أورهان باموق لـ(الدوحة): أركب سفينة جديدة، وتهبّ الرياح مرّة أخرى!

| 07 سبتمبر 2022 |
وُلِد «أورهان باموق» سنة (1952) بمدينة إسطنبول، وفيها درس المرحلة الثانوية، ثم الجامعية بكلِّيّة العِمارة، في الجامعة التقنية بإسطنبول، ثم بكلِّيّة الصحافة. ومنذ سنة (1975)، تفرَّغ للكتابة، إلّا أن مسيرته الأدبية ستنطلق برواية «جودت بيك وأبناؤه» (1982)، و«البيت الصامت»، ثم جاءت روايته «القلعة البيضاء» التي ترجمت إلى لغات متعدّدة بعد صدورها، لتكون البوّابة التي سيخرج، عبرها، باموق، نحو العالمية إلى أن تُوِّج بجائزة «نوبل» للآداب سنة (2006). وبصفته كاتباً ذا شعبية كبيرة، تحقِّق أعماله انتشاراً واسعاً عبر العالم.
في هذه الدردشة الخاصّة، والحصرية، يحكي «أورهان باموق» لمجلّة (الدوحة) عن روايته الجديدة «ليالي الطاعون» التي تزامن صدورها، بالصدفة، مع ظهور «فيروس كورونا – 19»، كما يتحدَّث عن طقوس الكتابة، وجوانب من علاقته بالقراءة والحياة اليوميّة.
كيف كان شعورك عندما تصادفت روايتك التي تحكي عن وباء الطاعون في أوائل القرن العشرين، مع اجتياح «فيروس كورونا – 19» العالم؟
– في البداية، شعرت بالقليل من الدهشة، وقلت لنفسي: ما هذا؟ ما الذي يحدث؟ هل ستصبح روايتي حقيقة؟ وكنت أعتقد، عندما بدأت بكتابة روايتي، أنها من نوع خاصّ وفريد، ولن يهتمّ بها الكثيرون، لكن الأمر كان مختلفاً، وعلى عكس ما تخيَّلت وتوقَّعت تماماً، ولا أنكر أنني شعرت بالغيرة من أن العالم توقَّع الأوبئة، وكشف أسرارها بالتزامن مع روايتي. كنت أتخيَّل أنني سأفاجئ العالم والقرّاء، ثم جاءت جائحة «كورونا – 19»، فغيَّرت كلّ توقعاتي.
بينما كنت تضع اللمسات الأخيرة على روايتك، انتشر «فيروس كورونا – 19». أين كنت؟ وكيف استقبلت الخبر؟
– لقد كنت خارج تركيا (تحديداً، في الولايات المتَّحدة الأمريكية)، أقوم بالتدريس في إحدى الجامعات، وعرفت أن هناك فيروس جديد يستمرّ بالانتشار والتنقُّل، وأن تركيا بدأت في تنفيذ الحَجْر الصحي، خاصّةً فيما يتعلَّق بالعائدين من الحجّ. ووجدت أن كلّ ما يحدث مشابه جدّاً لما كتبت في روايتي «ليالي الوباء»، لكن أحداث روايتي كانت قاسية قليلاً، ثم كتبت، بعد ذلك، مقالاً في جريدة «نيويورك تايمز»، وشرحت فيه كيف أعكف على كتابة روايتي منذ أربع سنوات، قبل ظهور «فيروس كورونا – 19»، ثم بعد ذلك تَمَّ طباعة روايتي في خمسين دولة، وكنت قد قمت بإنهائها خلال عام واحد، وأصبحت جاهزة للنشر.
هل تعتقد أن روايتك أحدثت فارقاً في الخيال الذي صنعته، والواقع الذي نعيشه؟
– نعم. لقد حدث فارق، بالفعل؛ فعندما كنت أكتب روايتي، اطَّلعت على كلّ الاحتياطات التي كان الأطبّاء يتَّخذونها زمن انتشار وباء الطاعون والكوليرا، كما درست التقارير العلمية التي كتبت، في ذلك الوقت، حول الهند والصين وبريطانيا. لكن الأمر الصعب تمثَّل، بالنسبة إليّ، في كيفية إقناع القرّاء بخطورة الوباء، وكيفية تجنُّبه. في هذه الأثناء، ظهر «فيروس كورونا- 19»، فجأةً، وشيئاً فشيئاً استوعب الجميع ضرورة الخضوع للحَجْر الصحّي، وهنا انتقلت المسؤولية، التي كانت ملقاةً على عاتقي، وأنا اكتب الرواية، إلى الجمهور والناس، فأصبحت مهمَّتي أسهل ممّا كانت، بحكم المفاهيم والمصطلحات المرتبطة بالوباء، والتي كانت تنتشر ليعرفها الجميع؛ وهذا جعل روايتي تصل إلى القرّاء بشكل أفضل وأسهل، وفي هذه الأثناء أُصبت بـ«فيروس كورونا – 19».
