إدغار موران: ليس لدينا وعي تام بأننا نسير نحو الهاوية

| 25 يوليو 2021 |
إدغار موران، عَالِم اجتماع وفيلسوف ومدير أبحاث فخري في المركز الوطنيّ للبحث العلميّ (CNRS)، وهو كذلك مفكِّر إنسانيّ، وأحد أبرز منظِّري الفكر المُعقَّد. احتفل بعيد ميلاده الـ 100 يوم 8 يوليو/تموز الماضي. في المُقابلة التي أجراها مع «franceinfo»، تطرَّق إلى «دروس قرن من الحياة»، مستحضراً انضمامه إلى المُقاومة وهو في الـ 20 من عمره، عام 1941. لا يخفي إدغار موران قلقه من تنامي نزعات الأنانيّة والقوميّة والانغلاق. لكنه يظلّ متفائلاً، داعياً الشباب إلى «الوقوف إلى جانب كلِّ القوى الإيجابيّة ومحارَبة قوى الدمار».
إدغار موران، أنت عالِم اجتماع وفيلسوف. لكنك أيضاً مدير أبحاث فخري في (CNRS)، ومقاوم سابقاً. يمكن تقديمك بعِدّة طرق مختلفة. المُفكِّر والإنسانيّ هي المُصطلحات التي تناسبك أكثر؟
– لا أرغب في أن يتمَّ اختزالي في تعريفٍ واحد. لذلك، إذا وضعت خمسة أو ستة، فلا بأس بذلك!
على أي حال، بلغت المئة في الثامن من يوليو/ تموز الماضي. هل احتفلت بعيد ميلادك؟ خاصّة وقد تمَّ استقبالك في الإليزيه.
– نعم. كما أقيمت بالفعل مراسم في اليونسكو. وكان هناك احتفال في دار البلدية في باريس. لقد احتفلت بميلادي مع عائلتي وأطفالي، وسيكون هناك احتفال في «أفينيون». هناك سيل من الاحتفالات إلى حدٍّ ما، لكن هذا يحدث فقط كلّ مئة عام!
مئة عام هي على أي حال فرصة للتقييم بطريقةٍ ما. هذا ما قمت به في كتابك «دروس قرن من الحياة». هل هو سيرة ذاتية، أو مقال؟
– لا، ليست سيرة ذاتية. الكتاب فيه عناصر سيرة ذاتية لتنوير القارئ، حول الدروس التي تعلَّمتها في حياتي، في مجالاتٍ مختلفة. لنفترض أنها تجربة.
تجربتك في الحياة ثريّة لكنها بدأت بشكلٍ سيئ. حاولت والدتك إجهاضك. ثمَّ وُلدت والحبل السري حول رقبتك. وعانيت من صدمة وفاة والدتك عندما كنت في العاشرة. كلّ هذه الأحداث الصادمة هل جعلتك قويّاً لتعيش طويلاً؟
– ربّما هي المُقاومة التي منحتني إياها الحياة، عندما كنت جنيناً وأرادوا إجهاضي. قد يكون الأمر كذلك بعد وفاة والدتي، كنت أعاني من مرض غريب. مرّة أخرى تعرَّضت للمرض الشديد، وقاوم جسدي. ربّما كلها لعبت دوراً. ولكن أيضاً كنت الطفل الوحيد. تعرَّضت والدتي لمرض في القلب ولم تستطع إنجاب طفلٍ آخر. لذلك كانت هناك علاقة عشق متبادَلة ومتكامِلة.
هذا الهروب من ألمي جعلني أكتشف الواقع عبر الخيال. شاهدت أفلاماً عن حرب عام 1914 التي كشفت لي عن وجه الحروب. شاهدت أفلاماً عن المُجتمع. علَّمتني الروايات والسينما أكثر حتى من المدرسة.
