إنيو موريكوني.. الأغزر إنتاجاً والأكثر تنوُّعاً

| 02 أغسطس 2020 |
بمجرَّد المرور على اسم «إنيو موريكوني» Ennio Morricone تحضر في المسامع التيمة الموسيقيّة من فيلم «الطيب والشرس والقبيح» (1966)، وتحديداً ذلك الصوت المُميَّز لذئبٍ يعوي مع الصرخات والهمهمات البشريّة وأصوات الكورال الصاخبة التي تنظمها إيقاعات لطبول تحاكي صوت الخيول الراكضة مدعومة بنغمات الجيتار العنيفة. موسيقى يمكنك أن تسمعها ويمكنك أن تراها، تلك كانت نظرة موريكوني للمُوسيقى التصويريّة الجيِّدة: حين تتحوَّل لخطٍ بصريٍّ موازٍ للصور التي يعرضها الفيلم.
لكن تلك التيمة بقدر ما صعدت بهذا الموسيقار الإيطاليّ لمصاف عرَّابي المُوسيقى التصويرية وأهمهم على الإطلاق في تاريخ السينما، بقدر ما اختزلت تاريخاً طويلاً لموسيقار كان الأغزر إنتاجاً والأكثر تنوُّعاً في القرن العشرين. اللافت أن موريكوني كان يعلن بشكلٍ دائم أنه يكره تلخيصه في هذه المقطوعة، أو في نوعيّة أفلام الغرب الإيطاليّة التي ينتمي لها هذا الفيلم، أو أفلام أخرى من نفس النوعيّة اشتهر بها موريكوني ويراها لا تمثل أكثر من 8 % من الأعمال التي قدَّمها، فمشواره يحتوي على أكثر من 500 موسيقى تصويريّة لفيلم، بجانب عشرات المقطوعات من المُوسيقى الصافية، ومئات الألحان والتوزيعات الغنائيّة.
الجدير بالذكر أن أفلام الغرب الإيطاليّة كانت الهجين السينمائيّ للجونرا التي بدعها الأميركيّون وجسَّدوا فيها ملاحم الأربعينيّات والخمسينيّات في سينماهم، ليُسحر بها الإيطاليّون ويقومون باستيراد سماتها في أفلامهم لاحقاً، مع بعض التحوير والتطوير، فضلاً عن اللغة الإيطاليّة التي نطقت بها تلك الأفلام بالتوازي مع الدبلجة الإنجليزيّة العالميّة. وكان المُنتجون قد اتفقوا على تسميتها بأفلام «سباغيتي الغرب»، تلك التسمية كانت تزعج بعض الفنّانين الذين عملوا في هذه الأفلام، ومنهم إنيو موريكوني نفسه، فكان يرى أن ربط الفنّ بوجبة شعبيّة من المطبخ الإيطاليّ يُعَدُّ نوعاً من التحقير لهذه الأفلام التي كانت في نظر صنَّاعها تمثل ثورةً على السينما التقليديّة، وها نحن بعد عقودٍ نصنِّف بعض عناوينها ضمن الروائع فعلاً.
إنيو موريكوني من مواليد عام 1928 في مدينة روما الإيطاليّة ورحل عن عالمنا في الشهر الماضي. تربَّى إنيو في بيت أسرة من الطبقة العاملة، وتعلَّم المُوسيقى منذ بدايات طفولته بفضل والده الذي كان يعزف آلة الترومبوت بشكلٍ احترافي، ويكسب رزقه من العزف في الملاهي الليليّة، موريكوني الصغير تأثر بوالده، فاحترف العزف على نفس الآلة المُوسيقيّة، وحاول تأليف ألحانه الأولى وهو في السادسة من عمره، متأثراً بالمُوسيقى الكلاسيكيّة التي كان يعرضها الراديو آنذاك، ويمكننا تخيُّل طبيعة هذه المقطوعات التي انطبعت على آذانه البكر بوضعها في إطار المناخ السياسيّ لصعود الفاشيّة في إيطاليا في ذلك التوقيت، فكانت معظمها مقطوعات حماسيّة وثوريّة، أثّرت لاحقاً على طبيعة القطع التي ألَّفها موريكوني في أفلامه وكونشيرتاته، والتي اتسمت دوماً بطابع ملحميّ وحركيّ، وإنْ لم تخلُ من الرهافة والعاطفة المُتدفِّقة بشكلٍ ظاهر أو باطن في كلِّ أعماله، تلك كانت التوليفة التي ميَّزته عن الجميع.
عندما مرض والده، اضطر «إنيو» للنزول للعمل وهو في سنِّ المُراهَقة، وعزف في نفس الأماكن التي كان يعزف فيها والده، لكن ذلك لم يكن سقف الطموح، فبالتوازي كان يدرس المُوسيقى بشكلٍ أكاديميّ في المعهد المُوسيقيّ الإيطاليّ. وفي بداية شبابه انتقل مشواره نقلةً نوعيّة من العزف إلى التوزيع المُوسيقيّ، حيث قام بإثراء صناعة الأغاني الإيطاليّة والجنوب أوروبيّة عموماً في الفترة من مطلع الخمسينيّات وحتى نهاية الستينيّات، كما عمل في التليفزيون والراديو والإعلانات.

مع مطلع الثمانينيّات، كبح موريكوني إنتاجه للمُوسيقى التصويريّة، وقرَّر التركيز على التأليف المُوسيقيّ وعرض مقطوعاته في الحفلات، حيث قاد الأوركسترا في عزف أشهر أعماله. وكان يرفض لفترة العمل في هوليوود…
لم يكن فخوراً بعمله كمُوزِّع لألحان غيره، لدرجة أنه طمح لو بقي عمله في التوزيع حينها سراً، رغم ذلك كان مسؤولاً عن ثورةٍ أخرى في هذا المجال، فهو أول موزِّع موسيقيّ يستخدم الأصوات الطبيعيّة والغريبة في توزيعاته، ولم يعتمد على الآلات الموسيقيّة والكلاسيكيّة فقط، كان يستخدم علب الصفيح وأزرار الآلة الكاتِبة مثلاً في توليف الإيقاعات بدلاً من الطبول التقليديّة، واستخدم أصوات الحيوانات والطيور والمُحرِّكات الميكانيكيّة وغيرها من التحويرات على الأصوات التقليديّة، كما انضمَّ لتيارٍ موسيقيّ عُرِفَ وقتها بتيار «التناغُم الجديد»، وهم مجموعة من المُوسيقيّين قادوا حركة طليعيّة في صناعة المُوسيقى، تخلوا فيها عن البناءِ التقليديّ للتوزيعات وصنعوا محاولات للارتجال والتقويض أو ما عُرِفَ وقتها بالمُوسيقى المُضادة. كانت الأغاني المُوزَّعة بتوقيعه دائماً مميَّزة، تجعل نجوم الغناء يقصدونه بالاسم لتوزيع أغنياتهم، وهو ما فتح الباب له أمام تحقيق حلمه الرئيسيّ لاحقا بأن يقدِّم ألحانه الخاصّة.
بعد كلّ التراكمات السابقة، كان دخوله عالَم السينما والمُوسيقى التصويريّة للأفلام مسألة حتميّة. لم تكن خطواته الأولى في هذا المجال مميَّزة، حتى التقى بالمُخرج «سيرجيو ليوني»، الذي كان يجهِّز لفيلمه «من أجل حفنة دولارات» (1964)، ليوني كان زميل دراسة لموريكوني في المدرسة الابتدائيّة وتجمعهما عدّة صور من الطفولة، لكن ذلك لم يكن السبب في تعاونهما المهني، بل ترشيح من أحد المُنتجين، بارك ليوني هذا الترشيح بعدما سمع توزيع موريكوني لواحدة من أغنياته للمُطرب «بيتر تيفيس»، ورأى أنها المُوسيقى المُلائمة لأحداث فيلمه في حال تمَّ حذف المقاطع الغنائيّة منها واستبدالها بعزفٍ موسيقيٍّ منفرد. نجح الفيلم نجاحاً عالميّاً ملحوظاً، وكان البداية لثلاثية سينمائيّة ستكون المُعرِّف الأبرز لنوعيّة أفلام الغرب الإيطاليّ، الفيلم الثاني «من أجل المزيد من الدولارات»، وتنتهي الثلاثية بفيلم «الطيب والشرس والقبيح».
موسيقى موريكوني في تلك الأفلام خير شاهد على النقلة التي أحدثها بفنّ المُوسيقى التصويريّة، والتي لم تقل في تمرُّدها على الثورة التي أحدثها سابقاً في صناعة الغناء. المُوسيقى التي قدَّمها في هذه الأفلام كانت مختلفة اختلافاً نوعيّاً، طبَّق فيها موريكوني نظريّاته عن المُوسيقى المُضادة. لم تكن المُوسيقى ذاتها الشيء المُختلف الوحيد، ولكن طريقة تحضيرها وتوليفها مع المادة البصريّة، حيث كان المُخرج يفضِّل العمل بطريقة تأليف المُوسيقى قبل تصوير المَشاهِد، وكانت تلك المقطوعات تُلعَب في موقع التصوير، بحيث يسمعها طاقم العمل فيتأهل للمزاج الفنّيّ لتنفيذ تلك المَشاهِد، وبأسلوبٍ يتناغم مع المُوسيقى لا العكس.
باختصار ما كان يفعله الثنائي ليوني وموريكوني هو نوع من إضفاء طابع أوبراليّ على صناعة السينما، بحيث تكون المُوسيقى بوصلة رئيسيّة للإعداد المسرحي (Mise-en-scène) وللتوليف، مثلها مثل الدراما المكتوبة في السيناريو. وظلَّ هذا الثنائي يطبقان نفس المنهج في كلّ تعاون بينهما، حتى الأفلام التي ابتعدت عن تصنيف الغرب الإيطاليّ وأبرزها «حدث ذات مرة في أميركا» (1984).
في نفس العام الذي قدَّم فيه موريكوني موسيقى «الطيب والشرس والقبيح»، شارك في وضع المُوسيقى للفيلم الملحميّ التاريخيّ «معركة الجزائر» مع المُخرج جيلو بونتكورفو، كما وضع المُوسيقى التصويريّة لفيلم الغرب الإيطاليّ «نافاجو جوي» مع المُخرج سيرجيو كوبريتشي، وهي المُوسيقى التي أعاد المُخرج الأميركيّ «كوينتن تارانتينو» استخدامها لاحقاً في فيلمه «Kill Bill 2».
ومع عقد السبعينيّات نفض موريكوني عباءة أفلام الغرب، وصنع بموسيقاه روائع السينما ذات الطابع التاريخيّ، في أفلام «دراما الأغنياء» (1974)، والفيلم المُثير للجدل «سالو» للمُخرج بيير باولو باسوليني، و»1900» للمُخرج برناردو بيرتلوتشي. وفي السينما الأميركيّة قدَّم أهمّ أعماله مع المُخرج تيرينس مالك في فيلمه «Days of Heaven» 1978، والذي رشح موريكوني لأوّل جائزة أوسكار عن موسيقاه للفيلم. في تلك الحقبة كان موريكوني غزير الإنتاج بدرجةٍ لا تُصدَّق، وصل لمعدلات 20 فيلماً في السنة، البعض شبَّهه بالمُوسيقار الألمانيّ باخ في غزارته الإنتاجيّة، لكن موريكوني اعتاد التهكُّم على تلك المُقارنة: «باخ كان يؤلِّف قطعة أسبوعيّاً، أنا أؤلِّف قطعة شهريّاً!» لكن برغم هذه الغزارة لم تكن موسيقاه كلها على نفس النمط، لكن متنوِّعة في آلاتها وأفكارها وأمزجتها، فهو موسيقار ذو ألف وجه، وقلب واحد.
مع مطلع الثمانينيّات، كبح موريكوني إنتاجه للمُوسيقى التصويريّة، وقرَّر التركيز على التأليف المُوسيقيّ وعرض مقطوعاته في الحفلات، حيث قاد الأوركسترا في عزف أشهر أعماله. وكان يرفض لفترة العمل في هوليوود تحديداً، لأن أجره عن الفيلم كان أقل من أقل المُوسيقيّين العاملين بهوليوود وأشعره هذا بالظلم، حتى تبدَّلت الأحوال بفيلم «The Mission» (1986)، الذي شكَّلت موسيقاه ظاهرةً في ذلك الوقت، ورشّحت موريكوني لجائزة الأوسكار لثاني مرَّة في مشواره، لكنه لم يفز بالجائزة، وقد صرَّح بعدها بأعوام أنه كان الأحق بها في تلك السنة، خاصّة وأن منافسه الذي فاز في نفس الفئة لم يقدِّم موسيقى أصيلة، وقال موريكوني «شعرت يومها أنني سُرقت». لكن العزاء أن معهد الفيلم الأميركيّ صنَّف موسيقى موريكوني في هذا الفيلم ضمن قائمة بأفضل 25 قطعة موسيقيّة أصيلة في تاريخ السينما الأميركيّة.
وفي عام 1988 قدّم موريكوني واحدةً من أهم إسهاماته المُوسيقيّة بالفيلم الإيطاليّ «سينما باراديسو مع المُخرج جوسيبي تورناتوري، حيث شارك إنيو مع نجله أندريا في وضع المُوسيقى لهذا الفيلم، وفاز عنه موريكوني بجائزة (البافتا)، كما فاز الفيلم بأوسكار أفضل فيلم أجنبيّ وبجائزة لجنة التحكيم الكبرى من مهرجان (كان). وكرَّر موريكوني التعاون مع نفس المُخرج في أفلامه اللاحقة، وأبرزها الميلودراما الإيروسية «مالينا» التي صنعت نجوميّة المُمثلة مونيكا بيلوتشي.
لم يكن موريكوني مقتنعاً بأن للموسيقى معنى أدبيّاً تستطيع الكلمات شرحه، لكنه كان على يقين بكون المُلحن يعي ما بداخله، السبب الذي يجعله يبدأ جملته المُوسيقيّة وينهيها بهذه النغمة أو تلك. يقول: «كلُّ مؤلِّفي المُوسيقى يملكون نفس الآلات والنغمات، لكن التحدِّي في كيفية الخروج بقطعة أصيلة بأدوات ليست أصيلة». وهو التحدِّي الذي فاز به على مرّ مشواره، لم يصنع موريكوني قطعاً موسيقيّة أصيلة وحسب، بل صنع من الأفلام أفلاماً موازية بموسيقاه.
ورغم ذلك لم يفز موريكوني بأيٍّ من جوائز الأوسكار الخمس التي ترشَّح لها، الأمر الذي وضع الأكاديميّة في حرجٍ أمام تأثيره الضخم في صناعة هذا الفنّ، لتمنحه في عام 2007 جائزة أوسكار شرفيّة عن مُجمَل أعماله. لكن في عام 2016 اقتنص موريكوني أول جائزة أوسكار تنافسيّة بترشيحه السادس عن موسيقاه لفيلم «الثمانية البغيضون» للمُخرج كوينتن تارانتينو، والذي قاده يداً بيد لمنصة التتويج وعُمر موريكوني وقتها سبعة وثمانون عاماً. تارانتينو شعر بأنه كان سبباً في إعادة التقدير الضائع لموريكوني، وقد كان المُخرج الأميركيّ واحداً من معجبيه المُخلصين وطالما استخدم مقطوعاته في أفلامه وطلب منه التعاون مهنيّاً في أكثر من مناسبة، لكن جدول موريكوني لم يكن يسمح لسنين طويلة. صرّح تارانتينو لاحقاً بأنه يرى موريكوني بين عظماء العظماء من مؤلِّفي المُوسيقى، وتابع: «لا أقصد فئة المُوسيقى التصويريّة، بل فئة موتزارت وبيتهوفن».