إسكندر حبش.. حياة أخرى متكاملة!

| 26 مايو 2021 |
إسكندر حبش، شاعر وصحافي ومترجم لبناني، من مواليد مدينة بيروت، العام (1963). ساهم في إصدار مجلّات شِعرية في الثمانينات، وأشرف على الصفحة الثّقافيّة في جريدة «السفير»، قبل أن تتوقَّف عن الصدور في 31 ديسمبر، (2016). صدرت له مجموعات شعرية، من بينها: «بورتريه رجل من معدن» (1988) – «نصف تفاحة» (1993) – «تلك المُدن» (1997) – «أشكو الخريف»، و«لا أمل لي بهذا الصمت» (2009) – «لا شيء أكثر من هذا الثلج» (2013) – «إقامة في غبار» (2020).
كما صدرت له ترجمات في الشِّعر والرواية والفلسفة، من أبرزها رواية «ألف منزل للحلم والرعب» للروائي الأفغاني عتيق رحيمي، و«لست ذا شأن» هي شذرات للكاتب «فرناندو بيسوا»، و«أجمع الذكريات كي أموت: 32 شاعراً برتغاليّاً معاصراً»، و«هكذا تكلَّم أمبرتو إيكو»، و«نجهل الوجه الّذي سيختتمه الموت: من الشِّعر الإيطالي المعاصر»، و«مروفين» رواية لميخائيل بولغاكوف، و«حرير» رواية ألساندو باربكو، و«العاشرة والنصف ليلاً في الصيف» وهي رواية للفرنسية مارغريت دوراس. كما أعد وقدّم «ديوان الشِّعر العربي في الربع الأخير من القرن العشرين–لبنان»، وكِتاب «حكاية الحكايات: قراءات في روايات معاصرة».
في هذا الحوار، نتعرَّف إلى مرجعيّة الشاعر والمترجم إسكندر حبش، في الحياة والكتابة، والترجمة، والنقد..
كنتَ شاهداً على الكثير من حقب المحن والأزمات التي عصفت بلبنان بما فيها سنوات الحرب الأهليّة، ولنقل، أيضاً، إنّك كنت ابن مراحل متعاقبة متأزِّمة ومأزومة في لبنان، لماذا لم تفعل مثلما فعل الكثير من كُتّاب لبنان وأدبائها، الذين لاذوا بالهجرة كحلٍّ أخير يمكن القيام به في خضمّ الأزمات الدامية والمربكة؟ ألم تفكِّر، حقّاً، في الخروج من لبنان، أيّام الحرب الأهليّة؟
– إسكندر حبش: فعلاً، لم أعرف في لبنان، منذ أن وُلِدت العام (1963)، إلاّ المحن والأزمات والحروب المتعاقبة، لدرجة أنني أتساءل عن معنى هذا «القدر» الّذي لَفَّني، و-بالتأكيد- لستُ الوحيد في ذلك، بل ثمّة شعب بأسره، ثمّة بلد بأكمله. كنتُ أمام خيارين؛ إمّا البقاء وعيش كلّ ما جرى، وإمّا الهجرة والاِبتعاد عن هذا المناخ. كان القرار أن نبقى، عائلتي وأنا. ربّما، سياقنا «التاريخي» الّذي جئنا منه، كان وراء هذا القرار في البقاء، في هذا المكان. سأحاول أن أشرح: أنتمي إلى عائلة، من جهة الوالد، كانت غادرت فلسطين أيّام النكبة، في (1948)، فجاءت إلى لبنان. أيضاً، من جهة والدتي، هناك جدَّتي التي هاجرت مع عائلتها من أرمينيا الغربية، أي وقت المذابح التي ارتُكبت بحقّ الأرمن، فجاءت عائلتها، بدورها، إلى لبنان؛ بهذا المعنى، وُلِدت من هجرتَيْن؛ لذا –ربّما– أعتقد أنّه كان، من الصعب، البحث عن هجرة ثالثة.