لقد استخدمت كلمة «مقاومة». كان عمرك 21 عاماً عندما انضممت إلى المُقاومة… هل ترى بأنها فترة صعبة، وقد عايشت الحرب العالمية الثانية؟
– هناك حالة من عدم الاستقرار ليست هي نفسها على الإطلاق. لكنني أعتقد أن الشدائد أيضاً هي التي يجب أن تحفِّزنا. كانت المُقاومة في الأساس من الشباب: تراوحت أعمار قادتنا بين 24 و 28 سنة. كانت حركة عبَّر فيها الشباب عن تطلّعاتهم وتمرُّدهم. أعتقد أنه على الشباب التعبير عن تطلّعاتهم وثوراتهم في نفس الوقت، كما فعلنا. اليوم، الدافع مختلف. كنا ندافع عن الوطن، وحتى على نطاقٍ أوسع، كانت الإنسانيّة معرَّضة للخطر من قِبل القوى الاستبداديّة. لكن الكوكب اليوم مهدَّد. إنه ليس عالَم الحيوان والنبات فقط. نحن أنفسنا، مع التلوُّث، والزراعة الصناعيّة. لدينا ألف تهديد بالصراعات والتعصُّب والانغلاق على أنفسنا. هناك أسبابٌ وجيهة تماماً للشباب، الدفاع عن الأرض، الدفاع عن الإنسانيّة، الإنسانيّة جمعاء. هناك غريتا ثونبرج الصغيرة، وكذلك الشباب الآخرون الذين يشعرون بذلك. أعتقد أننا نحتاج دائماً إلى التعبئة من أجل شيء مشترك، من أجل مجتمع. لا يمكنك إثبات نفسك من خلال التقوقع في أنانيتك، في حياتك المهنية. يجب علينا أيضاً المُشاركة في الإنسانيّة وهذا أحد الأسباب، على ما أعتقد، الذي جعلني متأهباً حتى في عُمري هذا.
غالباً ما نقارن بين فرنسا اليوم وفرنسا في الثلاثينيات، مع ارتفاع منسوب العنف، والانغلاق على الذات. هل تجد هذا التشابه أيضاً؟
– إنه تشابه أرسمه على مستوى معيَّن. لقد كانت فترة المخاطر المُتزايدة التي عشناها تقريباً مثل السائر أثناء النوم، دون أن ندرك ذلك. لكن الخطر اليوم ليس هو نفسه على الإطلاق. في ذلك الوقت، كانت ألمانيا أسيرة هتلر ومفهوم التفوُّق الآري الذي خطّط للسيطرة على كامل أوروبا بمساحتها الحيويّة واستعباد العَالَم السلافي. كان التهديد من ألمانيا النازية هو الخطر الرئيسيّ. اليوم هناك المزيد من المخاطر. هناك الكثير. لديك خطرٌ نوويّ. لديك الخطر الاقتصاديّ، خطر السيطرة على المال في كلِّ مكان. لديكم أزماتُ الديموقراطيّة، كما كانت في ذلك الوقت، والتي هي اليوم بنفس الدرجة من الخطورة. إذن، هناك سمات متشابهة، لكن هناك أيضاً سمات مختلفة جدّاً. وفوق كلّ شيء، هناك غيابٌ للوعي الواضح عندما يسير المرءُ نحو الهاوية. ما أقوله ليس قدراً محتوماً. كثيراً ما أقتبس كلمات الشاعر هولدرلين الذي يقول: «حيث يوجد الخطر يوجد أيضاً ما ينقذك». لذلك، أعتقد أن الأمل لا يزال قائماً.
كتبت في إحدى مقالاتك الصحافيّة: «يجب أن نفهم أن أي شيء يحرِّرنا تقنياً ومادياً يمكن في نفس الوقت أن يستعبدنا». أنت تتحدَّث عن الأداة الأولى التي تحوَّلت إلى سلاح على الفور. أنت تتحدَّث عن مخاطر التكنولوجيا الحديثة، وخاصّة المُراقبة بالفيديو والخوارزميّات. هل هي مخاطر فورية؟
– إنها أحد المخاطر في هذا المُجتمع، دعونا نسمها الشموليّة الجديدة، التي يمكن أن تترسَّخَ. لكن يجب ألّا ننسى المُحيط الحيويّ الذي سيزيد كلّ هذا سوءاً إذا استمرّت أزمة المناخ. يجب ألّا ننسى أن التعصُّب منتشر في كلّ مكان. ما يذهلني كثيراً هو أننا في هذه اللحظة -والوباء دليل على ذلك- جميع البشر، مجتمع المصير، نعيش جميعاً نفس الشيء من نيوزيلندا إلى الصين وأوروبا. لقد عانينا من نفس المخاطر الجسديّة والشخصيّة والاجتماعيّة والسياسيّة.
