اتجاه.. هل حقَّق سلمان المالك نقلةً نوعية؟

محسن العتيقي  |  16 يناير 2020  |  

شكل معرض «اتجاه» نقلةً نوعية طال انتظارها في تجربة الفَنَّان القطري سلمان المالك. فالحدث الذي استقبله جاليري المرخية (المطافئمقر الفَنَّانين) بالدوحة مطلع السنة الماضية دال على تفاصيله، فعبر أكثر من سبيل، يمكن الوصول إلى عوالم لوحات جمعت بين العودة إلى محترف الفَنَّان وتثبيت ما يمكن اعتباره دالاً على اكتمال مرحلة تشكيلية سابقة، وبين انطلاقة أخرى، يعتبرها الفَنَّان «مرحلةً مُهمَّة في حياته التشكيلية». تجربة جديدة إذن حملت عنواناً دالاً على الانتقال ومواصلة البحث داخل العلاقات اللّونية الممكنة والمفترضة في آن. 

وبالإمكان معاينة هذا الاتجاه في صراحته التشكيلية عبر عملين بارزين في واجهة المعرض، هما: «مدينة الفرح» و«رجل في فضاءٍ أبيض»، الأولى عبارة عن موزاييك فسيفسائي مُكوَّن من 21 قطعة تُشكِّل ملتحمة قياس 210/90 سم، والثانية بقياس أكبر 200/175 سم. عملان إذن، حدَّد بهما الفَنَّان، ملامح التحوُّل نحو أسلوبٍ آخر يُشكِّل ما يصفه بـ«الاتجاه القادم، والنقلة النوعية في تناول المادة التشكيلية تقنياً وموضوعياً».

للحديث عن هذا المنعطف الجزئي، الذي سلكه سلمان المالك، لابأس من التذكير بأن مرجعيته الأساسية تعود إلى تخلِّيه، منذ الثمانينيات، عن الانطباعية والوصفات التكوينية التقليدية، ليتبنَّى، بقرارٍ لا رجعة فيه، التعبيرية مذهباً فنِّيَّاً في رسم ما يشعر به، لا ما يراه. وعليه، فلكي نفهم التجربة التي أمامنا، ومن ثَمَّ الإجابة عن السؤال: هل التزم الفَنَّان بالمضمون التراثي دائماً؟ علينا قراءة جديده في ضوء تطوُّر لوحته، وتحديد درجات الاتصال والانفصال عن المضامين الفطرية بحكم انتمائه ومكان نشأته. فالذي بذاكرته مخزون الموروث الشعبي، وصور أحياء الدوحة القديمة، وأصوات الغوَّاصين على اللؤلؤ، سيترك الحنين إلى الماضي واستعادته على طريقة لوحته المُستوحاة من مدينة الخور الساحلية «الصياد والبحر» (السنة ؟؟؟؟)، ليتطلَّع إلى المستقبل عبر تأمُّل واقعه المُعاصِر، وهكذا سيرسم في انطلاقته مجموعة «التقاليد إلى متى؟» (السنة….؟؟؟)، وكان فيها مُمجِداً لمشاركة المرأة في تنمية المجتمع، وفي الوقت الذي كان يتطلَّع فيه إلى هذا الدور، نجده مُتمسِّكاً بمفردات الهويّة والتفاصيل الزخرفية المحِّّيّة، وسيطول حال اللوحة عنده على هذا المنوال، متراوحاً، من جهة، بين تدوين المفردات المحلّيّة (ثياب، أنسجة مزركشة، زخرف) الدالة على الهويّة الثقافيّة، تذكرنا بلوحته «استرخاء»، (سنة ؟؟؟؟)، ومن جهةٍ أخرى، النأي بالمكان إلى المنطقة الهلامية لفضاء سرد القصص، حيث لا نجد سلطة مُطلَقة للمكان بقدر الأولوية التي يعطيها لشحنات عاطفية تحيلنا تأويلياً على: الحلم، الواقع، الغياب، اللقاء، الانتظار، الاكتظاظ، الأمل، التردُّد، والقلق الفَنِّيوهي الشحنات المُتدفِّقة في محترف الفَنَّان، إلى يومنا، برؤية جديدة وحرارة لونية صريحة، بدأت معالمهما تظهر منذ معرضه الشخصي «تحوُّلات اللونوانتباه الكائن» عام 2004، الذي حمل بوادر التحوُّل إلى مرحلة مفصلية أبطالها عناصر هلامية، بلا ملامح، لكنها، في الوقت نفسه، طاغية الحضور والتجسُّد والميل إلى الصراحة والتعبير العاطفي، وهي المقاصد الفَنّيّة التي ستنضج في ذروة مرحلته الفَنّيّة المُتألِّقة ضمن معرضه الحديث «اتجاه» 2018.

سياق تطوُّر المراحل التشكيلية عند سلمان المالك، له مبرِّرات فكرية ومواقف حاسمة أيضاً، تجعلنا، إذا أمكن للمقارنة أن تثبت فرادة التجربة التي أمامنا، نطرح سؤالاً آخر: سلمان المالك ومعه جيله من الفَنَّانين القطريين؛ هل وقفوا على أرضية فنّيّة مشتركة؟ تجدر الإشارة هنا، إلى أن سلمان المالك لا يتردَّد في الاعتراف بكونه يقف بين؛ التطرُّف في الحداثة، وبين الواقعية المفرطة الساذجة. وهو يصرِّح قائلاً: لا أحسّ حالياً أني ملزم بالقفز إلى الأمام أو التراجع. أشعر أني لا أملك مُقوِّمات القفز، وهذه أعمالي تعبِّر عمَّا أشعر به. فكأنه بذلك لا يرغب في مستقبل يفصله عن الماضي، حتى وإن كان هذا الأخير ماضياً مُعبَّر عنه بهويّة اللون والعاطفة لا بالمادة وطرائق تشكيلها أو تركيبها الجريء والمُساير للأنماط الفَنّيّة المُتمرِّدة باسم مقولات الحداثة الفَنّيّة ومذهبها الرائج.. فعلى عكس هذا المنحى ينطلق سلمان المالك مقتفياً مسلك قلبه لا عقله، ساعياً إلى ما وراء قناع المظاهر من منطلق قناعته بالخديعة الكبرى التي يقترحها الشكل الخارجي الزاهي. وفي هذا السياق تستبطن لوحات معرض «اتجاه» موقفه الفَنّيّ من مقولات الحداثة الفَنّيّة، ممسكةً بالعصا من الوسط؛ فسلمان المالك يقتطع مشاهد من الحياة اليومية ويلقي بها على سطح اللوحة وفق ثنائيات متضادة خاضعة لنظام لوني تناغمي، بما يجعل معدَّلات الانسجام والمجاورة والطبقات قريبة من إنتاج حالة شعرية غنائية ذاتية وانطباعية قابلة للاستيعاب، منها إلى الوقوع في منزلق الإبهام، أو على أَقلّ تقدير، لزوم الإفراط في التأويل وتفكيك العناصر وبنائها من جديد. ووضع مجهد من هذا القبيل هو أبعد ما يدور في ذهن المُتلقِّي وهو بصدد معاينة لوحات من معرض «اتجاه»، وتحديداً: (النساء حائرات، ثلاث بنات، نساء في حديقة، لقاء، ليلة الحنة، معاريس، كحل أسود وسيدة تراقب)، لكن وبدرجاتٍ متفاوتة، لوحات أخرى ضمن المعرض نفسه، لا تكفي القراءة الانطباعية وحدها للتمكُّن من ولوج عوالمها، خاصّةً مع القصدية التي يوليها سلمان المالك لمُهمَّة تناغم الألوان الأصلية، وثبات الخط الزمني، وخفوت الضوء في خلق أجواء مناسبة للتأمُّل وإطالة النظر باعتبارهما المفتاح السحري لمحاورة اللوحة والظفر بنصيبٍ معقول من الحالة العاطفية المقترحة في تعدُّد مسبِّباتها وأوضاعها الواقعية والحلمية، على شاكلة لوحات من المعرض نفسه: (مشوار، انتظار، تساؤل، هو والمكعب، هو والكرسي، زحمة، القفز في الهواء، علاقة، حوار).

لكن، سواء في حالة التلقِّي العفوي الانطباعي، أو الذهني التأويلي، هناك رؤية شعرية حالمة يتشبَّث الفَنَّان بها بقناعة راسخة تدعم القول بأن قوة الفَنّ لا تزال في عواطفنا وأحاسيسنا وليس فيما نفكِّر فيه كرَدّ فعلٍ على ما يحدث. فهذه الغنائية الشعرية الملتزم بها، صراحةً وبوحاً، هدفها، كما يصرِّح سلمان المالك: (محاولة صنع لوحة تنتمي لي، تكون جزءاً من عاطفتي، فأنا أعيش وأستمتع بالتجربة الفَنّيّة، وأرسم الفَنّ لأجل الفَنّ…) .

وإذ تبدو المتعة الجمالية هي الأهم والأسمى، فإن السعي إلى عمل مجرَّد من أي موضوع مزعج، مريح كالأريكة في لوحته (ذات الرداء الأبيض)، يُثير سؤال حدود الوظيفة والرسالة الفَنّيّة؛ فبابتعاده الجلي عن التسجيل الخشن والشرس للجانب المظلم، من خراب وأزمات إنسانية في البلاد العربيّة، بكلّ أهوالها وفظائعها، لا يعني أن القسوة الإنسانية لا تنطبع في لوحاته. ففي «مدينة الفرح» تتداول الألوان في تحدٍّ مضطرب وصلابة لونية تدفع بالعناصر قدماً إلى خارج اللوحة، حيث كلّ قطعة تعانق أخرى، وتتوحَّد بها من الأعلى إلى الأسفل، ومن الخلف إلى الأمام بدرجاتٍ تحقِّق التناغم المنشود، لفكرة المدينة المأمولة، وليست المرسومة. إنها مدينة الأمل بلغت البساطة فيها أَوْجَها، بساطة الفرح نفسه، والأمل بالفرح يوازي الفرح ذاته.

بهذا تفاجئ «مدينة الفرح» الواقع العربيّ البائس بمقترح الحلم والأمل، بلوحة فسيفسائية يتساوى فيها الفرح مع الحزن، الخيبة مع الرجاء، الظاهر مع الخفيّ، الواقع مع الخيال، بل والأشكال، بدورها تعمل على إمداد هذه الثنائيات الضدِّية بتوفير شروط المحاورة والمجاورة والاتحاد، إنه التحدِّي الذي يرفعه سلمان المالك في وجه ألوانه مُجرِّداً إياها من أيّة وظيفة مباشرة.

«مدينة الفرح» عمل يقع في صلب تفكير سلمان المالك، يعكس انشغاله بالمدينة العربيّة الحزينة، وبحالة الانتظار والارتباك السرمدية. إنها مدينة يوتوبية مُفترَضة، مستعارة من أحلامه قطعةً قطعة، مدينة غير مكتملة (21 قطعة من أصل 60 قطعة)، شيَّدها بألوانٍ محلِّيّة متقدة وناصعة، وأقام العلاقات بينها بانسجام، تارةً، وبمزاجية حُرّة تارةً أخرى، مستغرقاً في تدبير التنافر والمجهول والاشتباكات بين الإنسان ومكانه.

بـ«مدينة الفرح» مدينة الأمل والانتظار الجماعي، و«رجل في فضاء أبيض»، رجل ما يُلقي خطاباً من على منصَّة، جدَّد سلمان المالك انخراطه في صلب قضايا الفَنّ المُعاصِر، الإنسان والمكان، وتحوُّل سيرورة العلائق البنيوية المُؤثِّرة والمُتأثِّرة؛ التوتر، الشَّك، الانتظار، الغياب، المواجهةموضوعات خيطها الرابط صراحة اللّون، وشاعرية التكوينات. لكن الأمر المُتخيَّل يفوق المشهد العفويّ، ففي الوقت الذي تنشد فيه هذه العناصر البساطة، فإنها تقع في تعقيد مُؤقَّت يورِّط المتلقِّي في لعبة التخمينات، فالدخول في لوحة موضوعها الحلم، هو دخول في التفسير والحيرة لا محالة، وإن كانت بغاية نبيلة تعكس ميل الفَنَّان إلى لوحة تحاور الناظِر ويحاورها.

من الواضح، كما سبقت الإشارة، أن «مدينة الفرح»، لوحتان تؤسِّسان لاتجاه آخر في مسيرة سلمان المالك التشكيلية، مسلك يتستَّر على ملامح الشخوص، أو يستعيض عنها بأخرى غائبة، في مقابل استنطاق سكونها الروتيني داخل الفضاء العام أو الحميمي، وهي معادلة تحيل على فعل التَّذكُّر الذي يُشكِّل النواة الأولى لعمل الفَنَّان: (أستدعي الشخوص من الذاكرة، وهناك مشاهد أشعر أني رأيتها من قبل). لكن الذي يأسر وردة في سجن، ويحرسها في لوحة: «هو والمكعب» يضعنا في احتجاز ثانٍ هو للمعنى وتوتراته، وقد كان بإمكان الزمن والذاكرة أن يستوليا على أحقية القصيدة بتصوير هذا الاعتقال، لكن سلمان المالك يقترح تشكيلياً نتيجة الشعر نفسه: الزمن والذاكرة فنَّانان حقيقيان، فهما يصوغان الحقيقة بما يريده القلب.. ولَعلّ هذا هو اتجاهه القديم والجديد..

مواضيع مرتبطة

فنّ لعب كرة القدم
ترجمة: عبدالله بن محمد 10 نوفمبر 2022
نسخة استثنائية في رحاب ثقافتنا
مجلة الدوحة 10 نوفمبر 2022
دموع الفوتبول
دموع الفوتبول 09 نوفمبر 2022
جابر عصفور.. التراث من منظور الوعي بالحاضر
حسن مخافي 07 سبتمبر 2022
القاضي والمتشرِّد لأحمد الصفريوي.. حين لا تكون الإثنوغرافيا سُبّة
رشيد بنحدو 02 يناير 2022
فيليب باربو: اللّغة، غريزة المعنى؟
ترجمة: مروى بن مسعود 02 يناير 2022
رسالة إلى محمد شكري: الكتابة بيْن الصمت والثرثرة
محمد برادة 02 يناير 2022
إشكاليةُ اللّغةِ العربيّةِ عندَ بعضِ الأُدباءِ والإعلاميين
د. أحمد عبدالملك 15 ديسمبر 2021
محمد إبراهيم الشوش.. في ظِلّ الذّاكرة
محسن العتيقي 01 نوفمبر 2021
بورخيس خَلَفًا للمعرّي
جوخة الحارثي 06 أكتوبر 2021

مقالات أخرى للكاتب

استاد 974.. في بيان الاستدامة
07 أكتوبر 2022

كيف يمكن قراءة عمارة مؤقَّتة؟ المُؤقَّت عَابِر وزَائِل، ويُحيل على المُندثر والطلل. رغم هذه الطبيعة الانتفائية، فإنّ ما يبقى هو قصة معمارية تحوَّلت إلى نص؛ نص شعري، تاريخي أو حكاية خيالية. يتعلَّق الأمر في هذه الحالة بزوالٍ بفعل اندثار أو حرب، لكن ماذا...

اقرا المزيد
محمد إبراهيم الشوش.. في ظِلّ الذّاكرة
01 نوفمبر 2021

بعودة صدورها في نوفمبر/تشرين الثاني 2007 إلى غاية فبراير/شباط 2016 كانت مجلة «الدوحة» قد أتمَّت العدد المئة. كانت المُناسبة بنكهة احتفالية، وفرصة لتنشيط ذاكرة المجلة وإرسال تحية إلى كُتَّابها ومحرّريها ورؤساء تحريرها الأوائل. وتحيتنا إلى هذه الذاكرة؛ تمثلت...

اقرا المزيد
هشام جعيط.. إصلاح الحياة!
06 يوليو 2021

لماذا لا تساهم الثقافة العربيّة في المجهود البشريّ لفهم عقل العالم الإنسانيّ؛ في تاريخه واقتصاده وقوانينه الاجتماعيّة وسُننه اللُّغويّة، وفي تجديد التفكير الفلسفيّ العالَمي؟ كان هذا السؤال من بين الأسئلة الفكريّة والتاريخيّة المُؤرِّقة التي انشغل بها...

اقرا المزيد
فرج دهام.. فنَّان اللامرئيّ
01 يناير 2021

مع مُنادَاة مارسيل دوشامب (1968-1887) «العمل الفَنّي ينبغي أن يكون حقيقةً ذهنيّة» بدا كأنَّ الرسمَ قد وصل إلى غايته القصوى(1)، إذ في سنة 1961 سينحت هنري فلينت مصطلح (الفَنّ المفاهيميّ)، وبذلك سيعرف الفكر الجماليّ ثورةً نقديّة نقلت مجال البحث من الجانب الفيزيائيّ...

اقرا المزيد