إدغار موران: أصفُ نفسي باليقظ وحتى بالحَذِر وليس بالمُتشائم

| 02 فبراير 2022 |
في شهر سبتمبر/أيلول عاد «إدغار موران» للتو من «الدوامة الإعلامية» الخاصة بعيد ميلاده المئة، بعد أن قام بجولة على بلاتوهات التليفزيون والإذاعة مستجيباً دون توقف لزميلاتنا الصحافيات وزملائنا الصحافيين، كان استقباله لنا عبر تقنية التناظر الرّقمي، حيث يخلد إلى الراحة منذ بضعة أسابيع. وآخر كُتبه الصادر في أوائل هذه السنة والذي يحمل عنوان: «دروس قرن من الحياة»(2021). وهو الكتاب الذي سبق له أن أثار الكثير من الدعوات، فَضَّل المُفكِّر وَصْلها بـ«احتفاليات» إتمامه سن المئة سنة، وهو الآن يتفادى كل طلب لإجراء حوار معه، لكنه وافق على استثناء دعوة مجلة «العلوم الإنسانية»؛ لأن الروابط بينه وبين هيئتها قوية جداً، إذْ كانت صورته على غلاف عددها الأول سنة 1990، ليصير فيما بعد «جون فرنسوا دورتييه»، مؤسِّسُ المجلة، صديقاً له، و قد رافقنا «إدغار موران» لأكثر من ثلاثين سنة.
«ليكن مفهوماً بأنني لا أعطي دروساً لأحد» بهذه العبارة يفتتح «موران» الدروس التي استفادها من حياة غطت مساحة قرن من الزمن. وهي بدورها دروسٌ لا وجود لشيء قطعي فيها؛ فهو يعيد في هذا الكتاب رسم الملامح الكبرى لمغامرته الفكرية، مقدِّماً لنا ما استخلصه من وجودٍ بلغ قرناً من الزمان في هذه الدنيا موجزاً آفاق مستقبلية لأجل الإنسانية.
الربط بين المعارف من أجل التفكير في التعقيد الإنساني، ذاك هو البرنامج الذي وضع «إدغار موران» تَحقِيقَهُ نُصب عينيه، وها هو الآن بعد أن بلغ عمرُهُ قرناً من الزمن يحكي لمجلة «علوم إنسانية» مساره ومعاركه وانشغالاته وما يعقده من آمال على المُستقبل.
هوغو ألبنديا: احتفلت ببلوغك مئة سنة من العمر، ونشرت كتباً عددُها بعدد هذه السنوات تقريباً، فما الذي تود أن نحتفظ به منك؟
– إدغار موران: لقد كانت هناك الكثير من التسميات التي عُرفت بها طيلة وجودي، أولها كان عالم أنثروبولوجيا، وأنا كذلك فعلاً، لكن ليس بالمعنى الذي حمله هذا اللفظ مؤَخَّراً، حيث صار محصوراً ومقيَّداً؛ إذ كان ينحصر معناه في القرن العشرين في دراسة الشعوب التي لم تعرف الكتابة، والتي نسميها بالشعوب الأصلية، لكن على الرغم من ذلك كان هذا اللفظ يشير في القرن التاسع عشر، خصوصاً في ألمانيا، إلى تخصُّص جامع لمُختلف المعارف حول الكائن الإنساني، وأنا أرى نفسي في هذا الصنف من علماء الأنثروبولوجيا. إن سؤال إنتاج المعارف يحتل القلب من عملي. وحتى أوجز القول، أؤكدُ بأنه يشكِّل حَلقَة تربط بين الإبيستيمولوجيا (دراسة المعرفة) والأنثروبولوجيا؛ أي معرفة الكائنات الإنسانية، فقد كنت أرغب في الإجابة عن سؤال «كانط»: ما الإنسان؟ ومن أجل القيام بذلك كان لزاماً علي الإجابة عن سؤال آخر: ما الذي يمكنني أن أعرف؟ فإصلاح المعرفة والفكر يمثل بالنسبة لي رهاناً أولياً، لأن النقد الذاتي هو نظافة نفسية أساسية؛ وأنا أنحاز إلى التعقيد الذي يطرح السؤال على كل شيء وأفضِّلُهُ في مقابل المذهب أو العقيدة التي تجد جواباً عن كل شيء، تلك هي الفكرة التي أحب أن يتمَّ الاحتفاظ بها مني، وِصياغتُها قُدِّمَت في كتاب «المنهج»، وعلى الخصوص في الجزء الثالث منه، الذي يحمل عنوان «معرفة المعرفة» (1986) وفي جزئه الرابع: الأفكار، موطنها وحياتها، عاداتها وتنظيمها (1991).