كيف جرَّبت، على المُستوى الفكريّ، الحَجْرَ الصّحيّ، أو هذه الفكرة لحبس الأفراد؟ هل ترون بأن الصحّة أهمّ من الاقتصاد؟ أم بالعكس كان الحَجْرُ على حساب الحرّيّات؟
– التعقيد هو أن ترى تناقض الأشياء. هناك رغبة واضحة في فرض سياسة صحيّة، لكنها ربّما لم تكن مناسبة تماماً للوضع. الحَجْرُ كانت له نتائج مفيدة لدى البعض، وكذلك المآسي عند البعض الآخر. إنه متناقض للغاية. لكني أعتقد أن هذا الفيروس لم يتم التفكير فيه جيّداً. ما زلنا في مغامرة غير معروفة وخطيرة وأعتقد أنه يجب إعادة التفكير سياسيًا وصحّيّاً بشكلٍ جذري اليوم.
الآن وقد بلغت المئة. من الواضح، في هذا العُمر، نفكِّر في النهاية. أكسل كان، الذي وافته المنية يوم الثلاثاء 6 يوليو/تموز، كان قد أرَّخ تقريباً لنهاية حياته. هل أعددت لذلك أيضاً؟
– هناك فرقٌ كبير مع أكسل كان، الذي كان يعلم أنه مصاب بسرطان قاتل. حتى الآن، ليس لديّ أي مشكل، ولا يمكن أن يكون لدي نفس موقف أكسل كان. مازلت أتمتع، على الأَقلّ من الناحية العقليّة، بقوى الحياة التي تمنحني الرغبات والمشاريع والملذَّات. بالطبع، أنا أعيش بطريقةٍ أكثر تقييداً بكثير ممّا كُنت عليه في الماضي. ضعف سمعي. عيني لا تقرأ الأشياء المجهرية بعد الآن. لم يعد بإمكاني الركض. لذا، أعرف أن الموت يمكن أن يأتي في أيِّ وقت، وأعلم أني قد أنام ذات ليلة ولا أستيقظ، لكن هذا قدر الإنسان.
ناضل أكسل كان كثيراً من أجل أن ينهي حياته بكرامة. هل المعركة تهمّك أيضاً؟
– إنني أتفهم جيّداً هذه الحاجة إلى تجنُّب المُعاناة الأكثر رعباً للأشخاص الذين يعيشون التجربة. لكن الأطباء يواجهون تناقضاً أخلاقيّاً. من ناحيةٍ، قَسَمُ أبقراط، الذي يأمرهم بإطالة العمر قدر الإمكان، ومن ناحيةٍ أخرى، جزءٌ من الإنسانيّة يقول لهم: دعونا نوقف معاناة هذا المسكين. أنا أؤيد وجهة النظر هذه، لكنني أعلم أن هناك حالاتٍ نادرة لأشخاصٍ في غيبوبة يئس الأطباء من علاجهم، لكنهم يستيقظون فجأة بعد بضع سنوات.
هل نحن بحاجة إلى تغيير قانون أخلاقيّات البيولوجيا؟
– يجب أن نفكِّر في تناقضات أخلاقيّات علم الأحياء. نحن نرى أن علم الوراثة يسمح بالتلاعب الذي يمكن أن يكون خطيراً، وفي نفس الوقت التدخلات التي يمكن أن تكون مفيدة للغاية. يجب أن نتذكَّر أننا في هذا المجال غالباً ما نتعامل مع واجبات متناقضة. لذلك، قبل كلّ شيء، يجب أن نضع قانوناً وفقاً لتعقيد الأشياء، وليس بطريقة مبسّطة.
