانها.
في المقابل، من خلال إعادة قراءة «الظلّ والضياء»، بعد كلّ هذه السنوات، أعلم، بشكل غريزي، أمام بعض الصفحات، ورغم نقص المهارة، حينها، أن هذا هو ما كنت أريده. تلك المرأة العجوز، والفقر، والضوء على أشجار الزيتون في إيطاليا، الحبّ المتوحِّد والمعمور، كلّ هذا يشهد، في نظري، على الحقيقة.
تقدَّمت كثيراً في العمر، منذ الوقت الذي كتبت فيه هذه الصفحات، وعرفت الكثير من الأشياء، تعرَّفت إلى ماهيتي، وعرفت حدودي، وتقريباً كلّ نقاط ضعفي، لكني عرفت القليل عن الناس لأن فضولي انصبَّ على مصائرهم أكثر منه على انفعالاتهم، كما أن المصائر كثيراً ما تتكرَّر. عرفت، على كلّ حال، أنهم موجودون، وأن الأنانية -إذا لم يكن بالإمكان التخلُّص منها- عليها أن تحاول أن تكون متبصِّرة. أن يستمتع المرء بذاته، أمر مستحيل؛ أعلم هذا، رغم المواهب الكثيرة المتوفِّرة لديَّ للقيام بهذا التمرين. إذا كانت الخلوة ممكنة (وهو ما أجهله) فسيكون لنا الحقّ في أن نحلم بها كفردوس. أنا، أيضاً، أحلم بها، أحياناً، لكن ملاكَيْن وديعَيْن منعاني، دائماً، من الدخول؛ أحدهما يُظهر وجه الصديق، فيما الآخر على هيئة العدوّ. نعم. أعرف كلّ هذا، كما تعلَّمت ما يكفي، أو يكاد، ما يكلِّفه الحبّ. لكن، بخصوص الحياة نفسها، لم أتعلَّم أكثر ممّا قيل، بتعثُّر، في «الظلّ والضياء».
كتبت بغير قليل من التشديد، في تلك الصفحات، أن «لا حبّ للحياة دون يأس من الحياة». لم أكن أعرف في ذلك الوقت إلى أيّ حَدّ كان ما قلته صائباً. لم أكن قد عبرت، بعد، أزمنة الإحباط الحقيقي. حلَّت، فعلاً، هذه الأزمنة، ودمَّرت كلّ شيء بداخلي، باستثناء، شهية فوضوية للحياة، خصوصاً. ما زلت أعاني من هذا الشغف الخصب والمدمِّر معاً، والذي يسطع حتى في أحلك صفحات «الظلّ والضياء».
نحن، في الحقيقة، لا نحيا إلّا ساعات قليلة، فقط، من حياتنا، كما يقال. هذا صحيح من ناحية، وخاطئ من ناحية أخرى. فالحماسة التوّاقة، في هذه المقالات، لم تنقطع عني أبداً. وخلاصة القول: إنها الحياة في أسوأ حالاتها، وأحسنها. ربَّما رغبت في تقويم أسوأ ما خلَّفته بداخلي. كما عموم الناس، حاولت، قدر المستطاع، تهديب طبيعتي من خلال الأخلاق؛ وهو ما كلَّفني، مع الأسف، الثمن الباهظ. مع العزيمة، كتلك المتوفِّرة لديّ، قد ننجح، أحياناً، في التصرُّف وفقاً للأخلاق، لكن دون أن نتمكَّن من جعلها أسلوباً في الحياة. عندما يكون المرء رجل شغف، فالحلم بالأخلاق يكون بمنزلة تعريض الذات للظلم في الوقت الذي يُتَحدَّث فيه عن العدالة. أحياناً، يظهر لي الإنسان كأنه آلة للظلم؛ وأفكر في نفسي. فإذا كان لديَّ الانطباع، في هذه اللحظة، بأني أخطأت أو كذبت فيما كنت أكتبه، أحياناً، فذلك لأني لا أعرف كيف أفسِّر، بصدق، ما عرّضت له نفسي من ظلم. بكلّ تأكيد، لم أقلْ، أبداً، إني كنت عادلاً، بل سبق وقلت إنه ينبغي لي، فقط، أن أحاول، وإن ذلك كان مشقَّة وشقاءً. لكن، هل الاختلاف بين القولَيْن كبير إلى هذا الحَدّ؟، وهل يمكن، فعلاً، لمَن لم يُحَكِّم العدل في حياته الشخصية، أن يبشِّر به؟ لو أمكن للمرء، على الأقلّ، أن يعيش، وفقاً للشرف، فضيلة الظالم، لكن عالمنا يعتبر هذه الكلمة داعرة؛ تعتبر كلمة (أرستقراطي) من الشتائم الأدبية، والفلسفية. أنا لست أرستقراطياً، الجواب يوجد في ثنايا هذا الكتاب. ها هم أهلي، وأساتذتي، ونسبي؛ ففيهم ما يوحِّدني معهم جميعاً. مع ذلك، نعم، أنا محتاج للشرف، لأنني لم أسمُ بما يكفي لأستغني عنه.
لا يهمّ! أردت، فقط، أن أشير إلى أني -وإن كنت قد قطعت مسافات طويلة منذ هذا الكتاب- لم أتقدَّم بما فيه الكفاية. غالباً ما كنت أتقهقر كلَّما اعتقدت أني في تقدُّم. مع ذلك، كانت أخطائي، وسذاجتي، وأمانتي، دائماً، تعيدني إلى ذلك المسار الذي دشَّنته مع «الظلّ والضياء»، والذي يمكن تتبُّعه في كلّ ما نشرت فيما بعد، ومازلت أتنعَّم به، أحياناً، في بعض صباحات مدينة الجزائر. لكن، إذا كان الأمر كما أقول، فلماذا رفضت، طيلة هذه المدّة، الإدلاء بهذه الشهادة البسيطة؟ بدايةً، لأن هناك في داخلي مقاومات فنّيّة كما في دواخل الآخرين مقاومات أخلاقية أو دينية. المنع، أو فكرة «لا ينبغي القيام بذلك» الغريبة عني كثيراً، بصفتي شخصاً طُبِع على الحرِّيّة، تحضرني كأسير، أسير مفتتن بتقليد فنِّيّ صارم. ربَّما، أيضاً، هذا الحذر يحدّ من فوضويَّتي المتجذِّرة، لكنه -من ثَمَّ- يظلّ مفيداً. فأنا أعرف اضطرابي، وعنف بعض غرائزي، والإهمال الذي لا هوادة فيه، حيث يمكن أن أرتمي. لكي يسمو العمل الفنّي، عليه أن يستنفد، أوَّلاً، هذه القوى الغامضة للروح، لكن ليس دون توجيهها، وإحاطتها بالحواجز حتى يرتفع منسوبها بما يكفي. وحواجزي، ربَّما، ما تزال عالية، للغاية، إلى حدود اليوم. من هنا، تأتي، في بعض الأحيان، هذه الحدّة… بكلّ بساطة، في اليوم الذي يتحقَّق فيه التوازن بين ما أنا عليه وما أكتبه، يومها، ربَّما، أجرؤ على قول هذا، سأتمكَّن من بناء العمل الذي أحلم به، ما أريد قوله، هنا، هو أنه سيكون مشابهاً، بطريقة أو بأخرى، لـ «الظلّ والضياء»، وأنه سيتطرَّق إلى شكل من أشكال الحبّ. يمكن أن نفهم، إذن، السبب الثاني الذي جعلني أحتفظ بمقالاتي الشبابية هذه، لنفسي. الأسرار الأغلى نفشيها بشكل أخرق وفوضوي، كما نخونها تحت قناع متكلّف جدّاً، في حين يستحسن انتظار اكتساب ما يكفي من المهارة لإعطائها شكلاً واضحاً، دون التوقُّف عن إسماع صوتها، وتعلُّم كيفية إدماج السجية والفنّ بنسَب متساوية، تقريباً؛ أي، في النهاية، أن نكون. هذا يعني القدرة على تحقيق كلّ شيء في الوقت نفسه. في الفنّ، إمّا أن يأتي كلّ شيء في وقت واحد، تقريباً، أو لا شيء يأتي على الإطلاق، فلا نار بدون لهب. وقد صرخ ستاندال، ذات يوم: « لكن روحي نار تتألَّم، إذا لم تلتهب». أولئك الذين يشبهونه في هذه النقطة، لا ينبغي لهم أن يبدعوا إلّا من داخل هذا الاضطرام. من اللهب، تخرج الصرخة فوراً، مخلِّفةً كلمات تردِّد، بدورها، صدى هذه الصرخة. أتحدَّث، هنا، عمّا ننتظره نحن جميعاً. الفنّانون غير واثقين ممّا إذا كنّا كذلك، لكنهم واثقون من أننا لسنا شيئاً آخر غير ذلك، يوماً بعد يوم، لنقبل بدخول معترك الحياة.
لماذا -بما أن الأمر يتعلَّق بهذا الانتظار غير المجدي، ربَّما- الموافقة، إذن، على هذه الطبعة؟ أوَّلاً، لأن بعض القرّاء وجدوا ما يكفي من المبرِّرات لإقناعي بذلك(9). ثم يأتي، دائماً، وقت في حياة الفنّان يتوجَّب عليه فيه تقييم ذاته، والتقرُّب أكثر من مركزها، لكي يحاول، فيما بعد، التشبُّث به.
الأمر كذلك، اليوم، ولست في حاجة لشرح المزيد. فإذا لم أُوَفَّق، رغم كلّ هذه الجهود، في بناء لغة خاصّة، وبعث الحياة في الأساطير، وفي إعادة كتابة «الظلّ والضياء»، فلن أكون قد وُفِّقت في أيّ شيء؛ هذه هي قناعتي الغامضة. وعلى أيّ حال، لا شيء يمنعني من الحلم بأنني سأنجح، ومن تخيُّل أني سأجعل في قلب هذا العمل، الصمت الرائع لأمّ، ومجهود رجل، محاولاً إيجاد الإنصاف أو الحبّ اللازم لتوازن هذا الصمت. هذا هو الرجل الذي يجد في حلم الحياة حقائقه، ثم يفقدها على أرض الموت، كي يعود، أخيراً، عبر الحروب، والصرخات، وجنون العدالة، والحبّ، والألم، إلى هذا الوطن الهادئ، حيث الموت نفسه صمت سعيد. هنا، أيضاً… نعم. لا شيء يمنع من الحلم، ولو في الغربة، بما أنني، على الأقلّ، أعلم علم اليقين، أن عمل أيّ إنسان ليس إلّا هذا المسار الطويل لاسترجاع، عبر مدارات الفنّ، الصورتَيْن أو الثلاث صور؛ البسيطة، والكبيرة التي تفتَّح عليها القلب أوَّل مرّة.