أعتقد أنه من الصعب على المرء أن يبقى مهاجراً إلى الأبد. إنّه بحاجة إلى مكان يشعر فيه بأنّ الأرض صلبة تحت أقدامه، بالرغم مِمّا تعرفه (هذه الحرب) من حروب وأحداث. حتى بعد أن أنهيت مرحلة الدراسة الثانوية، رفضت أن أغادر للدراسة، خارج لبنان، برغم المنحة الدراسية التي «أُهديَتْ» إليَّ، مفضِّلاً أن أبقى، رافضاً أن أفوّت عليّ أيَّة جولة من جولات الحرب. صحيح أنّ هذه الحرب ليست فيلماً سينمائياً ممتعاً، لكني، في قرارة نفسي، كنتُ أرفض هذا التقسيم بين المناطق، كنتُ أرفض منطق الحرب، كنتُ أشعر بأنّ بقائي يشكِّل رفضاً لكلّ ذلك؛ لذا قرَّرتُ عدم «الهروب»، و-استدراكاً- لا تشكِّل كلمتي هذه (الهروب) أيّ اِنتقاص من قيمة أيّ شخص قرَّر مغادرة البلد. لكلّ منّا خياراته. حتى المرّة الوحيدة التي قرَّرت فيها أن أعمل خارج لبنان، وذهبت يومها إلى إيطاليا، جاءت بعد أن انتهت الحرب الأهليّة. حدث الأمر بين (1995) و(1996). عدت إلى بيروت لأسباب كثيرة: لن أقول بسبب الحنين، لكني شعرتُ بأنّ التجربة هناك استنفذت. وبعد أيّام قليلة من عودتي، العام (1996)، اندلعت «مجزرة قانا»، فلم تَفُتْني هذه الجولة الجديدة من حروبنا الدائمة، حروب العدوّ على أرضنا.
لا أعرف، الآن، فعلاً، إن كانت خياراتي صائبة. لكني أشعر براحة ما، وبخاصّة بعد أن غادرت بيروت وإيقاعها، لأعيش في إحدى القُرى التي تقف على كتفها. أشعر بأن لديّ وقت أكثر للقراءة والكتابة. بالطبع، كان يمكن أن أقوم بذلك لو غادرت باكراً. ولكني أضطلع بخياراتي. ولست – في العمق – نادماً عليها.
هذا يعني أنّك ابن هجرات، وابن ثقافات؛ ما يفسِّر -لاحقاً- ولعك بالثقافات الغربية، واختصاصك في ترجمة بعض آثارها الأدبية، والفكرية، والنقدية.
– ألا يمكن القول إنّ القراءة هي، أيضاً، «هجرة» من حيث إنها تجعلنا نبتعد عن لحظتنا الحالية، لنسافر معها إلى أماكن قصيّة؟ بعيداً عن الثقافات التي أتيتُ منها، كانت قراءاتي تبعدني عن لحظة الحرب التي كنتُ أعيشها. كانت سفراً وتجوالاً في بلدان أخرى، كانت عوالم أكتشفها، وقد نجحت في إحداث قطيعة ما (ولو واهية، في العُمق) مع كلّ هذا الأرق الذي نعيشه، ولا أعرف! ربّما، أصبحت هي الأرق بحدّ ذاته، لاحقاً.
القراءة أصبحت هي الولع، ولا أعتقد أنّ الميل إلى الثّقافة الغربية كان مقصوداً. هي الصدفة التي أخذتني إليها، أظنّ أني كنتُ بحاجة إلى مناخات بعيدة، إلى عوالم مختلفة، لا تمت بصلة إلى ما أعرفه. لا أدري إن كان ذلك محاولة هروب، من شيء ما؛ كلّ ما أعرفه أنّها كانت حاجة دفينة.
أمّا ترجمة بعض كُتب هذه الثّقافة، فقد جاء هذا الأمر لاحقاً. الترجمة، أيضاً، وبمعنًى من المعاني، كانت محاولة للإطلالة على خطاب آخر، قد يقف على تضادّ مع خطابنا، محاولة لاِكتشاف طريقة تفكير مختلفة مع طريقة تفكيرنا، لكن هذا لايعني أنني سقطت في عملية تقديس لهذا الخطاب. علينا أن نقرأ، أيضاً، بنوع من النقدية، علينا أن نقرأ لنكتشف كيف هي صورتنا في خطاب هذا الآخر.
ترجمتَ كثيراً من كُتب الشِّعر والفكر والأدب والنقد. تُؤمن، دائماً، بأنّ الترجمة، بالنسبة إليك، إبداع على إبداع. ألم يحدث، مثلاً، أن كانت، يوماً، لحاجة من حاجات العمل، فحسب؟
– والفلسفة. أقصد ترجمت، أيضاً، كتباً فلسفية بالإضافة إلى الأنواع التي ذكرتِها. بصراحة، حين بدأتُ الترجمة كانت أمراً خاصّاً جدّاً؛ أي لم أُترجم سوى ما كان يعجبني، أو ما كنت أشعر أنّه يضيف إليّ ثقافة أخرى، أو تعبيراً آخر، أو حياة أخرى؛ لذا كنتُ حرّاً، دائماً، في خياراتي، ولم أبحث عن الكسب المادّي، فقط؛ أي أترجم ما يُطلب مني. لكن هذا الأمر، تغيَّر قبل أربع سنوات، إذ وجدتُ نفسي مضطرّاً لقبول بعض الترجمات المعروضة، لأسباب اِقتصادية بحتة. لكن، لحسن الحظّ، لم يستمرّ هذا الأمر طويلاً، إذ أعمل، الآن، مع دار نشر، تركتْ خياراتي مفتوحة، أي أُترجم لها ما يروق لي، وصاحب الدار موافق على اقتراحاتي؛ لذا عدتُ إلى طبيعتي.
قلتُ مراراً، في أحاديث سابقة، إنّ الترجمة، بالنسبة إليّ، هي نوعٌ من الكتابة. وكما لا يمكن لأحدنا أن يكتب ما يُطلب منه، لأنّه لا يستطيع أن يرتدي جلداً غير جلده، كذلك أنا في الترجمة (على الأقلّ، بالنسبة إلى ما أراه)، لا أريد أن أُترجم إلاّ الأشياء التي أحبُّها.
ما هو أكثر كِتاب ترجمته، وأثَّر فيك على المستوى الشخصي أو الفنّي، والمعنوي، والرمزي. كتاب ترك أثره فيك، حتّى الآن؟
– فعلاً، حتى الآن، مثلما تقولين، لأنّني لا أعرف ماذا سأترجم لاحقاً. أعتقد أنّني ترجمتُ ما كنتُ أحبّه، في أيّ حال. قرأتُ قبل فترة أعمال فيلسوفَيْن روسيَّيْن ينتميان إلى القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ترجمت بعض أعمالهما، هما: «نيقولاي برديائيف»، و«ليون شيستوف». لقد فتحا لي أبواباً واسعة، وجعلاني أكتشف كم أخذت منهما الفلسفة المعاصرة، وكم غيَّبتهما. ترجمتُ، مؤخَّراً، كتاباً لمفكِّر ومؤرِّخ فرنسي هو «فيكتور دوروي»، بعنوان «صراع الديني والفلسفي زمن سقراط». سحرني هذا النصّ. لم يتغيَّر الأمر منذ ذلك الزمن، فلا تزال الآليّات البشرية تعمل بالشروط عينها، فيما يخصّ المقدَّس، وغير المقدَّس.
بالتأكيد، هناك ترجمات شعرية. هناك «ريفردي»، وهناك شعراء عديدون غيره. ومثلما قلت، لا أحد يأتي من فراغ. نكتب لأنّنا قرأنا. لقد اِستمرَّت رحلتي مع «ريفردي» إلى الآن. أعود إلى قراءته، دوماً، وقد ترجمتُ له العديد من النصوص، أتمنّى أن أنشرها يوماً.
أنت وفيّ للشِّعر. لماذا لم تجرب كتابة الرّواية؟
– ولماذا عليّ أن أكتب رواية؟ صحيح أن هناك شعراء كثيرين يكتبون الرواية اليوم، لكن هذا خيارهم. وبالطبع، هذا لا يلزمني بشيء. في أيّ حال، بدأت مثلي مثل كلّ المراهقين، الذين يخطّون بعض الكلمات العاديّة على دفاترهم المدرسية، ويقولون إنها (شعر). بدأ ذلك في نهاية، العام (1975)، وأذكر جيِّداً، بسبب الحرب الأهليّة في لبنان: كنتُ في الحادية عشرة من عمري، وكان لصوت الرصاص والقذائف التي تتهاوى في كلّ المناطق، الأثر الكبير في جعلي أرتجف من الخوف. لم أكن أعرف ماذا أفعل، لأمنع عني هذا الرعب. أحياناً، أختبئ تحت السرير، ومرّات في الحمّام، إلى أن اِكتشفت هذه الرغبة في نقل خوفي إلى الورق. أعترف أنّ هذه المحاولة، سبَّبت لي الكثير من التوازن. لن أقول إنّني لم أعد أشعر بالخوف، لكني أصبحت، مع الورقة، أكثر قدرةً على الاِحتمال. لو حاولتُ التفكير، اليوم، وبعد ما يقلّ قليلاً عن ثلاثين سنة، لوجدتُ أنّ الكتابة شكَّلت علاجاً ما، شكَّلت هروباً من الواقع. اِستمرَّت هذه اللعبة -إذا جاز القول- فلم أغادرها، وربّما هي التي لم تغادرني. الأمر واحد بالنسبة إليّ. خَطَطْتُ كلمات كثيرة على دفاتر، كنت أصنعها بنفسي، حيث آتي بأوراق، وأصنع لها أغلفة. كانت الدفاتر هذه ملجئي الحقيقي.
لم أبقَ وفيّاً للشِّعر، بصراحة. كتبتُ المقالة الصحافية، كتبتُ النقد والبحث، نشرتُ كتبَ حوارات، وكتباً سردية تتعلَّق بالرحلة، وترجمتُ الكثير. كلّها أنواع كتابية مخالفة للشِّعر. أمّا – ولأعد إلى بداية كلامي– لِمَ لَمْ أكتب الرواية؟ فلأقل بشيء من السهولة: لم أشعر بالرغبة، بتاتاً، في القيام بذلك. في أيّ حال، ترجمتُ الكثير من الروايات، والترجمة عندي هي نوع من الكتابة؛ لذا سأدَّعي أنّ ترجماتي هذه هي رواياتي. أعتقد أنّني أخلصتُ للكتابة، بحدّ ذاتها. لم تعد بديلاً من حياة، كما قلتُ قبل قليل، بل هي حياة أخرى متكاملة، أجمل، إن أردت. ولا أستطيع إلاّ أن أقول ذلك عنها، بعد أن أمضيتُ عمري في ملاحقتها، وإلاّ سأكون، عندها، خائناً لكلّ ما فعلت، وارتكبت من كتابات. وبصراحة، لو خُيِّرتُ لي أن أعيد حياتي من البداية، لعدتُ وكتبتُ، برغم كلّ المتاعب. لا أحسن القيام بأيّ أمر آخر سواه.
هذا الاِدِّعاء بأنّ ترجماتك هي رواياتك.. هل يشفي شغف السرد عندك؟ هل تكفي روايات آخرين لتكون رواياتك بالترجمة؟
– كتبتُ العديد من سرد الرحلات؛ أي -إذا أردتِ- ثمّة شغف سرديّ أخذني إليه. ولكن لا أشعر بأيّة رغبة حقيقية في كتابة الرواية. بالتأكيد، في إجابتي السابقة عن كتابتي لروايات الآخرين، محاولة للهرب من السؤال، عبر إيجاد تسويغ ما، إذا جاز القول. لكن، في العُمق، وبرغم إدماني على قراءة الروايات (وقد أصدرت ثلاث كُتب نقدية عنها)، لا يشكِّل الأمر لي أيّة حاجة فعلية. ما أريد قوله أقوله بطُرق تعبير أخرى. حتى الآن، لم أشعر بالحاجة إلى قول ما أريد عبر سردية الرواية.
هل يمكن أن القول بوجود رواية، قرأتَها وشعرتَ بأنّك بطلها؟
– صعب أن أختار رواية واحدة، أو كاتباً واحداً؛ لا لشيء إلاّ لأنّني لم أقرأ كلّ كُتّاب العالم. ما أريد قوله إنني، في كلّ مرحلة، أكتشف اسماً، وأجدني منساقاً إليه، وأعتبره بأنّه يمثِّلني. لكني، بعد فترة، أعود لأجد أنّ اسماً آخر يحتلّ المشهد. في أيِّ حال، ولكيلا أبدو أنّني أتهرَّب من الجواب، سأذكر لك بعض الأسماء التي لا تزال ترافقني إلى اليوم؛ بمعنى أنّني أستعيد قراءتها، ولا أملّ منها: عبد الحكيم قاسم (مصر)، غالب هلسا (الأردن)، ويوسف حبشي الأشقر (لبنان)، محمود شقير (فلسطين)، ورشيد بوجدرة (الجزائر)…. ميلان كونديرا (تشيكيا / فرنسا)، إميل زولا، رومان رولان (فرنسا)، دانيلو كيش (يوغوسلافيا السابقة)، تولستوي، ودوستويفسكي (روسيا)… ولن أكمل. فاللائحة تطول. دائماً، أخذتني القراءة إلى أماكن أحلم فيها، وبها، و-ربّما- أكثر من الكتابة.
لنعد إلى الشّعر وعوالمه. ماذا أعطاك الشِّعر؟ ماذا أضاف إلى مسيرة حياتك؟ ألم يحدث أن لعنته مرّة، أو اعتبرته مُعرقلاً لأحلام أخرى؟
– أن أضع اللعنة مقابل الشِّعر، فهذا يعطيها قيمة أكبر مِمّا هي عليه في الواقع. تماماً، مثلما قال الشاعر الألماني الكبير نوفاليس: «أن تضع الشرّ مقابل الفضيلة، فإنك تشرِّفه كثيراً بذلك». حين بدأت الكتابة لم أفكِّر، مرّةً، بأني أنتظر شيئاً من الشِّعر. كتبت، بدايةً، كما قلت لك قبل قليل، من دون أن أعرف لماذا. كان الشِّعر، في البداية، والكتابة، بشكلٍ عام، نوعاً من التعبير. وصار نوعاً من توازن. بالتأكيد، لم أبحث عن التوازن حين كتبت، لكنّه طرح نفسه عليّ بهذا الشكل، أو -ربّما- هكذا أحسست. الشِّعر حياة بكلّ تفاصيلها. الآن، وبعد أكثر من (35) سنة من الكتابة؛ الشِّعرية وغير الشِّعرية، أجد أنّه «صوت الأخوّة الإنسانية» كما عبَّر عن ذلك الشاعر الروسي الكبير «غينادي أغييف». الكتابة نوع من التنازل عن تفاصيل حياة يومية، للبحث عن ميتافيزيقيا متعالية، ربّما. لكنني، أيضاً، لا أحمِّله كلّ شيء.
أحد الأمور التي أعتقد أنّها تشكِّل أزمة ما في ثقافتنا، أنّنا أفردنا للشِّعر والشعراء حيّزاً أكبر من الفلسفة مثلاً. أعتقد، اليوم، أنّه كان علينا أن نغذّي الفكر أكثر مِمَّا غذَّينا البلاغة والصور الجميلة. لا أبالغ لو قلت إن الإنسان العربي، اليوم، يعاني من هذه الأزمة: إنّه غير عقلاني، ولا تزال صورة بيانية، تطربه وتُدخله في حالة من النشوة، بينما لا يريد أن يفكِّر بأيّة قضية، أو -بالأحرى- ترعبه قضايا التفكير.
العربي -ربّما- أسير هشاشته؛ لهذا تُطربه الصور، ولا تُؤثر فيه قضايا مصيرية، كما لا يُفكر بأيّة قضية. لكن، برأيك، ما الأسباب الحقيقية وراء رعبه من قضايا التفكير؟
– نحن أمّة استقالت من التفكير؛ ربّما لهذا «خرجنا من التاريخ»، ويبدو، حاليّاً، أننا سنخرج حتى من الجغرافيا. فما يحدث من حروب متنقّلة، في بلداننا، سيوصلنا إلى هذا الأمر. نحن أمّة (اقرأ، لا تقرأ). نريد من يقرأ عنّا، ومن يقدِّم لنا قوانين للحياة. نحن ظاهرة صوتية (القسم الأكبر منّا) فيما لو استعرنا عبارة عبد الله القصيمي. ولا تنسي، بالطبع، ذاك العجز الشعري «والأذن تعشق قبل العين أحياناً». نتناقل الإشاعة، بدون رؤية، وبدون رؤيا. نعتمد على السماع: «وكفى الله المؤمنين القتال». نريد كلّ شيء أن يكون جاهزاً، وعلى قياسنا، لكي نحمله معنا.
من غير الصحيح، مطلقاً، أننا نخشى التفكير مخافةً الديني؛ لأنّنا لو قرأنا النصّ القرآني جيِّداً، لعرفنا أن علينا أن نفكّر، وأن نُعْمِل العقل. استسلمنا لبعض المشعوذين، وأقصد أولئك الدعاة، الذين يفسِّرون النصّ الديني على هواهم. كيف نقبل هذه التفاسير التي لا تحمل أيّ منطق، في كثير من الأحيان (ثمّة أمثلة صادمة حول ذلك)، ونرفض تفاسير أخرى، تريد أن تُعلي شأن العقل؟ جاء الدين، كما أعتقد، لكي يخرجنا من الخوف. ولم نفعل شيئاً سوى جعل هذا الدين أداةً للخوف المطلق. وكما أقول لتلاميذي، دائماً: لا علاقة للإيمان الحقيقي بكلّ الأديان؛ هما أمران مختلفان. علينا أن نُعْمِل العقل لكي نفهم هذا النصّ.
عمرٌ طويل في الصحافة الثّقافيّة. هل علَّمتك هذه الأخيرة الكتابة، حقّاً؟ ألم تأتِ إليها من شغفك الأوّل بالأدب والشِّعر؟
– صحيح أنّني جئتُ إليها من القراءة والشِّعر، من شغفي الأوّل، لكنّها، فعلاً، علَّمتني الكتابة. لم أعد أخاف من الورقة البيضاء، التي تحدَّث، عنها العديد من الكُتّاب، ومايزالون يتحدثون. الكتابة اليومية، تأخذك إلى الأساسي مباشرة من دون لفّ أو دوران، من دون محسِّنات بديعية ولفظية، تعلّمك إيصال الفكرة. ثمّة عالم واسع وفسيح في الصحافة، وبعيداً عن كونها مهنة، هي مختبر للكتابة حقّاً.
كأنّ الكتابة دائماً هي الملاذ وطوق نجاة، حتى في خضم الحرب كانت حياة أخرى بديلة. هل نقول: ما أكثر نِعم الكتابة؟
– لولا نعمها لما كنّا نتحدّث ونتحاور الآن… مهمّة أي كاتب أن يكتب، وهذه الكتابة اِستغرقت عمره بأسره. لقد صرف حياته عليها. على الأقلّ، عليها أن تبادله شيئاً على هذا الإخلاص لها. من هذه الأمور نعمها.
ليس أمام الكاتب إلاّ أن يكتب. أن يزيد حصّة الجمال في هذا العالم القبيح، إن جاز لي قول هذا. عليه أن يخلص لمشروعه الكتابي، أن يجعله هو الأساس، الّذي يتصرف وفقه. لا أقصد أنّ عليه أن يدمِّر الآخرين المحيطين به، أبداً. عليه أن ينسى كلّ شيء حوله، وأن يصرف وقته للكتابة. أن يكتب شيئاً جيِّداً. ولا بدّ، هنا، أن تنصفه الكتابة. أن تبقيه في الذاكرة الجمعية لفترة أطول. ربّما، هو رهان قد لا يتحقّق، لكن علينا القيام بشرف هذه المحاولة.