دائماً هذا التناقض و«التفكير المُعقَّد». يمكننا أن نرى ذلك أيضاً في قضية ميلا المُتعلِّقة بحرّيّة التعبير هذه المرّة. أظن أنك مع الدفاع عن حرّيّة التعبير.
– إنها ليست اتفاقية، إنها قضية دائمة يجب الدفاع عنها!
لكن إلى أي مدى؟ هل يمكن لفتاة في المدرسة الثانوية إهانة دين عبر الإنترنت؟ ورداً على ذلك هل يمكن أن يدعو الناس لقتلها؟ هل كانت هناك عدالة في الحكم على المُتحرشين بالفتاة ميلا بالسجن 4 إلى 6 أشهر؟
– أعتقد أننا هنا أيضاً نتعامل مع تناقض أخلاقيّ. أنا أؤيد حرّيّة التعبير الكاملة، لكنني بالطبع أعتقد أيضاً أنه في التاريخ الشهير للرسوم الكاريكاتوريّة، فهي ليست قذرة في نظر الجهاديّين فحسب، بل يمكن أن تسيء إلى المُسلمين الأتقياء. لذلك لا أشجِّع على الرقابة، لكن من واجب الصحافيّين التحلّي بشعور التعقيد والمسؤوليّة. هذا ما يجب أخذه بعين الاعتبار. الأمر متروك للصحافيّين لمعرفة متى يتجنَّبون موضوعاً مسيئاً. على سبيل المثال، لتجنُّب أي مقارنة مع المسائل الحالية، الإسلام أو المسيحيّة. عندما يذهب البيض في أميركا إلى الغابات المُقدَّسة للهنود، وهذه الغابات بالنسبة لهم أكثر من مقدَّسة لأنها مرقد أسلافهم، أعتقد أنه يجب علينا إدانة ما هو انتهاك لمُقدَّسات الهنود. من الضروري التفكير في كلِّ حالة، وليس الحصول على أفكارٍ مجرَّدة عامة.
ذكرنا أشياء كثيرة سوداويّة سواء في الحاضر أو الماضي. هل من إشارة أمل بمُناسبة عيد ميلادك المئة؟ هل ترى مستقبلاً مشرقاً محتملاً؟
– أولاً، أعلم أنه لا يوجد شيء غير قابل للإصلاح. لسوء الحظ، لا يمكن عكس الديموقراطيّة، لكن الديكتاتوريّة يمكن أن تكون عكس ذلك. عشنا أزمنة مظلمة مثل الاحتلال، حيث لم يكن هناك أملٌ لسنوات، حتى وصلت معجزة الدفاع عن موسكو ودخول الولايات المُتحدة للحرب. لذلك، فإنَّ ما هو غير محتمَل يحدث في التاريخ. تحدث أحداث سعيدة. أحياناً يكون لها معنى محدود فقط، لكنها تظلّ مهمَّة. خذ البابا فرانسيس، على سبيل المثال، إنه أول بابا منذ قرون يعود إلى مبادئ الإنجيل، وأصبح مدركاً للمخاطر التي تهدِّد الأرض والفقر والبؤس البشريّ. لم يكن متوقَّعا أن يخلف هذا البابا بابا آخر كان منغلقاً جدّاً ورجعياً للغاية.
في الأساس، هناك دائماً صراع بين ما يمكن أن نسمِّيه قوى الاتحاد والتجميع والصداقة، إيروس، والقوى المُضادة للدمار والموت، ثاناتوس. إنه الصراع الأزلي منذ نشأة الكون، حيث تلتقي الذرات، وحيث تدمِّر النجومُ بعضها البعض، وتبلعها الثقوب السوداء. هناك اتحاد وموت في كلِّ مكان. في الطبيعة المادية، وفي العَالَم البشريّ. أقول للناس وللشباب: اصطفوا إلى جانب قوى الخير، قوى الاتحاد والتجميع والمحبة، وناضلوا ضد كلّ قوى الدمار والكراهية والازدراء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حوار: لورين سينشال
رابط مُختصر للمصدر: