إشكاليةُ اللّغةِ العربيّةِ عندَ بعضِ الأُدباءِ والإعلاميين

د. أحمد عبدالملك  |  15 ديسمبر 2021  |  

تظلُّ اللّغةُ -في أيِّ مجتمع- عاملَ بقاءٍ لهذا المُجتمع وازدهارهِ، ونقلِ مَعارفهِ إلى الأجيال القادمة. وحَصلَ أنْ تلاشت بعضُ الأمم، نتيجةَ تلاشي لُغتِها، ضمن التلاشي الناتجِ عن عدمِ العدالة، والغلو، والحروبِ والأمراض.

وللُغةِ العربيّة خصوصيةٌ واضحة، ومهمَّة، فهي لغةُ القرآن الكريم، ولغةُ الرسالة، وهي عاملٌ مُهمٌ لتوحُّدِ العرب والمُسلمين، ولقد بقيت هذه اللّغةُ صامدةً في وجهِ العديدِ من التحديّات السياسية، العسكرية، الاقتصادية، الاجتماعية والأدبية. وكانت الغزوات التي تعرَّضت لها أجزاءٌ من العالَم العربيّ، ثمَّ حقبةُ الاستعمار الحديث، والانتدابات، في مناطقَ مُحدّدةٍ من هذا العالَم؛ قد حاولت طمسَ اللّغةِ العربيّة، وإجبارَ بعضِ الشعوب العربيّة على التعلُّم بلغة المُستَعمِر أو المُنتدَب، كما حدثَ في دول شمالِ إفريقيا، وبعض الدول الإفريقية.

واليومَ تواجهُ اللّغةُ العربيّة معضلةً جديدة تشكَّلت بوجودِ أدواتِ التواصل الاجتماعي، وتهافتِ الإعلاميين على وسائل الإعلام، دونماً معرفةٍ باللّغة السليمة، أو حتى نُطق الحروف، بل وفي ضعفِ معرفةِ الطالب -في المُستوى الجامعي- للنُطقِ السليم لتلك الحروف، تماماً كما هي عدم قدرتهِ على كتابة موضوعٍ مقاليّ، ودائماً ما يُفضّل الطلبةُ الأسئلة الاختيارية (صح/خطأ). وما نقرؤهُ -عبر وسائل التواصل- يؤكِّدُ ما نذهبُ إليه.

نحن نعتقدُ أنَّ تدريسَ اللّغةِ العربيّة -خلال الخمسين سنة الماضية- قد تأثّر بالتحوُّلاتِ المُجتمعيةِ، ورغبةِ الأُسَرِ تعليمَ أبنائِها في المدارسِ الأجنبية، ذاتِ المساحةِ المحدودة في تعليم اللّغة العربيّة أو المنهج الديني، وأيضاً عدم تمكُّن بعضُ المُدرّسين من التوصيل السليم لهذه اللّغة، مقارنةً بالتدريس في الستينيات أو السبعينيات. ومن هنا، برزت مطالباتٌ بضرورةِ تطويرِ مناهجِ اللّغة العربيّة، منذ الثمانينيات، ولم يحصل أيُّ تطوُّر في هذا الاتجاه، حتى هذا اليوم، وهذا مبحثٌ طويل ومُتشعِّب، ولربّما تناولناهُ لاحقاً. وللأسف، فقد حتّمَ عدمُ إتقانِ بعض المذيعين للّغة العربيّة -في بعض المحطات- قيام المذيع بقراءة الأخبار الرسمية بلهجةٍ محلّيّة، أو استخدام التسكين (جرياً على قاعدة «سَكِّن تسلم»)، وينتجُ عن ذلك أَخطاءٌ فادحةٌ في مدلول الألفاظِ السياسية وتضميناتها!

د. أحمد عبدالملك

نأتي إلى الأُدباء (الجُدد)، الذين ظهروا خلال العشرين عاماً الماضية؛ ورأوا أنَّ بإمكانِهم الولوجَ إلى بوابةِ الشُهرةِ عبر الأدب! وصار أن ظهرت أعمالٌ قصصيةٌ وروائيةٌ جدّ متواضعة، لأنَّ بعض هؤلاء غيرُ مُتمكِّنٍ من اللّغةِ العربيّة، وبعضُهم كان يكتبُ قصتهُ أو روايتهُ باللَّهجةِ المحلية، ويقومُ مُدرسُ لغةٍ عربيّة بتحويلها إلى الفصحى، مع تحَفُّظنا الشديد على هذا النوع من «خداع» القارئ، وخداع الكاتِب ذاته.

وكان من نتائج ذلك، أنْ ظهرَ أَدبٌ «خديج» أساءَ لمسيرةِ الأدبِ في منطقةِ الخليج العربيِّ عموماً. كما ساهمت بعضُ دور النشر -في المنطقة- بدورٍ سلبيٍّ، بقيامها بطبعِ مثلِ تلك الأعمال، دونما مراجعةٍ أو تصحيحٍ لبعض المفاهيم أو حتى أشكال التراث، أو الحوادث التاريخية.

ولقد لمَسنا -ضمن تلك الإصدارات- إساءاتٍ واضحةً للتُراثِ الخليجي، ومكوِّنات الحياةِ الخليجية، كما وردَ في بعض «الروايات».

إنَّ حظَّ الإعلاميين «الجُدد» ليس بأفضل من حظِّ الأدباء «الجُدد»! فلقد أفرزَ لنا هذا الانتشارُ المُثيرُ للفضائيات، ومحطات الـ(F.M) واقعاً جديداً، خالفَ كُلَّ الأعرافِ الإعلامية، خصوصاً ما تعلَّقَ بسلامةِ اللّغةِ العربيّة، والتي هي الأساسُ في الرسالةِ الإعلامية؛ فظهر علينا جيلٌ من المذيعات والمذيعين «الرُوبوتيين» الذين اعتمدوا على جهاز القراءة (Auto Queue)، والذي يحاول إلغاءَ عقولِهم وسلبَ شخصياتِهم، وأصبحت المذيعةُ والمذيعُ لا يجلسان أَمامَ الكاميرا، إلَّا بعدَ التأكُّدِ من وجود هذا الجهاز؟! فماذا كانت النتيجة؟

  • التزامُ المذيعةِ أو المذيعِ بقراءةِ أَسئلةِ الحوار من الجهاز، بل، ويقومان بتكرارِ السؤالِ المكتوبِ على الجهاز، حتى لو جاوبَ عليه الضيفُ ضِمنَ ردِّهِ على السؤال السابق.
  • التهاءُ المذيعةِ أو المذيعِ بالبحثِ عن السؤال التالي، عبرَ جهازِ القراءة، دونما تركيز أو فهم أو استيعاب ما يقوله الضيف.
  • ضياعُ فرصةِ توليدِ سؤالٍ من أَجوبةِ الضيف، قد يراهُ المُشاهدون مُهمَّاً في السياق.
  • ضياعُ عينِ المذيعة أو المذيع بين أَسطرِ الجهاز، وهذا ما تكشفهُ عينُ المُشاهِد بسهولة.
  • عدمُ تطوُّرِ أَداءِ المُذيعةِ أو المذيعِ، أو زيادةِ خبرتهما الإعلامية، في الإعداد، وهذا يُشكِّلُ أزمة لهما في المُستقبل، كون معظمِ البرامج -في بعض المحطّات التليفزيونية- لا يُعدُّها المُذيعون بأنفسِهم.
  • وينطبقُ الشيءُ ذاتهُ على بعضِ مذيعات ومذيعي محطّات الـ(F.M) التي انتشرت بسرعة في العالَم العربيّ، مع التأكيد على أنَّ (95 %) من البرامج التي تُقدَّمُ في هذه الإذاعات وأغلب التليفزيونات، تعتمدُ على اللهجةِ المحلّيّة.

إِنَّه حقَّاً مأزقٌ كبيرٌ تواجههُ اللّغةُ العربيّةُ من أَهلِها! ولعلّنا نوردُ أدناه بعضَ الوسائل التي من شأنها دعمُ الكتابة الصحيحة للأعمال الأدبية، وسلامةَ تقديمِ البرامج والحواراتِ في الإذاعة والتليفزيون:

1 – ضرورةُ أنْ تُكتبَ النصوصُ (القصَصيَّة والروائيَّة والنثريَّة) بلغةٍ عربيّةٍ سليمة، وأن يُراجعها مُراجعٌ مُتمكِّن.

2 – ضرورةُ أنْ يكونَ الكاتبُ مُلمَّاً باللّغةِ العربيّةِ الفصحى، حتى لو تطلَّب الأمرُ الاستعانةَ بمدرِّسٍ لهذه اللّغة.

3 – تكثيفُ القراءةِ لفنون المعرفة، حيثُ إنَّ القراءةَ تُمكِّنُ الكاتِبَ من زيادةِ حصيلتهِ اللّغويّة، وضبط ِإيقاعِ القواعدِ النحويّة.

4 – رفعُ سقفِ الاختبارات التي تُجرى للمُتقدِّمِ لوظيفة (مذيع)؛ بحيثُ تكونُ إِجادةُ اللّغةِ العربيّة على أولِ سلَّم الأولويات في التعيين.

5 – إِدخالُ المُذيعات والمُذيعين (في محطّات الإذاعة والتليفزيون) دوراتٍ تدريبية مُتخصِّصةٍ في النحو والصَرف؛ مع أهمّيّةِ وجودِ مُدقّقٍ يُتابعُ أخطاءَ المُذيعات والمُذيعين يومياً، ويجتمع معهم، لمُناقشة ذلك.

6 – عقدُ اجتماعٍ يومي -في قسم المُذيعين- وتداولُ ما جرى خلال اليوم السابق، من هنّاتٍ أو اختلالاتٍ بحقِّ اللّغةِ العربيّة، مع وجود المُدقِّقِ اللُّغويّ.

7 – بعضُ المُذيعين يكون موظفاً في إدارةٍ أخرى، غير الإذاعةِ والتليفزيون، وهذا يحدُّ من متابعتهِ أو ارتباطهِ بالعمل الإعلامي، أي يعملُ بطريقةِ (Part Time)، حيث يسقطُ عاملُ الشغفِ وحبِّ العمل، وبالتالي تقلُّ درجةُ الإتقانِ في الأداء، وفي تطوُّرِ شخصية المُذيع من الناحية المهنية. كما أنَّ المذيعةَ أو المُذيعَ غير المُنتَميين إدارياً للمحطّة، قد يستقيلان في أيّةِ لحظة، وبالتالي تفقدهُما المحطةُ، وإنْ كانا من المُجدّين.

ويدفعنا الواجب هنا، إلى التصريح بمُراعاة الآتي؛ لحماية لغتنا العربيّة الجميلة:

  • وضعُ مناهجَ مُبسّطةٍ للّغة العربيّة.
  • حُسنُ اختيار المُدرّسين، والتدقيقُ في مؤهلاتِهم وخبراتِهم، واستعدادِهم الذهنيّ والمَعرفيّ لمِهنةِ التدريس.
  • تنظيمُ (ورش عمل) لهواة الكتابة عبر المراكز الشبابية، والمُؤسَّساتِ الخاصة، بهدف دعمِ قُدراتِ الشباب، وتوجيهِهم نحو إجادةِ اللّغةِ العربيّة الفصحى.
  • تطعيمُ مُخطَّط برامجِ الإذاعةِ والتليفزيون ببرامجَ عن اللّغة العربيّة، بصورةٍ مُشوّقة -غيرِ مدرسية- مع إضافة التشويق والإبهار اللازمَيْن لإنجاحِ مثلِ هذه البرامج، مع تقديم فقراتٍ شِعريةٍ أو مسرحيةٍ أو غنائيةٍ، لشرح جمالياتِ هذه اللّغة.
  • تنظيمُ دوراتٍ تدريبيةٍ في -المُؤسَّسات الإعلامية والصحافية- من أجل حُسنِ استخدامِ اللّغة العربيّة في العمل الإعلامي.

وأخيراً، فإنَّ اللّغةَ العربيّةَ هي وسيلتُنا في التواصل مع الآخر، ولا يُمكنُ أنْ نَفهمَ بعضَنا دونَ أنْ نُتقنَ اللّغةَ العربيّةَ، فكيفَ يكونُ الحالُ مع الآخر؟! خصوصاً في ظلِّ وجودِ الفضائياتِ العابرة للثقافات (Intercultural Communication)، والأقمار الصناعية (Satellites)، وأدوات التواصل الاجتماعي (Social Media)، التي تُحتِّمُ أنْ يكونَ المُنتَجُ الأدبي والإعلامي خالياً من العيوب، وبما يُشكِّل رسالةً واضحةً ومتكاملةً، يفهمُها كُلُّ الناطقين بالعربيّة.

مواضيع مرتبطة

فنّ لعب كرة القدم
ترجمة: عبدالله بن محمد 10 نوفمبر 2022
نسخة استثنائية في رحاب ثقافتنا
مجلة الدوحة 10 نوفمبر 2022
دموع الفوتبول
دموع الفوتبول 09 نوفمبر 2022
جابر عصفور.. التراث من منظور الوعي بالحاضر
حسن مخافي 07 سبتمبر 2022
القاضي والمتشرِّد لأحمد الصفريوي.. حين لا تكون الإثنوغرافيا سُبّة
رشيد بنحدو 02 يناير 2022
فيليب باربو: اللّغة، غريزة المعنى؟
ترجمة: مروى بن مسعود 02 يناير 2022
رسالة إلى محمد شكري: الكتابة بيْن الصمت والثرثرة
محمد برادة 02 يناير 2022
محمد إبراهيم الشوش.. في ظِلّ الذّاكرة
محسن العتيقي 01 نوفمبر 2021
بورخيس خَلَفًا للمعرّي
جوخة الحارثي 06 أكتوبر 2021
رحلة باريس الثانية وسنوات الغليان في صالون توفيق الحكيم
صبري حافظ 30 سبتمبر 2021