لهذا، ربَّما، وبعد عشرين سنة من العمل والعطاء، لازلت أحيا على فكرة أن عملي لم يبدأ بعد. هذا هو، بالضبط، ما وددت تسجيله هنا، منذ اللحظة التي عدت فيها إلى الصفحات الأولى التي كُتِبت بغرض إعادة نشرها
الهوامش
1 – روائي وفيلسوف فرنسي (1897 – 1971). (المترجم)
2 – في كلّ كتاباته وحواراته، كان كامو يتحدَّث عن نفسه باعتباره فنّاناً. (المترجم)
3 – كاتب وفيلسوف فرنسي. صديق الكاتب ومدِّرسه لمادّة الفلسفة خلال المرحلة الثانوية. (المترجم)
4 – شاعر، وصحافي، وفيلسوف أخلاقي فرنسي، عاش خلال القرن الثامن عشر. نُشر عمله الوحيد والأكثر شهرة، بعد وفاته، عام (1795)، تحت عنوان: «أقوال وأفكار، طبائع ونوادر»، مأخوذة من الملاحظات التي تركها مكتوبة بخطّ اليد. (المترجم)
5 – في كلّ كتاباته، يقصد كامو بـ «العربي» كلّ (من) و(ما) هو جزائري، دون تدقيق في أصوله. (المترجم)
6 – شخصية رئيسية في عدّة أجزاء من الكوميديا الإنسانية لـ«أونوغي دو بالزاك». (المترجم)
7 – بطل «الأحمر والأسود» لـ «ستاندال». (المترجم)
8 – هيرمان ملفيل، روائي وكاتب مقالات، وشاعر أمريكي من القرن التاسع عشر. سقط في النسيان بعد وفاته، قبل أن يعاد اكتشافه من خلال تحفته وروايته الأشهر «موبي ديك». (المترجم)
9 – المسألة بسيطة «هذا الكتاب موجود، لكن في نسخ محدودة، تباع بأثمنة باهظة. لماذا من حقّ القرّاء الميسورين، وحدهم، قراءته؟» فعلاً، لماذا؟ (الكاتب).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سخرية
قبل سنتَيْن تعرفت إلى سيِّدة عجوز، مصابة بشلل نصفيّ، اعتقدت أنها ستموت منه. لم يكن لها في هذه الدنيا غير نصفها السليم، فيما أصبح النصف الآخر غريباً عنها. هرمة، مضطربة وثرثارة، أُجبِرت على الصمت والسكون. تظلّ وحيدة لأيَّام طوال. أمِّيّة وضعيفة التفاعل، وهبت كلّ حياتها للربّ. مؤمنة، بدليل أن لها سبحة ومسيح من الرصاص، والقدِّيس يوسف يحمل الطفل يسوع، من الجص. مع عدم يقينها من أن مرضها عضال، كانت تلحّ على ذلك استدراراً للاهتمام، مفوّضة الباقي للربّ الذي كانت مقصِّرة في حبِّه.
في ذلك اليوم، اهتمَّ بها شخص ما. كان شابّاً؛ اعتقد أن هناك حقيقة خفيّة ما، وأن هذه المرأة ستموت، دون أن يشغل نفسه بمحاولة فهم هذا التناقض. لقد اهتمَّ، فعلاً، بغمّ هذه العجوز. هي، من جهتها، أحسَّت بذلك، وكان هذا الاهتمام مكسباً مفاجئاً لها. حدَّثته، بحماس، عن أحزانها، وأنها اقتربت من نهايتها، وأنه يجب إفساح المجال للشباب. هل كانت تشعر بالملل؟ هذا أكيد؛ فلا أحد كان يكلِّمها. كانت، في ركنها، مثل كلب، تفضِّل الموت على أن تكون عالة على أحد ما.
صوتها صار مماحكاً. صوت دَلَّال ومساومة. تفهَّم الشابّ حالتها، لكنه كان يرى أن الاعتماد على الآخرين أفضل من الموت؛ وهذا لا يعني إلّا شيئاً واحداً، ربَّما، هو نفسه لم يكن، أبداً، على مسؤولية شخص ما. فكان يقول لها، بما أنه يرى السبحة بين يديها: «لك الله». لقد صدق، لكنها على هذا المستوى، أيضاً، كانت تتضايق أكثر. فإذا صادف وأطالت في صلاتها، أو إذا تاه بصرها في بعض زخارف النجود، تقول ابنتها: «ها هي ذي تصَلِّي من جديد!. فيمَ يعنيكِ هذا؟ كانت تردّ. فتردّ الابنة: هذا لا يعنيني في شيء، لكنه يثير أعصابي»، فتصمت العجوز، صابّةً على ابنتها نظرات مِلؤها العتاب.
كان الشابّ ينصت إلى كلّ هذا بغمّ شديد وغريب، يضيق به صدره. فتهمهم العجوز: «سترى، عندما تتقدَّم في السنّ، أنها سوف تحتاج هي، أيضاً، لهذا!»
جلس الجميع إلى مائدة العشاء الذي كان الشابّ مدعوّاً إليه. العجوز لا تأكل؛ فالأكلّ عسير على الهضم في المساء. ظلَّت في ركنها، خلف ظهر الشابّ الوحيد الذي أنصت إليها. ولعلمه أنه كان مراقباً، لم يأكل على هواه. كان الوقت يمرّ، ولتمديد هذا اللقاء تقرَّر الذهاب إلى السينما لمشاهدة فيلم مَرِح. قَبِل الشابّ الدعوة دون التفكير في الكائن الكامن وراء ظهره.
قام الجميع إلى المغسلة قبل الخروج. طبعاً، لا مجال لأن ترافقهم العجوز، فإذا لم تمنعها الزمانة وحدها من ذلك، فجهلها سيحول بينها وبين فهم الفيلم. كانت تدَّعي بأنها لا تحبّ السينما. في الحقيقة، هي لا تفهمها. كانت في ركنها مهتمّة بخرزات سبحتها التي تضع فيها كلّ يقينها. الأشياء الثلاثة التي تحتفظ بها تشير إلى النقطة الملموسة حيث يبدأ، عندها، الإيمان. انطلاقاً من السبحة، ومن المسيح أو من يوسف القدِّيس، ومن خلالهم، فتحت فراغاً عميقاً وضعت فيه كلّ أملها.
صار الجميع جاهزين. هاهم يقبِّلون العجوز، ويتمنّون لها أمسيّة طيِّبة. أمّا هي فقد فهمت كلّ شيء، وزمَّت سبحتها، في حركة تنِمّ عن يأس أكثر ممّا تنمّ عن ورع. قبَّلها الجميع. لم يبق غير الشابّ. صافح المرأة بمودّة، واستدار. فيما هي تتابع حركة رحيل الشخص الوحيد الذي حفل لها. لم تكن تريد أن تبقى وحيدة. بدأت، بالفعل، تشعر بهول الوحدة، والأرق الطويل، والخلوة المحبطة. كانت خائفة، معتمدة على الشابّ وحده، ومتعلِّقة به، هو الذي أحاطها ببعض الاهتمام. لم تترك يده، ضغطت عليها، وشكرته بارتباك كي تبرِّر إصرارها. صار الشابّ محرجاً، فيما الباقون بدؤوا، فعلاً، في استعجاله. ينطلق العرض على الساعة التاسعة، وينبغي الوصول باكراً لتجنُّب الانتظار عند شبّاك التذاكر.
أمّا هو، فكان يشعر بأنه أمام أفظع محنة عاشها؛ محنة سيِّدة عاجزة يُتخلَّى عنها من أجل السينما. أراد أن يتوارى، لا يريد أن يفهم، حاول سحب يده. لمدّة ثانية، شعر بكراهية شديدة نحو هذه العجوز، وفكَّر في صفعها بكلّ ما أوتي من قوّة.
تمكَّن، في النهاية، من الانسحاب والمغادرة فيما المريضة، وهي تحاول القيام، معتمدةً على كرسيها، ترى، برعب، تلاشي اليقين الوحيد الذي ارتاحت له، فلا شيء صار يحميها ساعتها. في استسلامها المطلق لفكرة موتها، لم تكن تعلم، بالضبط، ما الذي يخيفها، لكنها كانت تشعر بأنها لا تريد أن تبقى وحيدة، فنَذْر النفس للربّ عَزَلها عن الناس، وجعلها وحيدة. لم تكن تريد هذه العزلة؛ لذلك أجهشت بالبكاء.
كان الآخرون قد وصلوا إلى الشارع. استحوذ على الشابّ ندم شديد. رفع عينيه نحو النافذة المضاءة.. عين كبيرة جامدة في المنزل الصامت، أنامت العين. قالت ابنتها: « تطفئ النور، دائماً، عندما تكون وحيدة. تحبّ أن تبقى في العتمة».
***
كان العجوز مزهوّاً، يقطِّب جبينه. يتصنَّع الحكمة، رافعاً سبّابته، ويقول: « أنا، كان أبي يعطيني خمس فرنكات في الأسبوع، لأستمتع بها حتى السبت الموالي. ومع ذلك، كنت أجد سبيلاً لادّخار بعض المال. فلزيارة خطيبتي كنت أتمشّى في الريف أربع كيلومترات، ذهاباً وإياباً. نعم، أنا أقولها لكم: شباب اليوم لا يعرف كيف يستمتع». كانوا متحلِّقين حول مائدة مستديرة؛ ثلاثة شبّان، وهو العجوز. كان يروي مغامراته البائسة؛ تفاهات يرتقي بها، وإحباطات يمجِّدها. لا يترك أيّ مجال للصمت في حديثه، ويتعجَّل في قول كلّ ما لديه قبل أن ينفض الجمع من حوله. يحتفظ من ماضيه بما يظنّه قد يمسّ مستمعيه. عيبه الوحيد أنه يحبّ أن يجد من يستمع إليه؛ كان يتجنَّب ملاحظة النظرات المتهكِّمة والتعاليق الساخرة. هو، بالنسبة إليهم، العجوز، الذي كان كلّ شيء على ما يرام في زمانه، فيما هو يعتقد أنه الجدّ المحترم الذي تزيده التجربة أهمِّيّةً. الشباب لا يعلم أن التجربة إخفاق، وأنه يجب فَقْد الكثير من أجل فهم القليل. الشيخ عانى كثيراً، لكنه لا يتحدَّث عن ذلك. بالنسبة إليه، من الأفضل الظهور بمظهر سعيد، وإذا كان هذا التصرُّف خاطئاً، فإن خطأه سيكون أكبر لو حاول التقرُّب إلى الناس من خلال مآسيه. ما أهمِّيّة مآسي رجل عجوز إذا كانت الحياة تأخذك بالكامل؟ كان يتكلَّم ويتكلَّم، ويتيه بتلذُّذ في بُحّة صوته المكتوم، لكن هذا لا يمكنه أن يستمرّ. فسعادته تنذر بنهايتها، وانتباه متتبعيه في تراجع. لم يعد مسلِّياً البتة؛ صار عجوزاً فحسب، فيما الشباب يفضلون البليار، وألعاب الورق التي لا تشبه العمل الغبي لكلّ يوم.
سرعان ما أصبح وحيداً، رغم مجهوداته وأكاذيبه ليجعل حكاياته أكثر جاذبيّةً. تفرَّقَ الشباب من حوله دون أيّة مراعاة لعواطفه. المريع في الشيخوخة هو أن يكون المرء وحيداً، لا يجد من يستمع إليه، يُحكَم عليه بالصمت والعزلة. وبهذه الطريقة، يتمّ إخباره أن أجله قريب. عجوز على حافّة الموت، هو عديم الجدوى. إنه مكَدَّر ومخاتل، فليرحل، أو ليصمت، على أقلّ اعتبار. أمّا هو فيتألَّم لأن صمته يجعله يتذكَّر شيخوخته. مع ذلك، نهض ورحل مبتسماً لكلّ من حوله، لكنه لم يصادف غير وجوه لامبالية، يهزّها مرح، لا حَظَّ له منه. قال أحدهم ساخراً: «لا أنكر أنها عجوز، لكننا، أحياناً، في القدور البالية، نحضِّر ألذَّ حساء». عقَّبَ آخر بنبرة أكثر جدِّيّة:«نحن لسنا أغنياء، لكننا نأكل جيّداً. حفيدي يأكل أكثر من والده؛ فإذا كان الوالد يلزمه رطل من الخبز، فالحفيد يلزمه كيلوغرام كامل، الشيء نفسه بالنسبة إلى النقانق وجبنة الكامومبير. أحياناً، حين ينتهي، يردِّد: «هام! هام». ثم يستمرّ في الأكل». يبتعد العجوز. بخطوات بطيئة وصغيرة كحمار العمل الشاقّ، سار على طول الأرصفة الغاصّة بالناس، معكَّر المزاج، دون رغبة في الرجوع إلى المنزل. عادةً، كان يحبّ العودة إلى المائدة ومصباح الغاز والصحون التي تتلمّسها أنامله، وتتعرَّفها، كما كان يحبّ العشاء الصامت، وزوجته الهرمة جالسة أمامه، ولقيمات الطعام الملوكة ببطء شديد. رأس فارغة، وعينان مثبَّتتان وباردتان. الليلة، لن يعود إلى البيت إلا متأخِّراً. سيجد عشاءه في مكانه بارداً، والعجوز قد نامت، دون قلق، بما أنها متعوِّدة على سهراته الطارئة. كانت تقول: «إنه غريب الأطوار»، فكأنها قالت كلّ شيء.
يسير بإصرار خفيف، عجوزاً وحيداً. في نهاية العمر، تتمظهر الشيخوخة كحالة غثيان. كلّ شيء يفضي إلى عدم الانتباه له. يتمشّى، يلفّ عند زاوية زقاق، يتعثَّر فيوشك على السقوط. الأمر سخيف، لكن، ما العمل؟ على الرغم من كلّ شيء، هو يحبّ الخارج، بدل تلك الساعات التي يقضيها في البيت، وقد حجبت عنه الحمّى زوجته في غرفة النوم. في بعض الأحيان، حين يكون وحيداً في البيت ينفتح الباب ببطء، يبقى موارباً للحظة. يدلف رجل بملابس، يجلس مقابلاً له، في صمت، لدقائق طويلة، بدون حراك، كما الباب، من حيث دخل. من وقت إلى آخر، يمرّر يداً على شعره، يتنهَّد بهدوء. يحدّق إليه زمنا طويلاً بالنظرة المثقلة بالحزن نفسها، ثم يغادر في صمت. خلفه، يتردَّد صوت المزلاج. العجوز، ظلّ هناك مرعوباً، وفي جوفه خوف بطعم المرارة والألم. أمّا في الشارع، فلا يكون وحيداً، رغم قلَّة من يقابلهم. حرارته تطربه، خطوه الصغير يتسارع، يخاطب نفسه: «غداً سيتغيَّر كلّ شيء، غداً. قبل أن يكتشف، فجأةً، أن الغد يشبه اليوم، وكذلك بعد الغد، وكلّ يوم. حقيقة لا رجعة فيها تسحقه. مثل هذه الأفكار هي ما يقتل، وإذا لم يتمكَّن الإنسان من تحمُّلها ينتحر، أمّا إذا كان في سنّ الشباب، فإنه يصنع منها نصوصاً.
عجوز، مجنون، نشوان، ستكون نهايته وقورة، منتحبة، باهرة. ستكون ميِّتة ناجحة، أعني في معاناة. سيكون هذا بمنزلة عزاء له. لكن، أين المفرّ؟ لقد شاخ بلا رجعة. الناس يبنون للشيخوخة القادمة. لهذه الشيخوخة التي يتكالب عليها كلّ ما هو عضال، يقدِّمون فراغاً يجعلهم عُزّلاً. كلّ واحد منهم يريد أن يشغل منصب رئيس عمّال من أجل تقاعد في فيلا صغيرة. لكن، حين يتقدَّم بهم العمر، يكتشفون أنهم قاموا بالاختيار الخطأ؛ فهم في حاجة إلى الناس لحماية أنفسهم. أمّا هو فلم يكن في حاجة إلّا لمن ينصت إليه؛ حتى يستيقن من استمراره على قيد الحياة. الطرقات صارت أكثر ظلمة، وأقلّ حركة. فيما أصوات المارّة لازالت تتردَّد، لتصبح أكثر وضوحاً في هدوء المساء. خلف الروابي التي تسيِّج المدينة، ما تزال هناك بقايا من شفق. خلف القمم المُحرَّجة، ينهض دخان كثيف مجهول المصدر، متثاقلاً ومدرّجاً. أغمض الشيخ عينيه، وحيداً، حائراً، ومجرّداً إزاء الحياة التي تجرف من المدينة هديراً، ومن السماء ابتسامة لا مبالية. بدا كأنه قد مات.
هل من الضروري الحديث عن الوجه القبيح لهذه اللوحة الجميلة؟ يمكننا أن نتخيَّل أن العشاء كان جاهزاً، والمرأة العجوز تحضِّر المائدة في غرفة قذرة ومظلمة، جلست، ثم نظرت إلى الساعة، انتظرت قليلاً، بدأت في تناول الطعام بشهيّة. كانت تفكِّر: «إنه غريب الأطوار»، فبدت كأنها قالت كلّ شيء.
***
كانوا خمسة أفراد يعيشون مجتمعين؛ الجدّة، وابنها الأصغر، وابنتها الكبرى، وابنيها. الابن أبكم، والبنت معوَّقة، تفكِّر بصعوبة. أحد الابنين يعمل في شركة تأمين فيما الأصغر يتابع دراسته. في سنّ السبعين، مازالت الجدّة تهيمن على كلّ شيء. فوق سريرها يمكن رؤية صورة لها، حيث تظهر أصغر بخمس سنوات، منتصبةً في فستان أسود جُمِع طوقه برصيعة، من دون أيّ غضن، بعينين كبيرتَيْن، صافيتَيْن وباردتَيْن. كانت على تلك الهيئة المهيبة التي لم تتخلَّ عنها إلّا بفعل التقدُّم في السنّ، والتي كانت تحاول تداركها، أحياناً، في الخارج.
لهاتَيْن العينَيْن الصافيتَيْن، عند حفيدها، ذكرى لا يزال يخجل منها. كانت الجدّة تنتظر زيارة الأقارب لتسأله، بنظرة شاخصة وقاسية: «من تحبّ أكثر؛ أمّك أم جدَّتك؟». تصبح اللعبة أكثر تعقيداً في وجود الأمّ نفسها، ففي جميع الحالات، يردّ الابن: «جدَّتي»، وفي قلبه دفق حبّ كبير لهذه الأمّ الصموت، التي كانت تردّ على استغراب الزوّار: «يفضِّلها؛ لأنها هي التي ربَّته». لكن، أيضاً، لأن العجوز تعتقد أن الحبّ شعور قسري. إحساسها بكونها ربّة أسرة فاضلة كان يجعلها صلبة وغير متسامحة، فهي لم تخنْ زوجها، قطّ، وأنجبت له تسعة أبناء، وبعد وفاته رعت أسرتها الصغيرة بهِمّة. حين تركوا مزرعتهم في الضاحية، جنحوا إلى حَيّ قديم وفقير، عاشوا فيه لفترة طويلة.
في الواقع، هذه المرأة لم تعدم بعض المزايا. أمّا بالنسبة إلى حفيدَيْها اللذين كانا في سنّ الأحكام المطلقة، فلم تكن أكثر من ممثِّلة، فقد عرفوا، عن طريق أحد أخوالهم، قصّة مثيرة. إذ عند قدومه لزيارة حماته، ذات يوم، رآها من الشارع ساكنة عند النافذة، لكنها استقبلته وفي يدها خرقة النظافة، واعتذرت من أجل مواصلة عملها، بسبب ضيق الوقت الذي تسبِّبه لها أشغال البيت. في الواقع، كان كلّ شيء عندها كذلك، بالفعل، فقد كانت تفقد وعيها عقب كلّ نقاش عائلي، بسهولة بالغة. تعاني من تقيُّؤ مؤلم ناتج عن مرض في الكبد، ولم تراعِ أيَّ تكتُّم في ممارسة ذلك، فعوضاً عن الانعزال والتستُّر، كانت تتقيَّأ بصخب في صفيحة نفايات المطبخ، قبل أن تعود شاحبة، دامعة العينين من الإجهاد. كلَّما ترجَّوها لأخذ قسط من الراحة، تذكِّرهم بما ينتظرها في المطبخ، وبالمكانة التي تحتلّها في تدبير أمور البيت: «أنا من أقوم بكلّ شيء هنا». وتضيف: «كيف سيكون حالكم من دوني!».
اعتاد الأطفال على عدم الاكتراث لتقيُّئها، «نوباتها» كما كانت تقول، ولا لتبرُّمها. في يوم من الأيّام، لزمت الفراش، وطلبت عيادة طبيب. أتوا به لمحاباتها، فحسب. في اليوم الأوَّل، شخص الطبيب تعباً عاديّاً، وفي اليوم الثاني قال إنه سرطان كبد، وفي اليوم الثالث، قال إنه يرقان متقدّم. لكن الطفل الأصغر ظلّ يصرّ على أن الأمر يتعلَّق بتمثيلية جديدة، محاكاة متقنة. لم يقلق حيالها نهائيّاً. هذه المرأة اضطهدته بما يكفي لجعله غير متشائم، بخصوص ما يستجدّ أمامه. هناك نوع من الشجاعة اليائسة في الوضوح، ورفض حبّ أحد ما. لكن أن تتصنَّع المرض، هذا ما لا يمكن إخفاؤه. دفعت الجدّة بالمحاكاة حَدّ الموت. في اليوم الأخير، وبمساعدة أبنائها، تحرَّرت من التخمُّر المعوي. خاطبت حفيدها بتودُّد: «أرأيت؟ تخرج الغازات مني كخنزير صغير». بعدها بساعة، فارقت الحياة.
بالنسبة إلى حفيدها، أصبح واضحاً أنه لم يستوعب ولو جزءاً بسيطاً من المسألة. لم يستطع التخلُّص من فكرة أن هذه المرأة قد قامت أمامه بآخر تمثيلياتها، وأقطعها. إذا تساءل عمّا شعر به، حينها، من ألم، فلن يجد أيّ شيء منه. في يوم الجنازة، فقط، بكى، لكن بسبب فورة الدموع الجماعية، وخشية ألّا يكون صادقاً أمام الفقيدة. كان ذلك في يوم شتوي جميل، تخترقه أشعة الشمس. في زرقة السماء، يمكن تخيُّل درجة القَرَس المنمَّق بلون أصفر. كانت المقبرة تشرف على المدينة، ويمكن رؤية الشمس الجميلة الشفافة تأفل، عند الخليج المترنّح من الضوء، كشفة نديّة.
***
كلّ هذا لا يستقيم؟ الحقيقة المرّة: سيّدة يُتخلَّى عنها من أجل سهرة سينمائية، رجل عجوز لا أحد يريد أن ينصت إليه، وموت لا يكفِّر عن أيٍّ من الخطايا. على الجهة الأخرى، كلّ ضوء العالم. ماذا سيحدث لو قبلنا بكلّ شيء؟ هذه ثلاثة أقدار متشابهة، لكنها -مع ذلك- مختلفة. الموت للجميع، لكن لكلّ واحد ميتته. على كلّ حال، لا تزال الشمس تدفئ عظامنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بين (نعم) و(لا)
إذا كان صحيحاً أن الجنان الممكنة، هي تلك التي فقدناها، فإني أدرك حقيقة هذا الشيء الناعم والخارق الذي يسكنني اليوم. الغريب يعود إلى وطنه، وأنا إلى ذكرياتي. سخرية، توتُّر، صمت يعلو كلّ شيء، وهأنذا قد عدت إلى الأصل. لا أريد أن أجترّ الحديث عن السعادة. هذا أخفّ وأيسر بكثير؛ لأنني، من تلك اللحظات التي أستلّ من أعماق النسيان، احتفظت، على وجه الخصوص، بذكرى بكر لمشاعر خالصة، للحظة معلَّقة في الخلود. حقيقتي الوحيدة، تلك الحقيقة التي لا أتذكَّرها إلا متأخِّراً دائماً. نحن نحبّ التصرُّفات المهذَّبة، ومتعة الشجرة في مجالها. ولكي نعيد خلق كلّ هذا الحبّ، قد لا نملك إلّا أمراً واحداً، لكنه يكفي. رائحة غرفة ظلَّت مغلقة منذ زمن بعيد، الصوت المتفرِّد لخطى على الطريق. هذا ما جرى معي، وماذا لو بحبِّي لذاتي صرت، فعلاً أنا، بما أن الحبّ وحده الكفيل بأن يعيدنا إلى ذواتنا؟
تعود تلك اللحظات قويّة بقدر بطئها، ومؤثِّرة بقدر هدوئها وجدِّيَّتها. المساء يوحي بالكآبة، وبرغبة غامضة في السماء المعتمة. كلّ حركة أستعيدها تكشفني أكثر أمام ذاتي. قيل لي، ذات يوم: «الحياة صعبة للغاية.» وأذكر جيِّداً النبرة التي قيل لي بها ذلك. في وقت آخر، همس لي أحدهم: « أسوأ الخطايا هي أن تكون السبب في معاناة أحد ما». حين ينتهي كلّ شيء، يرتوي ظمأ الحياة. هل هذا هو ما نسمِّيه السعادة؟ بينما نسير على طول هذه الذكريات، نغُمُّ كلّ شيء تحت ثوب متكتِّم، فيظهر لنا الموت كخلفيّة من ألوان ذابلة. نعود أدراجنا، نشعر بضيقنا، فنحبّ ذواتنا أكثر. نعم، ربَّما كانت هذه هي السعادة، الإحساس الرئيف بشقائنا.
ذاك المساء، في المقهى العربي، عند أقصى المدينة العربية، أتذكَّر.. لم تكن لحظة سعادة مضت بل شعوراً غريباً. كان الليل قد حَلّ. على الحائط، أُسُود صفراء تجري خلف شيوخ بملابس خضراء، بين نخل ذي خمسة سعوف. مصباح غازي يصدر ضوءاً متقطِّعاً في أحد أركان المقهى، فيما الضوء الحقيقي يصدر من الموقد، أسفلَ فرن صغير تزيّنه مينا من الأخضر والأصفر. اللهب ينير وسط الغرفة، تلفح ومضاته وجهي. أمامي الباب المطلّ على الخليج. صاحب المقهى رابض في ركن، يرمق كأسي الفارغة، وورقة نعناع في قاعها. القاعة خالية، ضوضاء المدينة تصل من أسفلها، وأضواء الخليج تظهر من بعيد. أسمع العربي يتنفَّس بصعوبة بالغة، وعيناه تلمعان في الضوء الخافت. هل هو صوت البحر يأتي من بعيد؟ العالم يتنهَّد في وجهي، بإيقاع طويل، ويجلب لي اللامبالاة والسكينة الخالدة، انعكاسات حمراء كبيرة تحرِّك الأُسُود على الجدران. يصبح الهواء منعشاً. صوت صفارة من الشاطئ. المنارات بدأت في الدوران؛ ضوء أخضر، وآخر أحمر، وآخر أبيض. يستمرّ العالم في تنهُّداته الطويلة. نوع من الغناء الخفيّ يولد من هذه اللامبالاة. وهأنذا قد أُعِدت إلى الوطن. أفكِّر في طفل عاش في حَيّ فقير. ذلك الحيّ، تلك الدار، لم يكن فيها غير طابق واحد وسلالم غير مضاءة. إلى حدود الآن، بعد سنوات طوال، مازال بإمكان الطفل العودة إلى هناك، ولو ليلاً. يعلم أن بإمكانه صعود الدرج بأقصى سرعة، دون أن يتعثَّر ولو مرّة واحدة. جسده هو الآخر مشبع بهذا البيت. ساقاه تحتفظان بالقياس الدقيق لارتفاع السلالم. يده تحتفظ برعب غريزي من الدرابزين، لم يتمكَّن، أبداً، من هزمه؛ كان ذلك بسبب الصراصير.
في مساءات الصيف، يخرج العمّال إلى الشرفات. أمّا الطفل فلم تكن له غير نافذة صغيرة جدّاً. لذلك كانوا يُخرِجون الكراسي أمام البيت لتنسُّم المساء؛ الشارع، وبائعو المبرّدات، والمقاهي المقابلة، وضوضاء الأطفال وهم يركضون من باب إلى آخر، والسماء التي كانت تظهر بين أشجار اللبخ العملاقة، بشكل خاصّ. في الفقر عزلة، لكنها تلك العزلة التي تعطي كلّ شيء ما يستحقّه من قيمة. عند درجة معيَّنة من الثراء، تصبح السماء نفسها، والليالي المرصَّعة ممتلكات عاديّة. أمّا عند أسفل السلم، فتستُرجِع السماء كلّ معانيها؛ نعمة لا تقدَّر بثمن. ليالي الصيف ألغاز تكتنفها النجوم! خلف الطفل ممرّ نتن، وكرسيه الصغير المهترئ، يغرق تحته، لكنه كان يشرب من قلب الليل النقي كلَّما رفع عينيه. أحياناً، يمرّ ترام كبير وسريع، ثم يدندن سكِّير ثَمِل في ركن زقاق، دون تشويش على الصمت السائد.
أمّ الطفل كانت تظلّ صامتة، هي، أيضاً، ذات ظروف معيَّنة، يسألونها: « فيمَ تفكِّرين؟». «في لا شيء»، كانت تجيب، وهي صادقة. هذا كلّ شيء، ولا شيء. حياتها، اهتماماتها، وأبناؤها يكتفون بالحضور، حضور عادي لاتكاد تشعر به. كانت عاجزة، تجد صعوبة في التفكير. لها أمّ فظّة ومهيمنة، تضحّي بكلّ شيء من أجل كبرياء غريزي هشّ، هيمَنَ، لمدّة طويلة، على نفسية ابنتها المهزوزة. بعد أن حرَّرها الزواج، عادت طيّعة، عقب وفاة زوجها الذي مات في ميدان الشرف، كما يقال. في مكان بارز يظهر، في إطار مذهبَّ، صليب الحرب، والوسام العسكري. كما تحتفظ الأرملة، التي تخلَّصت من حزنها منذ مدّة طويلة، بشظيّة من القذيفة، عُثِر عليها في أشلائه، وبعثها إليها المستشفى. نسيت زوجها، لكنها مازالت تتحدَّث عن والد أبنائها. لتربيتهم، تعمل وتمنح أجرتها لأمِّها، التي تربِّيهم بوحشية. حين تضرب الجدّة بقوّة، تخاطبها ابنتها: «لا تضربي على الرأس»؛ لأنهم أطفالها، وهي تحبُّهم كثيراً. تحبُّهم بشكل لم ينكشف لهم، أبداً. أحياناً، كما في تلك المساءات التي يتذكَّرها، بعد عودتها منهكة من العمل (كانت تقوم بالأعمال المنزلية)، تجد البيت خالياً. العجوز في مشاويرها، والأطفال في المدرسة. تتكوَّم على كرسي، عيناها تائهتان، تهيم في ملاحقة الخطوط المتداخلة على أرضية الغرفة الخشبية. حولها، تتمدَّد العتمة، حيث الصمت كدر لا نهاية له. لحظتها، دخل الطفل، مَيَّز الظلَّ النحيف ذا الكتفَيْن الضامرَيْن، ثم توقَّف؛ إنه خائف. بدأ يستشعر الكثير من الأشياء. بصعوبة، شعر بوجوده هو نفسه، تتملَّكه رغبة في البكاء أمام هذا الصمت البهيم. هل كونه يشفق على أمِّه يعني أنه يحبُّها؟ لم يسبق لها أن داعبته، بما أنها لم تعرف ذلك أبداً، ثم تأمَّلها لدقائق طويلة. من شعوره بالغربة عنها، أدرك مدى الألم الذي يحسّ به. لم تشعر بوجوده لأنها كانت صمّاء. بعد قليل، ستعود الجدّة، وستنبعث الحياة؛ الضوء الدائري لمصباح الكيروزين، ومفرش الطاولة المشمَّع، والصراخ والكلمات البذيئة. لكن هذا الصمت يمثِّل، الآن، هدنة، لحظة يصعب قياسها. ولأن الطفل يرى ما حوله غامضاً، يعتقد أن في هذا الاندفاع الذي يسكنه حبّاً لأمِّه. طبعاً، يجب أن يشعر بهذا الحبّ؛ فهي في نهاية الأمر أمّه.
هي لا تفكِّر في أيّ شيء. في الخارج، الضوء والضوضاء، وهنا صمت الليل. الطفل سوف يكبر ويتعلَّم، سيعتنون به، وعليه أن يكون ممتنّاً، كما لو أنهم كانوا يحمونه من الألم. أمّا أمّه فستبقى، دائماً، على صمتها. هو سوف ينمو في ألم، وأن يكون رجلاً هذا هو الأهمّ؛ فجدَّته ستموت ثم أمَّه، ثم هو.
انتفضت الأمّ في مكانها. كانت خائفة. بدا كأبله وهو يراها على هذه الحالة. عليه الانصراف، الآن، لإنجاز تمارينه. قام، وهو طفل، بواجباته. هو اليوم في مقهى حقير. لقد صار رجلاً. أليس هذا ما يهمّ؟ لا ينبغي تصديق ذلك، بما أن تحمُّل الالتزامات، وتقبُّل بلوغ سنّ الرجولة لا يقود إلَّا إلى الشيخوخة.
العربي، لا يزال مقعيّاً في ركنه، يلفّ ذراعيه حول ركبتيه. رائحة البنّ المحمّص المصحوبة بثرثرة حادّة من الشباب، تتصاعد من الأرصفة. قاطرة تصدر صوتها الخفيض والهادئ. هنا، كما كلّ يوم، ينتهي العالم، ومن كلّ آلامه التي لا حدود لها، لا يبقى أيّ شيء، الآن، غير هذا الوعد بالوئام.
اللامبالاة الغريبة لهذه الأمّ! وحدها، العزلة الشديدة عن العالم، تعطيني مقياساً لها. ذات مساء، استُدعِي ابنها الذي أصبح راشداً ليبقى بجانبها. هلع تسبَّب لها في ارتجاج دماغي حادّ. كان من عادتها أن تجلس في الشرفة مساءً. جلست على كرسي، ووضعت فمها على حديد الشرفة البارد والمالح، تراقب مرور الناس. خلفها، تتمدَّد عتمة الليل رويداً رويداً. أمامها، تنوَّرت المتاجر فجأةً. عجَّت الطريق بالناس والأضواء. كانت تائهة في استغراق بلا هدف. في تلك الليلة، برز رجل من خلفها، سحبها، عَنَّفها، ثم فَرَّ هارباً عندما سمع صراخاً. لم ترَ أيّ شيء ممّا حدث، ثم أغمي عليها. كانت ممدَّدة عندما وصل ابنها، الذي قرَّر -بناءً على رأي الطبيب- أن يقضي الليلة معها. تمدَّد على السرير، بجانبها، مفترشاً الأغطية، وكان الفصل صيفاً. ظلّ الخوف الناجم عن الحادث يترَّدد في الغرفة الدافئة. وقع أقدام، وصرير أبواب. في الهواء المثقل تطفو رائحة الخلّ الذي استُعمِل في إنعاشها. أمّا هي فكانت تتقلَّب، وتئنّ، وتفزّ فجأةً، في بعض الأحيان. تسحبه من غفواته القصيرة مبلَّلاً بالعرق. يلقي نظرة على الساعة حيث تتراقص شعلة المصباح ثلاث مرّات، ثم يسقط مجدَّداً في غفوته. لم يدرك كم كانا وحيدَيْن، في تلك الليلة، إلّا بعد ذلك بكثير. وحدهما في مواجهة الجميع. في الوقت الذي كانا يستنشقان فيه الحمّى كان «الآخرون» يغطّون في نومهم. في هذا البيت القديم، بدا كلّ شيء منخوراً. ترامات منتصف الليل تحمل معها، وهي تبتعد، كلّ الرجاء الذي يأتي من الناس، وكلّ اليقين الآتي من ضجيج المدن. يستمرّ الصدى في المنزل، ثم يخبو كلّ شيء، تدريجيّاً. لم يتبقَّ غير حقل كبير من الصمت حيث كان يتصاعد، في بعض الأحيان، الأنين المرعوب للمريضة. أمّا هو فلم يشعر، قطّ، بمثل هذا الضياع.
تلاشى العالم ومعه الوهم بأن الحياة تتجدَّد كلّ يوم. لا شيء عاد موجوداً؛ لا دراساتٍ أو طموحاً، لا اختياراً لمطعم أو أفضليّةً لألوان. لا شيء غير المرض والموت حيث وجد نفسه غارقاً… مع ذلك، في الوقت الذي كان فيه كلّ شيء ينهار، استمرّ هو على قيد الحياة، بل تمكَّن من النوم، لكن ليس دون أن يأخذ معه الصورة المحبطة والناعمة لشخصَيْن في عزلة. لاحقاً، بعد ذلك بمدّة طويلة، لابدَّ أن يتذكَّر هذه الرائحة؛ مزيج العرق والخلّ. ويتذكَّر اللحظة التي شعر فيها بالمشاعر التي تربطه بوالدته. كأنها الشفقة الهائلة لقلبها، وقد انتشرت حوله، وتجسَّدت أمامه، تلعب، بجدِّيّة، ودون أدنى خداع، دورَ المرأة المسنّة الفقيرة ذات المصير المثير للشفقة.
النار تخبو تحت الرماد، في الموقد. تستمرّ الأرض في تنهُّدها. دربوكة تُسمِع دقّاتها المتقطِّعة. يرافقها صوت ضحكة مكتومة. الأضواء تتقدَّم نحو الخليج؛ مراكب الصيد تعود إلى المرفأ.
المثلَّث الذي يظهر من السماء، من موقعي، تخلَّص من غيوم النهار، مرصَّعاً بالنجوم، يرتجف تحت أنفاس صافية، وأجنحة الليل الصامتة ترفرف بهدوء حولي. إلى أيّ مدى ستمتدّ هذه الليلة، التي لم أعد فيها ملكاً لنفسي؟ هناك حكمة خطيرة في كلمة البساطة. والليلة، أتفهَّم أن المرء قد يرغب في الموت لأنه، في ضوء شفافية معيَّنة للحياة، لا شيء يهمّ. رجل يكابد ويتحمَّل مأساةً بعد أخرى، يصطبر عليها، يطمئنّ لمصيره. الكلّ يحترمه، ثم، ذات مساء، لا شيء؛ التقى صديقاً أحبَّه كثيراً، وهذا الأخير كلَّمه بشرود. عند عودته إلى المنزل، انتحر الرجل. ثم نتحدَّث عن الأحزان الحميمة والمآسي الخفيّة لا، وإذا كان لابدَّ من سبب ما، فقد انتحر لأن صديقاً تحدَّث إليه غير مكترث به؛ لذلك كلَّما ظننت أني أختبر المعنى العميق للعالم، وجدت أن بساطته هي ما يثيرني. أمّي.. ذاك المساء، ولامبالاتها الغريبة.
في وقت ما، عشت في (فيلا) في الضواحي، وحيداً، رفقةَ كلبٍ وزوج من القطط وصغارهما. لم تتمكَّن القطّة من إطعام صغارها. كانوا يموتون الواحد تلو الآخر. ملؤوا المكان بالقاذورات. كلّ مساء، عند عودتي إلى البيت، أجد أحدها متصلِّباً ومنقبض الشفتَيْن. في أحد المساءات، وجدت آخر الصغار وقد أكلت القطة الأم نصفه. بدأ بالتعفُّن. اختلطت رائحة الموت بالبول. جلست وسط هذا البؤس، يدي في القمامة، أستنشق رائحة العفن، أراقب الشرر المجنون والبرّاق في العينَيْن الخضراوَيْن للأمّ الجامدة في أحد الأركان. نعم، كان الأمر كذلك ذاك المساء. عند درجة معيَّنة من القفر، لاشيء يؤدِّي إلى أيِّ شيء. لا الأمل ولا اليأس لهما ما يبرِّرهما. والحياة كلُّها تتلخَّص في صورة. لكن، لماذا تتوقَّف عند هذه النقطة بالذات؟ الأمر بسيط، كلّ شيء بسيط، في أضواء المنارات، أخضر وأحمر وأبيض؛ في نداوة الليل والروائح المتصاعدة نحوي، من المدينة، ومن القاذورات.
إذا كنت أسترجع صورة من هذه الطفولة، هذا المساء، فكيف لا أستوعب درس الحبّ والفقر الذي يمكن أن أستخلصه منها؟ بما أن هذه اللحظة هي بمنزلة فسحة بين (نعم) و(لا)، فإني أترك، لساعة، أخرى، الاختيار بين حبّ الحياة، والنفور منها. أجل، تحصيل صفاء وبساطة الجنان المفقودة، لا غير؛ في صورة واحدة. هكذا، ومنذ زمن غير بعيد، في منزل بحيِّ قديم، ذهب ابنٌ لزيارة والدته. جلسا متقابلَيْن، في صمت، لكن حين تلتقي نظراتهما:
– ماذا هناك أمّي؟
– لا شيء.
– هل تشعرين بالملل؟ ألا أتكلَّم بما يكفي؟
– « لم تكن، أبداً، كثير الكلام». تقولها وابتسامة جميلة وصادقة تذوب على وجهها. كان ما قالته صحيحاً، فهو لم يحادثها أبداً. لكن، في الحقيقة، ما الحاجة إلى ذلك؟ في الصمت، تصبح الصورة أكثر وضوحاً. هو ابنها، وهي أمّه. يمكنها أن تقول له: «أنت تعلم هذا». تجلس على حافّة الأريكة، جامعةً رجلَيْها، ويداها مثبَّتتان عند ركبتَيْها. هو، على كرسيِّه، قلَّما ينظر إليها، يدخِّن بلا انقطاع. يحفّ بهما الصمت.
– لا ينبغي أن تدخِّن بهذا الشكل.
– فعلاً.
كلّ ما يقع في الحيّ يصل عبر النافذة: صوت الأكورديون القادم من المقهى المجاور، حركة المرور التي تتسارع في المساء، رائحة أسياخ الشواء التي تُقَدَّم رفقة خبز متمغِّط، طفل يبكي في الشارع. تنهض الأمّ وتستأنف الحياكة. أصابعها متيبِّسة بسبب التهاب المفاصل. تعمل ببطء، تعيد الغرزة نفسها ثلاث مرّات، أو تفتق صفاً كاملاً في خشخشة مكتومة.
إنها صدرية صغيرة، سأرتديها مع ياقة بيضاء، وستكونان رفقة معطفي الأسود؛ ردائي الشتوي.
ثم قامت لتشعل النور.
«الليل يقبل باكراً الآن»، كان الفصل بين ما بعد الصيف وما قبل الخريف. صوت طائر السمام يتردَّد في السماء الهادئة.
– هل ستعود عمّا قريب؟
– لكني لم أرحل بعد. لماذا تطرحين هذا السؤال؟
– لا شيء. فقط، كي أكسر الصمت. (يمرّ ترام، ثم سيارة).
– هل صحيح أني أشبه والدي؟
– أوه جدّاً. طبعاً، أنت لم تعرفه. كنت في شهرك السادس حين توفِّي. فقط، لو كان لك شارب صغير!
تكلَّم عن والده لأجل الكلام فحسب. لا ذكرى ولا عاطفة تربطه به. رجل كغيره من الرجال، من دون شكّ، رحل وهو متحمِّس جدّاً. أصيب في لامارن، شُجَّ رأسه. قضى أسبوعاً يحتضر، في حالة عمًى، ثم دُوِّن اسمه على نصب الموتى في بلدته.
– في الحقيقة، موته أفضل. كان سيعيش كفيفاً أو مجنوناً؛ لذا، المسكين…
– أجل هذا صحيح.
ما الذي يبقيه، إذن، في هذه الغرفة؟ إن لم يكن اليقين من أن الواقع هو، دائماً، الأفضل، الإحساس بأن كلّ بساطة العالم العبثية قد التجأت إلى هذه الحجرة.
– هل ستعود؟ أعرف أنك منشغل. أقصد، من وقت إلى آخر… ولكن، في هذه اللحظة، بالذات، أين أنا؟ وكيف أفصل هذا المقهى المهجور عن غرفة الذكريات تلك؟ لا أعرف، بالضبط، إن كنت أحيا تلك اللحظات أم أتذكَّرها! أضواء المنارات تظهر من هنا، والعربي ينتصب أمامي، ويخبرني أنه سيغلق المقهى. عليَّ الانصراف. لا أريد النزول عبر هذا المنحدر الخطير بعد الآن. صحيح أنني أنظر، للمرّة الأخيرة، إلى الخليج وأضوائه، لكن ما أشعر به ليس الأمل في أيّام أفضل، بل لامبالاة هادئة وفطرية نحو كلّ شيء، ونحو نفسي أيضاً. يجب كسر هذا المنحنى الرخو والبسيط جدّاً، وأنا بحاجة إلى صفائي الذهني. نعم، الحياة بسيطة. الناس هم من يجعلونها معقَّدة؛ لذلك دعهم يتوقَّفوا عن اختلاق القصص، لا ليقولوا عن محكوم بالإعدام: «بهذا الحكم، سيؤدّي ما عليه من ديون نحو المجتمع»، بل ليقولوا: «سنضرب عنقه». يبدو هذا الاختلاف تافهاً، لكنه يُحدث فرقاً طفيفاً، ثم إن هناك من الناس من يفضِّلون مواجهة مصائرهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بين القنوط والافتتان
وصلت إلى براغ عند الساعة السادسة مساءً. أخذت حقائبي إلى مستودع الأمتعة. أمامي ساعتان للبحث عن فندق. انتابني إحساس غريب بالحرِّيّة بعدما تخلَّصت يداي من عبء الحقائب. غادرت المحطّة، وتمشَّيت في الحدائق لأجد نفسي، فجأةً، وسط شارع وينسيسلاس، الذي كان مكتظّاً حينها. حولي مليون من البشر تقريباً، عاشوا حتى الآن، ويعيشون، دون أن يصلني أيّ صدى لوجودهم؛ فقد كنت بعيداً بآلاف الكيلومترات عن وطني المألوف، ولم أكن أفهم لغتهم. كلّهم يسيرون بسرعة. يتجاوزونني، ينفصلون عني. فأفقد توازني.