لقد حدَّثوني مؤخراً عن وصفي بالسوسيولوجي، وإنه لَأمْرٌ غريب أن يتمَّ الاحتفاظ بهذا الجانب لأعمالي الذي كان هامشياً وتم انتقاده في إبَّانه؛ فهو لا يمثل، بالنسبة لي، النَّواة َلمغامرتي الفكرية التي اكتملت مع تحرير كتاب المنهج (1977 – 2004)، كما أنني لست فيلسوفاً بالمعنى الذي يُفْهَمُ من هذا اللفظ اليوم، فأنا، بمعنى من المعاني، فيلسوف برِّي؛ لأن الفلسفة بالنسبة لي هي الانعكاسية أو التأملية، إنها تلك الرؤية الثانية التي نجدها لدى جميع الفلاسفة الكبار، وقد انخرطتُ، من جهتي، في هذا النهج، باحثاً عن تحقيق عُلُو على المعارف التي ينتجها زملائي، ولذلك فإن فلسفتي ليست بالفلسفة الأكاديمية.
ويتمُّ وصفي أيضاً بصاحب النزعة الإنسانية، وكل تصوُّراتي هي تصورات تنطوي على تركيب وثيق بين البعد الأنثروبولوجي والحيوي والبيئي والسياسي، فهي تنم عن الفكر المُركب ولكنها تكشف أيضاً عمّا أسميه بالنزعة الإنسانية المُتجدِّدة، والتي عرضتها في كتاب «لنُغيِّر السبيل changeons de voie» عام (2002)؛ فأن يكون المرءُ صاحب نزعة إنسانية ليس معناه إقراره بالتشابهات والاختلافات القائمة بين الكائنات الإنسانية فحسب، ولا أن تُحرِّكَهُ إرادة تجنُّب الكوارث والتطلع إلى عالَم أفضل، بل يعني أيضاً الشعور من أعمق أعماق الذات بأن كل واحد من الكائنات الإنسانية يشكل جزءاً من الجماعة الإنسانية ويمكنه أن يكون فاعلاً داخلها.
منذ مدة طويلة وأنتم تدعون إلى الربط بين المعارف حول الكائن الإنساني، فهل تطوَّرت العلوم في هذا الاتجاه بنظركم؟
– سنة (1951) لم يحفل النقد بكتابي الأول المُهم: «الإنسان والموت – l’homme et la mort»، حيث دشَّنت نمطاً للمعرفة عابراً للتخصُّصات، إذ لا أحد كان قد عالج لحدود ذلك التاريخ المواقف الإنسانية قبالة الموت من خلال الربط بين السيكولوجيا والسوسيولوجيا؛ وعند اشتغالي على هذا الكتاب ربطت بتلقائية بين الدين والتحليل النفسي والبيولوجيا… وما أعانني على ذلك بشكلٍ كبير في تلك الحقبة هو إرث الفلسفة الديالكتيكية، الذي أتاح لي مواجهة التناقضات الظاهرية لمُختلف ميادين المعرفة، وذاك هو ما أسميه الفكر المُركَّب. فيما بعد، لمَّا انطلقتُ، بالمُقابل، في تأليف كتاب المنهج، غالباً ما كان يُنْظَرُ إليّ بغير قليل من الارتياح من طرف بعض ممتلكي ميادين المعارف؛ فقد استنكروا ما أقوم به بحجة انعدام كفاءتي أو كوني مُبسِّطاً بصورة مفرطة في التَّعميم، بينما كنت في واقع الأمر أعيدُ تأويل المعارف المُشتَّتة والربط بينها بَانياً منهجاً لأجل دراسة صور التعقيد وأوجه التركيب، وهو ما يُظهِرُهُ الاتجاه الذي تطوَّر فيه إنتاج المعرفة، ومما يُؤْسفُ له هو أننا في الوقت الذي حاولنا فيه تطوير التفاعل بين التخصُّصات، تطوَّر أيضاً الاتجاه نحو المزيد من التخصُّص الفائق، بحيث أنجب كل تخصُّص من رحِمِه تخصُّصاتٍ فرعيةً أخرى، إلى حد صارت معه ميادين البحث العلمي دقيقة جداً، لذلك فإن التفاعل بين التَّخصُّصات يظل اليوم سطحياً، مع انغلاق هذه التخصُّصات على نفسها، لكن كل إجابة عن مشكلة مهمّة، يتعذَّر بلوغُها، بنظري، ما لم يتم الربط بين المعارف المُجزَّأة والمُتشدِّرة، ولأن الظواهر تترابط فيما بينها بما لا عَدَّ له ولا حصْرَ من التفاعلات والإرجاعات، فإنّ تجزئة المعارف تحول دون إدراك هذه الروابط؛ لأن معرفة الكل تعود إلى معرفة أجزائه وعناصره المُكوِّنة، فضلاً عن أن الكائن الحي لا يمكن فصلُهُ عن سياقه، لأنه تابع لبيئته ومتوقف عليها، لذلك فإن معرفة الكائن الإنسان بصورة أفضل تقتضي ضرورةَ ربط العلوم الإنسانية والبيولوجيا، وحتى الكوسمولوجيا ما دمنا نتكوَّنُ من المادة الفيزيائية، فالكائن الإنساني، بنظري، يتَحدَّد ويُعرَّفُ بثلاثة أبعادَ يتعذَّر الفصل بينها: النوع، المُجتمع والفرد، وهي الأبعاد التي يجبُ فهمُها مجتمعةً! أمَّا إخفاء صور التعقيد فلا يمكنه إلّا أن يقود إلى الخطأ رأساً.
ما يميِّز الفكر المُركَّب أيضاً هو خاصية الَّلايقين التي تطبع المعرفة العلمية، وقد وضع وباء (كوفيد) هذا الَّلايقين في قلب المُجتمع، فما هي نظرتكم إلى هذه الأزمة؟
– لقد أدى وباء (كوفيد) إلى أزمة عالمية متعدّدة الأبعاد؛ إذ شكّل عاملاً جديداً للهشاشة والَّلايقين والقلق، بحيث كنا نحصي موتانا كل يوم، وما يسود اليوم من أفكار يحاول وضع مستقبل الإنسانية داخل حدود واضحة، مع إزاحته في نفس الوقت للايقينيات، غير أن أزمة (كوفيد) عملت على كشف تموجات الحياة بصور أكثر وضوحاً، ما جعل استقرارنا يختل ويرتج، فكيف يمكننا العيش مع تنبؤات لا يتعدَّى مداها أسبوعان أو ثلاثة أسابيع؟ كيف نعيش فزعين خائفين من حَجْرٍ صحيّ مفاجئ؟ هل يلزمنا التفكير في حدوث تحسُّن أم على العكس من ذلك في وقوع تراجع وارتكاس في الأمد المنظور؟
لقد كرَّستُ خمسين سنة من عمري لبلورة سبيلٍ في الأجزاء السّتة المُكوِّنة لكتاب المنهج، غير أن ضرورة إحداث التغيير لم تفهمها الغالبية العظمى من السياسيين والاقتصاديين والتقنوقراطيين والمقاولين، فما الذي نجده في مواجهة رأسمالية نَزَّاعة إلى الهيمنة ازدادت قوّتُها حدّةً خلال الوباء؟ إن ما نجده هو أشْكالُ وعي مشتَّتة وصورُ تمرُّدٍ يتمُّ قمعها وجمعيات تضامنية، والقليل من الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، لكننا لا نعثر على أي ثورةٍ سياسية متماسكةٍ ممتلكة لفكر مُوجِّه.