كيف واجهت إصابتك بـ«فيروس كورونا – 19»؟، وما علاقة ذلك بروايتك؟
– كنت أترك ما يرسل إليَّ خارج المنزل، بعض الوقت، وأغسل كلّ شيء، باستمرار. لقد كانت العزلة ضرورية لوقاية الناس من خطر العدوى. في هذا الوقت، فقط، شعرت أنني لم أشرح التجربة بالشكل المطلوب في روايتي. لقد كان الخوف، في الواقع، أكبر بكثير ممّا كتبته بين سطور روايتي، التي كتبتها في ثلاث سنوات ونصف السنة. أظنّ أنه كان لابدَّ من أن يشعر أبطال الرواية بما أشعر به اليوم، وأن الحَجْر الصحي، وكيفية التعامل مع الوباء، أمران في غاية الصعوبة.
كيف نشأت عندك فكرة كتابة رواية تتحدَّث عن وباء؟
– يُعَدّ الموت في الرواية، الموضوع الأكثر تأثيراً وجذباً للقرّاء وللكُتّاب معاً، وأستطيع أن أؤكّد أن كلّ الكُتّاب تجذبهم الكتابة عن الموت، وعن التحدِّيات والعقبات التي تمرّ بها الشخصيات في مشوار حياتها، وصولاً إلى لحظة الموت…؛ لذلك، عندما بدأت في التفكير بكتابة رواية عن الوباء، شعرت أنها ستكون أكثر حماسةً وتأثيراً من أيّة رواية أخرى تتناول العلاقات بين الشخوص في سياق مجتمعي وخطوط درامية. كان أوَّل ما خطر في مخيِّلتي، هو نظرة الغرب إلى الشرق، التي تصوّرهم في إطار قدَري يحدِّد سلوكهم تجاه الأوبئة والأمراض.
هل تشرع في كتابة رواية جديدة، فور انتهائك من رواية سابقة؟
– بالطبع. يحدث ذلك بشكل تلقائي كما هو الحال في جميع الكتب والروايات التي كتبتها؛ فالشروع في كتابة أولى صفحات رواية جديدة، يُعَدّ سعادة كبيرة بالنسبة إليَّ. ودعني أخبرك سراً: عندما ابدأ بكتابة رواية، أكون متعاطفاً مع شخصية معيَّنة، أشعر بها وأعتاد على رؤيتها في مخيّلتي وفي منزلي، طوال الوقت، ولكن، بعد مرور الوقت، يحدث أن أبتعد عن تلك الشخصية، وأقع في قبضة شخصية أخرى، ويظلّ الحال هكذا حتى الانتهاء من كتابة الرواية. كما يمكن أن أقوم برسم إحدى الشخصيات على الصفحات، طوال اليوم، محاولاً إخراج صورة له على الورق؛ لذلك تجد أن بطل روايتي الجديدة يشبهني في الكثير من التفاصيل، إلى درجة أنني أشعر، أحياناً، كأنه أنا!، لكن هذا ليس الرأي الأخير، فلا أحد يعلم (حتى أنا) إلى أين سيصل شعوري به، في منتصف الرواية.
كيف يكون شعورك في نهاية الكتابة؟
– شعور معقَّد جدّاً: أتخيَّل نفسي على ظهر سفينة تقترب من الميناء، بعد مغامرة إبحار طويلة وشاقّة. إنه شعور بالأمان، و-في الوقت نفسه- أعرف أنني سأبحر من جديد، وأركب سفينة جديدة، وستهبّ الرياح مرّة أخرى.
ما الأماكن التي تلهمك -بصفتك روائياً- أكثر من غيرها؟
– في الحقيقة، تلهمني العديد من الأشياء والأماكن، ولكن أكثر ما يلهمني هي الجزُر، وخاصّة الجزر اليونانية، وتلهمني جزيرة كريت، تحديداً، كما تلهمني المنازل الصوفية وزيّ الدراويش. في إسطنبول، المكان المفضَّل لي هو «برج الفتاة»، فعندما أذهب إلى هناك يأتيني الكثير من الإلهام، وأحبّ، أيضاً، مشاهدة الخيل كثيراً، إذ تمنحني الكثير من التأمُّل والإلهام.