كان معي القليل من المال، يكفيني لستّة أيّام. يُفترض، بعدها، أن يلتحق بي أصدقائي. لكنني تشوَّشت من هذا الأمر أيضاً. بدأت بالبحث عن فندق متواضع. كنت في المدينة الجديدة، وكلّ الفنادق التي تظهر أمامي تتدفَّق أنواراً وضحكاً ونساءً. أسير بسرعة. شيء ما في هذه المشية المتسارعة يوحي لي بكوني في حالة فرار. وصلت منهكاً إلى المدينة العتيقة في الساعة الثامنة، حيث جذبني فندق متواضع المظهر، بمدخل صغير. دخلته، عبّأت ورقة المعلومات، ثم أخذت مفاتيح الغرفة رقم (34) في الطابق الثالث. فتحت الباب فوجدتني في غرفة فخمة للغاية. بحثت عن السعر، فكان ضعف ما ظننت. أصبحت مسألة المال شائكة. سأعيش في ضيق، في هـذه المدينة الكبيرة. أخذ التشويش الغامض الذي انتابني قبل هذه اللحظة، يتحوَّل إلى قلق واضح. صرت غير مرتاح. أشعر بالفراغ والتقوقع، ثم أستعيد بعض الصفاء، بما عُرِف عني دائماً، عن خطأ أو عن صواب، من عدم اكتراثي بالأمور المتعلِّقة بالمال. لكن، ما الداعي لهذا التخوُّف الأبله الآن؟ بدأت أفكّر فيما ينبغي عمله. أشعر بالجوع، وعليّ المشي مجدَّداً، بحثاً عن مطعم متواضع. لا يمكنني صرف أكثر من عشر كرونات للوجبة الواحدة. من بين كلّ المطاعم التي صادفت، كان أرخصها هو الأقلّ ترحيباً. استطلعته جيئةً وذهاباً، إلى أن انتبه مَنْ في الداخل لتصرُّفي. دخلت، وكان قبواً ضعيف الإنارة، تزيِّنه جداريات مثيرة. الزبناء يجلسون في فوضى، فتيات يدخنَّ، ويتجادلن بنبرة جادّة في أحد أركان المطعم، رجال، معظمهم شاحبون بلا ملامح عمريّة، يتناولون وجباتهم. النادل، رجل ضخم، ببدلة مدسّمة، يتقدَّم نحوي بوجه عظيم خالٍ من أيّ تعبير. بسرعة، وبلا تروٍّ، أشرت إلى طبق في القائمة غير المفهومة. لكن، يبدو أن الأمر يحتاج إلى مزيد من الشرح. يسألني النادل، بلغته التشيكية، فأجيبه بما توفَّر لي من لغة ألمانية. لا يفهمني. أشعر بالحنق. نادى على إحدى الفتيات، فتقدّمت نحوي بتلك المشية المعهودة؛ اليد اليسرى على الورك، وسيجارة في اليد اليمنى، وابتسامة إثارة. تجلس على مائدتي وتسألني، بلغة ألمانية أسوأ من تلك التي أتكلَّمها أنا، على ضعفها. أصبح كلّ شيء واضحاً. كان النادل الماكر يريدني أن أختار طبق اليوم. فقبلت بذلك. تستمرّ الفتاة في التحدُّث إليّ، لا أفهم أيّ شيء ممّا تقول. وبتلقائية، سايرتها بنبرة جدِّيّة، لكني كنت غائباً عنها. كلّ شيء حولي يغيظني، يحيِّرني، لم أعد أشعر بالجوع. يعاودني الألم في مكمنه، وانقباض في المعدة. أكتفي بكمِّيّة صغيرة من الشراب، لأنني أعرف حدودي. وصلت طلبيَّتي، تذوَّقت الطعام؛ كان خليطاً من السميد واللحم الذي صار مقزّزاً بفعل كمِّيّة ضخمة من الكمون، لكنني كنت أفكر في شيء آخر، أو -بالأحرى- لا أفكِّر في شيء، مركّزاً النظر في الفم الضخم والضاحك للمرأة المقابلة لي. هل تتوقَّع مني دعوتها؟ إنها قريبة جدّاً، تلتصق بي. صددتها بحركة تلقائية؛ كانت ذميمة، وقد اعتقدت، دائماً، أن تلك الفتاة لو كانت جميلة، لكنت نجوت من كلّ ما تلا ذلك.
كنت خائفاً من المرض بين أناس قد يستهزئون بي، وأكثر خوفاً من أن أبقى وحيداً في غرفتي، بلا مال ولا همّة، حبيس ذاتي وأفكاري البائسة. لا زلت، إلى اليوم، أتساءل، مع بعض الضيق: كيف أمكنني التخلُّص من ذلك الكائن المرعوب والجبان الذي كنته حينها؟. غادرت المطعم، تمشَّيت في المدينة العتيقة، لكني كنت عاجزاً عن الاستمرار في مواجهة ذاتي لمدّة أطول، فعدت مسرعاً إلى الفندق، واستلقيت مترقِّباً نوماً لم يتأخَّر كثيراً.
البلد الذي لا أشعر فيه بالملل هو بلد لا يعلِّمني أيّ شيء. بمثل هذه الأفكار كنت أحاول تحفيز معنوياتي. لكن، هل عليّ وصف الأيّام التي تلت، بالتفصيل؟: كنت أعود إلى مطعمي يوميّاً، صباح مساء، متحمِّلاً الأكلة المقزِّزة نفسها، إذ كانت ترافقني طيلة النهار رغبة دائمة في التقيُّؤ، لكني لم أستسلم لها، آخذاً في الاعتبار ضرورة التغذّي. ثم ما أهمِّيّة ذلك مقارنةً بما كان عليَّ تحمُّله في البحث عن مطعم آخر، وأكلة أخرى؟ هنا، على الأقلّ، صرت زبوناً، يتحدَّثون معي، ويبتسمون لي. من جهة أخرى، بدأ القلق يستبدّ بي. بالغت في التركيز في ذلك الإزعاج الحادّ في ذهني. قرَّرت وضع برنامج منظَّم لأيّامي، وتوزيع نقط ارتكاز فيها: البقاء في الفراش أطول مدّة ممكنة، لجعل يومي أقصر، ثم أستعدّ بعدها لاكتشاف المدينة بشكل معَدّ سلفاً. أَتيهُ في الكنائس الباروكية الفخمة، محاولاً العثور فيها على ملاذ، لأخرج من هذا اللقاء المحبط مع ذاتي، أكثر فراغاً ويأساً. أسير على طول نهر الفلاتفا، وسدوده المحتقنة. أقضي ساعات طوالاً في حيّ هرادشاني الكبير، الخالي والهادئ، تحت ظلّ كاتدرائيَّته وقصوره، في وقت أخذت فيه الشمس في الانحناء. ذعرت عند انتباهي لصدى خطوي المنفرد يتردَّد في الأزقّة. تناولت عشائي باكراً، وذهبت إلى الفراش في الثامنة والنصف. كانت الشمس تنازعني نومي.
كنائس، وقصور، ومتاحف. حاولت التخفيف من قلقي بزيارة الآثار الفنّيّة المنتشرة في المدينة. حيلة تقليدية، أردت بها، دون جدوى، تذويب ثورتي في الكآبة. وما إن أغادر الأمكنة حتى أعود غريباً كما كنت. مع ذلك، في إحدى المرّات، وأنا في دير باروكي، عند طرف المدينة، ساعةَ سكينة، الأجراس تُقرَع ببطء، وعناقيد الحمام ترحل عن البرج القديم، ثمّة شيء مثل رائحة العشب والعدم، أثار في نفسي صمتاً مسكوناً بالدموع، جعلني على مقربة من الخلاص. عقب عودتي إلى الفندق، مساءً، كتبت ما سيلي دفعةً واحدة، فأنا أنسخه هنا بأمانة؛ لأنني وجدت في تركيزه تعقيدات ما كنت أشعر به حينها: «وأيّة فوائد غير هذه يمكن تحصيلها من السفر؟! صرت دون أقنعة تسترني. مدينة لا أستطيع قراءة إشاراتها، حروف غريبة لا ترتبط بأيّ شيء اعتيادي، بلا أصدقاء، وبلا أيّة تسلية. أعرف أن لا شيء يمكنه أن ينتشلني من هذه الغرفة، حيث يصلني ضوضاء مدينة غريبة عني، ليأخذني نحو ضياء ناعم لبيت أو ملاذ محبوب. هل أستغيث، أصرخ؟ لن تستجيب غير وجوه غريبة. كنائس، ذهب وبخور، كلّ شيء يطوِّح بي نحو حياة يوميّة، يدفع قلقي ثمناً لكلّ شيء فيها. ثم تُرفَع الستارة، بهدوء، عن العادات، والتصفيف الوثير للتصرُّفات والكلمات التي يغفو عندها القلب، ينكشف، أخيراً، الوجه الكالح للتوتُّر. يصير الإنسان -وجهاً لوجه- مع ذاته؛ أتحدّاه أن يكون سعيداً، لحظتها… مع ذلك، فمن هذه الزاوية يلهمه السفر. تنافر كبير يُفتَعل بينه وبين محيطه. هذا القلب الهشّ تصله موسيقى العالم بيسر أكبر. في حالة الفراغ هذه، تصير الشجرةُ الأقلّ شأناً، الصورةَ الأكثر رقّةً ونعومة. أعمال فنّيّة، وابتسامات نسوة، أجناس من البشر منغرسة في أراضيها، ومعالم تختزل العصور، مشهد مؤثِّر وحسّاس ذاك الذي يشكِّله السفر. ثم، آخر اليوم، في غرفة الفندق، شيء ما ينقبض مجدَّداً، بداخلي، كأنه ظمأ الروح».
عليَّ أن أعترف بأن كلّ هذا لم يكن غير قصص للنوم. كما يمكنني أن أعترف، الآن، أنني لا أحتفظ، من براغ، إلّا برائحة الخيار المنقوع في الخلّ، الذي يباع في كلّ أركان المدينة، لتناوله في أثناء التنزُّه، والذي كانت رائحته الحادّة واللاسعة توقظ قلقي، وتعمِّقه كلَّما تجاوزت عتبة الفندق. احتفظت بهذا، وببعض نغمات الأكورديون. تحت نوافذ غرفتي، أعمى أكتع يجلس على آلته، يثبِّتها بردف، ويعزف باليد السليمة. دائماً، النغمة الطفولية الناعمة التي توقظني في الصباح ذاتها، لتضعني، فجأةً، أمام الواقع المرّ، حيث كنت أتخبَّط. مازلت أتذكَّر أنني كنت أتوقَّف، بشكل مفاجئ، على ضفاف نهر الفلاتفا، مأخوذاً بتلك الرائحة، وبذلك اللحن، منكفئاً في قعر ذاتي، أهمس لنفسي: «ماذا يعني هذا؟ ماذا يعني هذا؟» لكن، بلا شكّ، كنت لم أصل، بعد، إلى الأقاصي.
اليوم الرابع، العاشرة صباحاً، أستعدّ للخروج. وددت زيارة مقبرة يهودية، لم أتمكَّن من العثور عليها بالأمس. طرقٌ على باب غرفة مجاورة. لحظة صمت، ثم طرقٌ من جديد، لمدّة أطول، هذه المرّة، دون جدوى فيما يبدو. خطوات بطيئة تنزل السلَّم. دون إعارة انتباه للأمر، وبلا تفكير، قضيت بعض الوقت في قراءة طريقة استعمال معجون الحلاقة، الذي بدأت استخدامه منذ شهر، تقريباً. كان يوماً كئيباً. ضوء نحاسيّ ينزل من السماء الملبَّدة على قباب المدينة العتيقة، وأبراجها. بائعو الصحف يعلنون، كما كلّ صباح، عن جريدة «بارودني بوليتيكا». أجاهد للتخلُّص من حالة الخدر التي كنت فيها. عندما هممت بالخروج، صادفت عامل خدمة الغرف مسلَّحاً بمجموعة من المفاتيح. توقَّفت. طَرَق باب الغرفة مجدَّداً. حاول فتحها دون أن يتمكَّن من ذلك. الغرفة مقفلة من الداخل. يطرق مجدَّداً، تبدو الغرفة خالية. كنت مغموماً إلى درجة الضيق. غادرت دون رغبة في معرفة ما وقع. في شوارع براغ، لاحقتني هواجس مؤلمة. كيف يمكنني نسيان الوجه السخيف للعامل، وحذائه الملمَّع والمثني بشكل غريب، وزرّ سترته الضائع؟ تناولت غذائي بامتعاض شديد. في حدود الثانية زوالاً، عدت إلى الفندق.
كان العمّال يتهامسون في البهو. صعدت الطوابق لأجد نفسي، بسرعة، أمام ما توقَّعته، وكان فعلاً كذلك: باب الغرفة موارب بشكل لا يسمح برؤية أكثر من جدار كبير مطليّ بالأزرق، لكن الضوء الباهت الذي سبق أن تحدَّثت عنه، كان يعكس ظلّ جثّة ممدَّدة على السرير، بينما ظلّ شرطيٌّ يحرسها. الظلّان يتقاطعان عند الزاوية القائمة للجدار. ذلك الضوء هزَّني. كان ضوءاً صادقاً، ضوءاً حقيقيّاً للحياة في هذا الزوال، ضوءاً أثار انتباهي إلى كوني على قيد الحياة، فيما كان الرجل ميَّتاً، وحيداً في غرفته. كنت أعلم أنه ليس انتحاراً. دخلت غرفتي مسرعاً، واستلقيت على السرير. رجل ككثيرين سواه، إذا صدق الظلّ، قصير القامة، بدين. مات قبل مدّة طويلة بلا شكّ. واستمرَّت الحياة في الفندق، إلى أن فكَّرَ عامل الخدمة في السؤال عنه. جاء إلى هنا، دون أن يرتاب من أيّ شيء، ومات وحيداً. خلال ذلك، كنت أنا أقرأ غلاف علبة معجون الحلاقة. قضيت كلّ الزوال في حالة يصعب وصفها. كنت مستلقياً، رأسي فارغ، وقلبي منقبض بشكل غريب، أقلِّم أظافري ثم أعُدّ خطوط الأرضيّة الخشبية «أختبر ما إذا كان بإمكاني العدّ إلى الألف…». عند الخمسين أو الستين، يختلط عليّ الأمر. لا أتمكَّن من تخطّي هذا الرقم. أصوات الخارج لم تكن تصلني. لكن، في المجاز، صوت مكتوم لامرأة تقول باللغة الألمانية: «لقد كان رجلاً طيِّباً». فكَّرت، بأسًى، في مدينتي، على ضفاف الأبيض المتوسِّط، في مساءات الصيف التي أحبُّها، والتي كانت منعشةً وهادئةً، تحت ألوان الغروب، وحافلةً بالنساء الشابّات الجميلات.
لم أتفوَّه بأيّة كلمة منذ مدّة طويلة، وقلبي يتفجَّر صرخاتٍ وثوراتٍ مكبوتة. كنت سأبكي كصبيّ، لو فتح لي أحد ذراعيه وضمَّني. عند نهاية الزوال، منهوكاً، أحدّق، بجنون، في المزلاج، رأسي خالٍ من كلّ تفكير، أدندن نغمة آكورديون شعبية. حينها، لم يكن بإمكاني المضيّ بعيداً. لا وطن، لا مدينة، لا غرفة، ولا اسم، لا جنون، ولا مكاسب، لا خزي، ولا إلهام، هل سأتعلَّم أم سأنمحق؟ طَرْقٌ على بابي. لقد وصَلَ أصدقائي. وصلت النجدة، لكنها وجدتني محبطاً. أظنني قلت لهم: «سعدت بلقائكم مرّة أخرى»، لكنني على يقين من أن اعترافاتي توقَّفت عند هذا الحدّ، وأني بقيت في أعينهم الشخص الذي عرفوه من قبل.
غادرت براغ بعد فترة وجيزة. بالطبع، كنت مهتمّاً بما رأيته بعد ذلك. يمكنني تذكُّر ساعة وجودي في المقبرة القوطية الصغيرة في بوتزن، والأحمر القاني لزهرة الجيرانيوم، والصباح الأزرق. يمكنني وصف سهول سيليزيا الشاسعة، القاسية والقاحلة. فقد عبرتها في الصباح الباكر. سرب كثيف من الطيور يمرّ خلال صباح مضبَّب، ولزج فوق أراضٍ موحلة. أحببت، أيضاً، مورافيا المعتدلة والهادئة، ومناظرها الصافية، ومساراتها المحفوفة بأشجار البرقوق ذي المذاق اللاذع. لكني أحتفظ، أيضاً، في أعماقي، بسدَر أولئك الذين أطالوا النظر في صدع، دون قرار. حللت في فيينا، ثم غادرتها بعد أسبوع، بقيت أسير ذاتي.
مع ذلك، وأنا على متن القطار من فيينا إلى البندقية، كنت أتوقَّع شيئاً ما. كنت كنقِهٍ يتغدّى الحساء فقط، ويفكِّر في شكل أوَّل لقمة خبز سيتناولها. ضوء ينبثق. أعلم ذلك الآن؛ كنت، حينها، مستعدّاً للسعادة. سأقتصر على الأيّام الستّة التي قضيتها على رابية قرب فيتشينزا. ما زلت هناك، أو -على الأصح- ما زلت أجدني هناك في بعض الأحيان. غالباً ما أستعيد كلّ شيء معطَّراً بالأزير.
وصلت إلى إيطاليا. أرض توافق روحي، تعرَّفت على أصواء اقترابي منها واحدةً تلو الأخرى: المنازل ذات القرميد المسنَّن، وأشجار الكرم المدعَّمة بجدارٍ ازرَقّ بفعل الكبريت. وخيوط الغسيل الممدودة في الأفنية، وفوضى الأشياء، وأزياء الرجال. وأوَّل صنوبرة، كانت دقيقة لكنها مستقيمة، وأوَّل زيتونة، وشجرة التين المعفَّرة، وساحات المدن الإيطالية الصغيرة المظلَّلة، والظهيرة حيث الحمام يبحث عن مأوى، بطء وخمول، وتستنفذ الروح فورات غضبها. ينحو الوجد، تدريجياً، نحو البكاء. أخيراً، تظهر فييتشينزا. هنا الأيّام تدور على نفسها، منذ طلوع النهار المترع بصياح الديَكة إلى مساء لا مثيل له، حلو ولطيف، ناعم خلف أشجار السرو، على إيقاع صوت الزيزان. هذا الصمت الداخلي الذي يلازمني، يولد من ذلك الانتقال البطيء، من اليوم نحو اليوم الموالي. ماذا عساني أتمنّى غير هذه الغرفة المفتوحة على السهل، بأثاثها العتيق، ودانتيل الكروشيه؟ كلّ السماء أمام ناظري، ودوران الأيّام، التي يبدو لي أني قادر على اتِّباع حركتها بثبات، بلا توقُّف. أستنشق السعادة الوحيدة المتاحة لي؛ شعور لطيف وودّي. أتجوَّل طوال اليوم؛ من الثلة أنزل متَّجاً نحو فيتشينزا، أو أتقدَّم أكثر داخل الريف. كلّ كائن ألتقيه، وكلّ رائحة في هذا الطريق، وكلّ شيء هو ذريعة للحبّ بدون اعتدال. شابّات يحرسن مخيَّماً صيفيّاً، أبواق بائعي المثلَّجات (عرباتهم عبارة عن جندول مثبَّت على عجلتَيْن، ومزَّود بمحمل)، وأكشاك الفاكهة، وبطيخ أحمر ببذوره السوداء، وعنب شفاني مدبّق. ما يكفي من سند لمن لم يعد يستطيع البقاء وحيداً(1)، لكن الناي الحادّ والرقيق للزيزان، وعطر الماء، ونجوم ليالي سبتمبر/أيلول، والممرّات العطرة بين أشجار الضرو (البطم) والقصب، كلّها علامات على الحبّ لكلّ من أُجبِر على البقاء وحيداً(2). هكذا تمرّ الأيّام. بعد وهج شمس منتصف النهار، يأتي المساء، في المشهد الزاهي الذي يضفيه الغروب الذهبي، وظلال شجر الصنوبر. أتمشّى على الطريق، في اتِّجاه صوت الزيزان المسموع من بعيد، والتي تتوقَّف عن الغناء بقدر تقدَّمي نحوها، ثم تصمت نهائيّاً. أتقدَّم ببطء، ممتلئ الصدر من هذا الجمال المحتدم. خلفي، تنفخ الزيزان صدورها، ثم تشرع في الغناء؛ لغزاً في هذه السماء، من حيث تسقط اللامبالاة والجمال. وعلى ضوء آخر شعاع، أقرأ على واجهة (فيلا): «في روعة الطبيعة، تنبعث الروح مجدَّداً(3)». هنا ينبغي التوقُّف. سطع أوَّل نجم، ثم الأنوار على الربوة المقابلة، ثم حَلَّ الليل فجأةً، دون سابق مؤشِّر. حفيف ونسيم يأتيان من الأشجار خلفي.. انسلَّ النهار، تاركاً لي عذوبته.
طبعاً، أنا لم أتغيِّر، كلّ ما في الأمر أنني لم أعد وحيداً. في براغ، كنت أختنق بين الجدران. أمّا هنا، فأنا في مواجهة العالم، أتطاير حول ذاتي، فأعمُر الكون كائناتٍ تشبهني. لم أتحدّث، بعد، عن الشمس. فكما استغرقت وقتاً طويلاً لأستوعب تعلقي وحبّي لعالم الفقر الذي مررت به في طفولتي، وتعلُّقي به الآن، فقط، ألمح دروس الشمس والبلدان التي شهدت ولادتي. قبل الظهيرة بقليل، خرجت وتوجَّهت نحو مكان أعرفه، يشرف على سهل فيتشينزا الشاسع. كانت الشمس في كبد السماء، بأزرقها النيلي. كلّ الضوء المنحدر منها يغمر منحنيات التلال، ويكسو أشجار الصنوبر والزيتون، البيوت البيضاء والأسطح الحمراء بأدفأ الفساتين، ثم يتيه في السهل المحترق تحت الشمس. ودائماً، الشعور بالخصاص نفسه. في داخلي، ظلَّ الرجل القصير والثخين، ممدَّداً. ما تلمسه أصابعي من هذه السهول التي تحوم حول الشمس، ومن النقع، ومن هذه الروابي الملطاء المكسوّة بقشرة من العشب المحترق، كان شكلاً مجرَّداً وغير جذّاب لطعم العدم الذي أحمله بداخلي. هذه البلاد تعيدني إلى صميم ذاتي، وتضعني أمام قلقي الكامن. كان قلق براغ، ولم يكن هو. كيف أفسّر الأمر؟ أمام هذا البساط الإيطالي، المعمور بالأشجار والشمس والابتسامات، استوعبت، بشكل أفضل من أي مكان آخر، رائحة الموت والوحشة التي كانت تلاحقني منذ شهر. نعم. هذا الفيض الذي يغمرني من دون عبرات، وهذا السلام من دون فرح، كلّ هذا لم يكن غير إدراك واضح جدّاً للأشياء التي نسيتها؛ تنازل ولامبالاة. فالذي هو على عتبة الموت، ويعلم ذلك، لا يحفل بمصير زوجته، إلّا في الروايات، وهو -بذلك- يحقِّق ميل الإنسان نحو الأنانية، أي اليأس. لا شيء يعدني بالخلود في هذه البلاد. ما الذي كان سيضيرني لو استحضرت، في روحي، ذكرى فيتشينزا، بلا عيون، لرؤيتها، ولا أيدٍ لجَنْيِ عنبها، أو بشرة للشعور بمداعبة الليل على الطريق بين معبد مونتي بيريكو، وفيلا فالمارانا؟
أجل. كلّ ذلك كان حقيقيّاً. لكن في الوقت نفسه، مع أشعة الشمس، تسرّب إلى نفسي شيء يصعب وصفه. عند هذه النقطة القصوى من الوعي الأقصى، أخذ كلّ شيء يلتئم، وحياتي تظهر لي ككتلة، عليَ رفضها كاملةً، أو تقبُّلها كاملةً. كنت في حاجة إلى التسامي. وجدته في اصطدامِ عميقِ يأسي باللامبالاة الصامتة لواحد من أجمل المناظر الطبيعية في العالم. منه استمددت قوّةً لشجاعتي، والوعي بها في الآن نفسه. كان ذلك كفايتي من شيء صعب جدّاً، ومتناقض جدّاً. لكن، لربَّما قد داريت ما كان شعوراً صادقاً. عدا ذلك، ما زلت أسترجع كثيراً براغ، وأيّامها القاتلة. عدت إلى مدينتي. أحياناً، فقط، توقظ رائحة الخيار والخلّ قلقي. تضطرّني للتفكير في فيتشينزا. أحببتهما معاً، وأجد صعوبة في فصل حبّي للنور وللحياة عن ارتباطي السرّيّ بالتجربة المحبطة التي حاولت وصفها. الأمر واضح، فأنا لا أريد البتّ في الاختيار بينهما. في ضواحي مدينة الجزائر، توجد مقبرة صغيرة ذات بوابات حديدية سوداء. عند نهاية المقبرة، وادٍ مع خليج في العمق. يمكنك الحلم مطوَّلاً عند هذا القربان الذي يتنهَّد بحراً. لكن، حين تعود أدراجك ستجد لوحة على قبر مهمَل كُتِب عليها: «حسرة أبديّة». لحسن الحظّ، هناك أشخاص مثاليون لتصحيح هذا الوضع.
الهوامش:
1 – أي كلّ الناس. (المؤلِّف)
2 – أي كلّ الناس. (المؤلِّف)
3 – «In magnificentia naturae, resurgit spiritus»، في النصّ الأصلي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الظلّ والضياء
كانت امرأة فريدة ووحيدة. تربطها علاقات وثيقة مع الأرواح، تهتمّ كثيراً بمشاكلهم وتعتزل بعض أفراد عائلتها غير المرغوب فيهم في عالمها.
انتهى إليها إرث صغير من أختها، هو خمسة آلاف فرنك. في نهاية العمر، يبدو هذا المبلغ مزعجاً، ويجب توظيفه. إذا كان في إمكان الجميع التصرُّف بمبالغ مالية ضخمة، فإن الصعوبة تبدأ حين يكون المبلغ صغيراً. بقيت هذه السيِّدة وفيّة لنفسها. وهي تقترب من نهايتها، كانت ترغب في مكان تؤوي إليه عظامها البالية، فتوفَّرت لها فرصة حقيقية: في مقبرة المدينة، حُكرة أرض استوفت أجلها، للتوّ، وكان مُلّاك البقعة قد أقاموا فيها حجرة فاخرة للدفن، على نمط متَّزن من المرمر الأسود. كنز حقيقي، بالفعل، فُوِّت لها مقابل مبلغ أربعة آلاف فرنك. اشترت السرداب، وكان استثماراً حقيقياً، بعيداً عن تقلُّبات البورصة والأحداث السياسية. أعدَّت الحفرة الداخلية، وجعلتها مهيَّأة لاستقبال جسدها. عند الانتهاء من ذلك، نقشت اسمها بحروف بارزة، من ذهب.
هذه الصفقة أسعدتها، إلى درجة أن وقعت في غرام قبرها. في البداية، كانت تزور المكان لمراقبة سير الأشغال، ثم انتهت إلى زيارته كلّ أحد، زوالاً. كانت هذه خرجتها الوحيدة، وتسليتها الفريدة. عند الثانية زوالاً، تأخذ المسار الطويل نحو أبواب البلدة حيث تقع المقبرة. تدخل إلى الغرفة الصغيرة، وتغلق الباب بعناية، ثم تجثو عند المركع. هكذا، وبحضورها الجسدي، بمواجهة ما كانت عليه، وما ينبغي عليها أن تكون، وبعدما وجدت الحلقة المفقودة من سلسلة ظلَّت، على الدوام، مقطوعة، اخترقت من غير مجهود مقادير العناية الربّانية. ومن خلال إشارة خاصّة، أدركت، ذات يوم، أنها ماتت في أعين العالم. في عيد القدِّيسين الذي جاء متأخِّراً عن موعده، وجدت عتبة الباب وقد زُيِّنت، بشكل مقتدر، بأزهار البنفسج. غرباء لطيفون رقّوا لحال هذا القبر الذي تُرِك بدون أزهار، فتقاسموا معه ورودهم تكريماً لذاكرة الميِّت المهمل.
ثم هأنذا أعود إلى الأشياء. تلك الحديقة على الجهة الأخرى من النافذة، لا أرى منها غير الجدران، وبعض أغصان الشجر التي يتدفَّق منها الضوء. أعلى من ذلك، الأغصان دائماً، ثم أعلى من ذلك، الشمس. من كلّ هذا الابتهاج بالهواء الذي يشعر به المرء في الخارج، من كلّ هذا الفرح الذي يكسو العالم، لا يصلني غير ظِلال الأغصان وهي تتلاعب بستائر غرفتي البيضاء. خمس أشعّة تصبّ، بأناة، عطر الأعشاب المجفَّفة في غرفتي. هبَّت ريح خفيفة بعثت الحياة في الظلال، على الستارة. سحابة تغطّي الشمس، ثم تكشفها، ومن الظلّ يشعّ اللون الأصفر اللامع لأشجار الميموزا. تكفي بارقة نور لأصير مفعماً بسعادة غامضة ومذهلة. كان ذلك زوالَ أحد أيّام يناير، ما جعلني في مواجهة قفا العالم، ومع ذلك، بقي الهواء بارداً. في كلّ مكان طبقة دقيقة من أشعّة الشمس، قد تصدِّعها أدنى لمسة، لكنها تكسو كلّ شيء ببسمة خالدة. من أنا؟ وماذا بإمكاني القيام به، غير الدخول في لعبة الأغصان والضوء؟. أكون ذلك الشعاع الذي تستنفذ عنده سيجارتي. تلك العذوبة وهذا الهوى الكتوم الذي يتنفَّس في الهواء. إذا أردت إدراك ذاتي، فسيكون في قرار هذا الضوء، وإذا حاولت فهم وتذوُّق النكهة الرقيقة التي تبوح بسرّ العالم، فما أجده في باطن الكون هو ذاتي؛ أي ذلك الانفعال الشديد الذي يخلِّصني من المشهد العامّ.
بعد قليل، أشياء أخرى، الناس وما يشترونه من قبور. لكن دعوني أقتطع هذه اللحظة من نسيج الوقت. آخرون يتركون زهرة بين صفحات كتاب، يحبسون عندها نزهة، أو الحبّ الذي داعبهم. أنا، أيضاً، أتنزَّه، لكن القدر يداعبني. الحياة قصيرة، وإهدار الوقت خطيئة. «أنا مُكِدّ»، يقول البعض. لكن هذا، أيضاً، يعني أنك تهدر وقتك، بقدر ما تضيِّع في هذا الكَدّ. أنا اليوم في راحة، وقلبي خرج للقاء نفسه. إذا كان ثمّة قلق مايزال يضيِّق عليّ، فلإحساسي بهذه اللحظة الدقيقة جدّاً تنفلت من بين أصابعي كلآلئ من الزئبق. دعوا عنكم، إذن، أولئك الذين يديرون ظهورهم للعالم. أنا لا أرثي لحالي بما أنني أشهد ولادتي. في هذه اللحظة، كلّ مملكتي من هذا العالم. هذه الشمس وهذه الظلال، هذا الدفء، وهذه البرودة المتأتِّية من عمق الهواء؛ سأسأل ذاتي: هل مات شيء ما؟، أو: هل كان الناس يعانون؟. مادام كلّ شيء مكتوب على تلك النافذة، حيث تصبّ السماء فيضها لملاقاة شفقتي، أستطيع القول وسأعيد، بعد قليل، أن الأهمّ هو أن نكون أناساً حقيقيِّين وبسطاء. لا، بل الأهمّ هو أن نكون صادقين، وكلّ شيء سيأتي بعد ذلك، الإنسانية، والبساطة… ومتى أكون أكثر صدقاً إلّا حين أكون أنا العالم؟ تغمرني العطايا قبل أن أشتهيها. هنا، يكمن الخلود، وقد كنت أتمنّاه. ليست السعادة ما أرغب فيه الآن، بل الإحساس بما يجري، فحسب.
رجل يستغرق في التأمُّل، وآخر يحفر قبره، كيف نميِّز بينهما؟ كيف نميِّز بين الناس، وسخافتهم؟ هي ذي ابتسامة السماء. الضوء يتمدَّد، والصيف على الأبواب! هذه هي أعين وأصوات من ينبغي لنا أن نحبِّهم. أتشبَّث بالعالم بكلّ حركاتي، وبالناس بكلّ شفقتي وامتناني. بين ظلّ العالم وضيائه، لا أريد أن أختار. لا أحبّ وضعيّة الاختيار. الناس لا يحبّون الصراحة، والسخرية.. يقولون: هذا يدلّ على أنك لست طيّباً». لا أرى أيّ ترابط بين المسألتَيْن. فإذا قيل لأحدهم إنه خليع، فإني أفهم أن عليه أن يتَّخذ له أخلاقاً، وإذا قيل لآخر إنه يزدري الذكاء، فأفهم بأنه لا يستطيع تحمُّل شكوكه. وبما أنني لا أحبّ الخداع، فالشجاعة الحقيقية هي أن تُبقي عينيك مفتوحتَيْن أمام الضوء كما أمام الموت. عدا ذلك، كيف يمكن تسمية الرابط الذي يُقِلُّ من الحبّ الجارف للحياة إلى اليأس المكتوم؟ إذا استمعت إلى السخرية(1) الكامنة في عمق الأشياء، فإنها تتكشَّف بتأنٍّ. ترفّ بعينها الصغيرة الصافية، وتقول: «عيشوا كما لو…». هنا تكمن كلّ معرفتي، رغم الكثير من البحث.
في نهاية المطاف، لست متأكِّداً من كوني على صواب. وليس المهمّ التفكير في تلك المرأة التي حكوا لي عنها. كانت ستموت، وابنتها ستجهِّزها للدفن وهي ماتزال على قيد الحياة. الأمر هكذا أسهل، قبل أن تتصلَّب الأطراف. لكن، ألا يبدو مثيراً للاستغراب كيف أننا نحيا بين أناس في عجلة من أمرهم؟.
الهوامش:
(1) تلك الحرِّيّة الكبيرة التي تطرق لها باريس. (المؤلِّف).
“حس السخرية ضمانة قويّة للحريّة”.”Maurice BARRES (المترجم)