إن الفكر المُركَّب يواجه الَّلايَقِين باستمرار، فلمَّا تمَّ سؤالي عن موضوع الوباء، حاولت أن أجيب عن أشكال القلق وصوره، معيداً التأكيد بأن المُغامرة الإنسانية، فردية كانت أو جماعية، هي دائماً مغامرةُ يشوبُها الَّلايقين وتحفُّها المخاطر، وفضلاً عن ذلك نجدُ أن الخاصية العالمية لهذه الأزمة قد قوَّت من فكرة وحدة المصير، التي لا نكون على وعي بها دائماً، لكنها حقيقية بكل تأكيد، كما أن لنا حاجةً هائلةً للأمل، لأنها تشكِّل ثابتاً إنسانياً، لا سيما في تلك الفترات التي يعصف بها عدم الاستقرار؛ فعندما كنت في صفوف المُقاومة، كنا نعتقد بأنّ عالماً جديداً سيُولد لا محالة من جوف كل تلك الأهوال المُخيفة، قد تكون تلك الآمال مجرَّد أوهام، لكنها لا تنفكّ تولد من جديد وتنْبعثُ لدى الكائنات الإنسانية، ومعها يولد أملُنا في مستقبل أفضل.
مقاوم وشيوعي ومعارض للستالينية ومدافع عن القضية الفلسطينية ومن أنصار البيئة…. لقد اقترنت تباعاً بالعديد من القضايا السياسية، فأي نظرة تلقيها استرجاعياً على مسارك السياسي؟
– لقد انبثقت السياسة في فكري وأنا لا زالت في الثالثة عشرة من عمري، عقب المظاهرة المناهضة للبرلمان بتاريخ 6 فبراير/شباط 1934، حيث رأيت زملائي في الصف الدراسي يعارض بعضهم بعضاً بعنف، ولأنني لم أكن أمتلك أي قناعة مسبقة بخصوص هذا الموضوع، فقد تبنَّيْت موقفاً شكّياً وأنا أعايِنُ الانقسامات التي أحدثها الحدث، ثم كوَّنْتُ بعد ذلك ثقافتي الخاصة التي تدمج من جهة الثقافة الفرنسية التقليدية ذات النزعة الإنسانية، «مونتاني» و«رومان رولان Romain Rolland»، ومن جهةٍ أخرى النزعة الإنسانية الروسية لـ«ليون تولستوي»، وعلى الخصوص لـ«فيودور دوستويفسكي»، كما أن حياتي تبقى موسومة بنوعٍ من الاستمرارية، فمرحلتي الشيوعية هي فترة بين قوسين مكوَّنة من سنوات تلت مراهقة منفتحة إلى أقصى حدّ ومأساوية، فقد انخرطت في أيديولوجيا الكفاح وفي ضرب من الإيمان والدين المُتمحور حول الخلاص الأرضي. وعلى إثر غزو الاتحاد السوفياتي من قِبل «فيرماخت Wehrmacht» (القوات المسلحة المُوحَّدَة لألمانيا)، انتقلت من كوني معارضاً لستالين إلى كوني شيوعياً. وبعدما كنت داعية سِلم صرتُ مقاوماً، وقد كان ذلك بمدينة «تولوز». يمكنني القول بأن المُقاومة قد تخطّت الإيمان الشيوعي والحركية الديجولية لتشكِّل فرصة أمامنا كي نعيش بصورة مكثَّفة. ولئن كنتُ قد ندمت تماماً عن ما كان بي من عَمَى بخصوص طبيعة الشيوعية السوفياتية، فلا يمكنني القول بأن المرحلة الشيوعية من تطوُّري قد مثّلت حظاً سيئاً لأنها أتاحت لي فيما بعد فَهم التوتاليتارية، ثمَّ مع صديقين فيلسوفين، هما «كلود لوفور» و«كورنيليوس كاستور ياديس»، اجترحنا مسارنا الخاص فيما وراء الماركسية، وما تعلّمته من ذلك هو أننا عبثاً نؤمن بأننا مسلَّحُون باليقينيات والبرامج، وأنه من الواجب علينا، في المُقابل، أن نتعلَّم بأن كل حياة هي إبحار وسط محيط من الَّلايقينيات، تتخلّلُهُ بعض الجزر والأرخبيلات التي تمثلها اليقينيات، حيث نَتزَود بما يقوِّينا على المزيد من المسير. وأريد في هذا المقام الإشارةَ إلى أن أحد الدروس الكبرى التي استفدْتُها من حياتي هو توقُّفي عن الاعتقاد في ديمومة الحاضر واتصالية الصيرورة وقابلية المُستقبل لأن يكون موضوع تنبؤ.
منذ أن غادرت الحزب الشيوعي صِرتُ مستقلاً عن كلّ منطق حزبي في السياسة؛ فأنا دائم التّلْمذة، أستدمجُ معارف جديدة داخل فكر يزداد تعقيداً وتركيباً، دون أن يفقد تماسكه. إن الفكر المُركَّب فكر تكاملي يضيف الأفكار وفي نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من القرن العشرين، عندما كنت أغوص بصورة مثمرة في عالم الهيبيز بكاليفورنيا، اكتشفت المُشكلة الإيكولوجية، ولم أجد أدنى مشكل في أن أدمجها داخل تصوُّري للكائن الإنساني، فمنذئذ كنت أفكر في نوعنا بوصفه مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً ببيئته، وهي الموضوعة التي صارت تحتل اليوم مركز الانشغالات، بحيث صار مستقبل النوع الإنساني يمثل رهاناً سياسياً أساسياً لحقبتنا، أعتقد أن سبيلاً آخر ممكن فيما وراء الليبرالية الجديدة لكي يتمَّ إدماج البيئة بصورة أفضل. وما يوجد من منظورات، كما هو الحال بالنسبة للنزعة التقنية العلمية والنزعة المابعد إنسانية، ليس كافياً بحدِّ ذاته كي يجيب عن التساؤلات المطروحة، لأن الكائن الإنساني المُزيَّد سيكون دائماً في حاجة إلى ربط علاقات، وإلى المُشاركة الاجتماعية والأخوة.