هل كان من أحلامك أن تكون كاتباً مشهوراً؟
– نعم. كنت أحلم بالشهرة كثيراً، وحصلت على ما حلمت به وأكثر. كان لديَّ شعور بأنني سأكون مشهوراً، وعندما حدث ذلك لا أنكر أنه كان الشعور الأفضل على الإطلاق، لكنني لا أهتمّ بأن أثير إعجاب الأخرين؛ فهذا شيء غير ضروري، الأهمّ لي هو أن أكون معروفاً بين الناس، وفي المجتمع، وقد حدث ذلك.
كيف تنظر إلى رواياتك؟
– لن أقول إنني أعشقها، لكني، بالتأكيد، أحبُّها كلُّها؛ فقد عشت مع كلّ واحدة من تلك الروايات، الكثير من أيّام عمري، وتعبت من أجل كتابتها مثلما يتعب الآباء من أجل الأبناء. لقد عشت مع رواياتي أيّاماً صعبة، لا يمكن نسيانها، كما جعلتني أقرأ في موضوعات ومجالات لم أكن أظنّ أنني سأتطرَّق إليها يوماً. والآن، تعيش رواياتي بمفردها على الأرفف، ولا أريد أن أعيش معها مجدَّداً؛ فقد أخذت من عمري ما يكفي.
ما الذي تمثلِّه القراءة بالنسبة إلى الروائي؟
– لا يمكنني اختصار فائدة القراءة في بضع كلمات، فهي تساعد في تغيير العالم من حولك، وإيجاد بدائل وحلول للمشكلات، ولطالما كانت القراءة، بالنسبة إليَّ، هي السعادة؛ تشغل وقتي وتمنحني الكثير من التفكير والآفاق الجديدة، بالإضافة إلى أنها تغذّي جنوني، وتجعلني أقضي وقتي مستمتعاً، وناسياً كلّ ما هو سيِّئ في العالم الحقيقي.
كما أن القراءة جعلت مني كاتباً، فهي مصدر الكتابة، وبدونها أستطيع الوصول إلى عمق وذكاء المؤلّفين الذين تأثَّرت بهم، وإن كنت، أحياناً، أشعر بوجوب نسيان كلّ مصادر التأثير تلك، كي أكون على طبيعتي. من خلاصة تجربتي، أقول إن أفضل الكتب التي ستكتبها هي التي ستنسى فيها كلّ ما قرأته، وتضعه وراءك، تماماً.
هل صحيح أنك ماتزال تكتب رواياتك بالطريقة التقليدية، ولا تستخدم الكمبيوتر؟
– نعم. هذا صحيح. لازلت أكتب بخطّ اليد. إنها عادتي الخاصّة، والمحبَّبة إلى قلبي، فأنا عاشق للورقة، والقلم، ورائحة الحبر؛ يعطيني ذلك دفعة قويّة للكتابة، ويلهمني كثيراً.
هل هناك أجواء معيَّنة تحبّ أن تكتب فيها؟
– أغلق هاتفي، وأبتعد عنه تماماً، وتكون القهوة، والسجائر، والصمت شركائي في الكتابة. وعادتي، التي قد تكون غريبة، هي أن أسير حول مكتبي طوال اليوم، وأنا أفكِّر وأكتب.
هل نستطيع أن نقول إنك تعيش في عزلة عن العالم الخارجي؟
– نعم. أنا لست متحمِّساً للحياة في الخارج كثيراً، ومشاركاتي الاجتماعية قليلة للغاية. كلّ ما أحبّه في الخارج هو الركض، ولا أشعر بغرابة في ذلك. أحبّ حياتي كثيراً، وأنا راضٍ عمّا أعيشه.
يقال إن الكتابة عمليّة صعبة جدّاً، ولا يستطيع السعداء أن يكونوا كُتّاباً، فما رأيك؟
– هذا غير صحيح، على الإطلاق، فالأشخاص السعداء هم، فقط، من يستطيعون الكتابة، بل يكتبون بشكل أفضل، لأن الكتابة والمشاعر المركَّبة التي يمرّ بها الكاتب تكون مؤلمة للروح. ولكن نستطيع أن نقول إن الفنّ يُصنَع من الألم، وكلَّما مررت بمعاناة، ظهر ذلك في كتاباتك. كما أن القرّاء يتوقَّعون منا نحن -الكُتّاب- أن نعاني الكثير من الآلام التي لا يتحمَّلوها هم، أو أن نزعم ذلك، كي نعوِّض النقص في أرواحهم. لست من هذا النوع من الكُتّاب، فأنا أحاول أن أعوض ما يحتاجون إليه بمهاراتي، وحِيَلي في الكتابة.