هل أنت متشائم بخصوص مستقبل الإنسانية؟
– الأحرى أن أصف نفسي باليقظ وحتى بالحذر وليس بالمُتشائم؛ ذلك أن الفكر يذهب إلى ماوراء التعارض بين متشائم ومتفائل، أعتقد أن التيارات السائدة، تلك التي نسمعها في وسائل الإعلام أو نقرأها في آخر ما نُشر من كتب، تجنح نحو النزعة التشاؤمية. فما عاينته هو تلاشي الوُد الذي كان سائداً إبان فترة مراهقتي في السنوات التي سبقت الحرب؛ أقصدُ علاقات الود الحارة بين الجيران، والمحادثات في المقاهي الصغيرة وعلى مَتن الميترو كما أن حشود المُتفرّجين قد تقلّصت إلى أقصى الحدود، إن تدهور جودة العيش يعود إلى أولوية الكمي في تنظيم مجتمعنا وقيادته، حيث صرْنَا نحسب ونقيس كل ما هو إنساني؛ فلكي نَحكُم صرنا نثمِّنُ ونعطي قيمة أكبر للناتج الداخلي الخام (PIB) وللإحصائيات ولاستطلاعات الرأي، مما جَعل بَصرنا ينقلب إلينا خاسئاً وهو حسير حين يرتبط الأمر بكل ما هو فردي، ذاتي وشخصي. إن عقلاً محضاً وبارداً هو في ذات الوقت عقل لا إنساني ولا عقلاني؛ لأن العيش فنٌّ صعب وعسير يجب أن يراقب فيه العقل كل انفعال حتى لا نستسلم للحيرة والضلال ولكن فيه كل عقل تحرِّكُهُ وتُنَشِّطُه العاطفة والشغف، وهو ما يميل عالمنا التقنوقراطي إلى نسيانه، لكن بالرغم من كل شيء تبقى هناك إمكانية لتغيير السبيل. إن الكثير من الاحتجاجات الراهنة كما هو الشأن بالنسبة لحركة السترات الصفراء ينطوي على حاجة ماسة لمَنْ يشاركون فيها إلى أن يتمَّ الاعتراف بهم بكل ما تَسَعُه خاصيَّتهم بوصفهم كائنات إنسانية من معنى. أعتقد في أثر «إيفان إيلتش»، أن الودَّ وحُسن المُعاملة عنصرٌ أساسي في جودة الحياة، وسبيل خصب للإنسانية، لأنه يسمح بالاستجابة يومياً لحاجتنا إلى الاعتراف.
كيف ترى مستقبلك الخاص؟
– لقد عثرت على سبيلي منذ سن الثامنة عشرة، بألّا أنقطع عن البحث في الأسئلة الكبرى التي طرحها «كانط»: ماذا يمكنني أن أعرف؟ ما الذي يجب عليّ فعله؟ ما المتاح لي أن آمله؟ وحتّى الآن سرت في هذه الوجهة، وأنا في عمر المئة عام، مستقبلي هو أن أعيش لأسبوع! حينما يُطلب إليّ إلقاء محاضرة أو إجراء مقابلة، أرفض أن ألتزم مسبقاً لأكثر من أسبوعين أو ثلاثة أسابيع؛ ففي هذه السن لم تعد لي مشاريع كبيرة. اعتباراً لذلك أواصل التفكير والتأمل ومحاولة الإجابة عن أسئلتي الكبرى، آخذاً نقطاً ورؤوس أقلام، كما أكتب شذرات أنشرها أحياناً على حسابي على موقع تويتر، وأنا لا زلت أظن بأنني سأكتب على الورق تأملات قصيرة… ففي هذه اللحظة مثلاً، ألهمتني موضوعة الأمة. إن أنشطتي الفكرية تتواصل بصورة طبيعية، غير أنني ما عدت أخطّط بتاتاً لكتابة كتاب؛ فكتاب «دروس قرن من الحياة» هو آخر كتاب من كتبي الكبيرة الحجم.
احتفلت مجلة العلوم الإنسانية مؤخراً بمرور 30 سنة على تأسيسها وقد رافقْتَها منذ صدور عددها الأول وصُورَتُك على غلافَه، كيف تنظرون إلى هذه المُغامرة الفكرية؟
– ما زلت أغذِّي فكري من مجلة العلوم الإنسانية، التي أجدها مجلة غنية جداً، فأنا أستدمج الكثير مما أقرأه على صفحاتها، فضلاً عن أنني أجد نفسي في مفهوم «علم الإنسانية humanologie» الذي تمَّ تطويره مؤخراً من طرف «جون فرنسوا دورتييه» (مؤسس المجلة)؛ لأنني أقوم بالربط بين المعارف الإنسانية بحثاً عن فهم تعقيد الكائنات الإنسانية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العنوان الأصلي والمصدر: