استاد البيت.. خيمة ليست كباقي الخيام

| 07 أكتوبر 2022 |
في نوفمبر/ تشرين الثاني من هذا العام ستتوِّج قطر سلسلة نجاحاتها وإنجازاتها، وسيستضيف استاد البيت الزوار القادمين من جميع أنحاء العَالَم بأذرع مفتوحة، مما يوفر لهم فرصة عيش تجربة فريدة من نوعها مليئة بالحيوية والإثارة. ليس هذا فحسب، بل سيتيح لهم فرصة التعرف على التقاليد القطرية الأصيلة عن قرب، وهو السبب الرئيس الذي دفع القائمين على المشروع لاختيار هذا التصميم من ضمن قائمة الاقتراحات التي قدَّمتها الشركة المُصمِّمة، شركة (دار) للتصميم.
الخيمة العربية القديمة، هي تجسيد للتراث العربي الأصيل، وهي رمزٌ لحسن الضيافة والكرم، وهي دليل على وحدة العائلة والمُجتمع. هي البيت الذي سكنه أجدادنا على مر التاريخ وحملوه معهم في ترحالهم وأسفارهم بحثاً عن أراضٍ خصبة ومياه وافرة ومناطق صالحة للعيش والنمو والازدهار. الخيمة هي تاريخنا، وهي فخرنا وعزّنا، منها انطلقت رسالتنا مع بزوغ فجر الإسلام، وفيها وُلد الكثير من الأبطال والأدباء والشعراء والعلماء المرموقين.
ورغم الثورة العمرانية التي يشهدها العَالَم العربي اليوم وتوجهه باندفاع نحو الحداثة والمدنية، إلّا أنه يجب ألّا نغفل أبداً عن التمسك بتراثنا وتاريخنا. وما أجمل أن نعكس هذا التراث الغني في مشاريع معمارية حديثة، تؤكِّد على عراقته وأصالته من جهةٍ، وتقدِّم وجهاً مشرقاً وحضارياً يتناسب مع الثورة العمرانية والتكنولوجية الاستثنائية التي نعيشها من جهةٍ أخرى.
هذه الرغبة الاستثنائية، والتي تبدو صعبة المنال للوهلة الأولى، تمَّ تنفيذها بكل معانيها في واحد من الملاعب الثمانية التي خصَّصتها دولة قطر لاستضافة نهائيات كأس العَالَم في نوفمبر/تشرين الثاني من هذا العام. والحديث هنا عن استاد البيت الذي استمد اسمه وتصميمه من خيام بيت الشعر التاريخية العربية التي سكنها منذ القِدم أهالي البادية في قطر ومنطقة الخليج العربي عموماً، والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالثقافة التقليدية القطرية التي تتميّز بالأخوة وكرم الضيافة وحُسن الاستقبال.
التحدي الصعب
قطر، هي أول بلد عربي يستضيف كأس العَالَم لكرة القدم ويقبل التحدي الصعب بتنظيم بطولة عالمية على هذا القدر من الثقل والأهمية. ولكن قطر، كعادتها، فاجأت الجميع وأثبتت للعَالَم أجمع، من شرقه إلى غربه، أنها على قدر التحدي والالتزام بتحويل المُستحيل إلى واقع، وتجسَّد هذا الأمر بوضوح من خلال إنشاء ثمانية ملاعب فريدة من نوعها تنافس الملاعب العَالَمية، من بينها هذا الاستاد الأيقونة، استاد البيت.
تمَّ البدء ببناء هذا الاستاد التاريخي في شهر مايو/ أيار من عام 2016، وانتهى العمل به وافتُتح رسمياً في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 ضمن مهرجان فني وكروي ضخم بمُناسبة افتتاح بطولة كأس العرب 2021، وذلك بحضور أمير دولة قطر سمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، ورئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، جياني إنفانتينو، الذي حاول جاهداً انتقاء بعض الكلمات والتحدُّث باللّغة العربية، ربما بسبب سحر المكان وطابعه التراثي الخاص.
تبلغ مساحة الاستاد الإجمالية نحو 200 ألف متر مربع، ويملك طاقة استيعابية تقدَّر بحوالي 60 ألف مشجع، ويعتبر ثاني أكبر الملاعب الثمانية بعد استاد لوسيل. ومن المُقرر أن يستضيف هذا الاستاد المباراة الافتتاحية لكأس العَالَم وعدداً من مباريات الدور الأول (دور المجموعات)، ودور الـ 16، وواحدة من مباريات الدور ربع النهائي والدور نصف النهائي أيضاً.
شُيد استاد البيت في مدينة الخور التي تبعد حوالي 35 كيلومتراً إلى الشمال من الدوحة. اشتهرت هذه المدينة بموقعها الجغرافي الذي كان يعدُّ على الدوام وجهة لصيادي السمك والغواصين الباحثين عن اللؤلؤ، وهو السبب الذي دفع أهالي البادية، والمجموعات السكّانية منذ فجر التاريخ، للترحال والاستقرار في هذه المنطقة الساحلية. من جهةٍ أخرى تتميّز مدينة الخور أيضاً بتعدُّد مشاربها الاجتماعية والثقافية، الأمر الذي جعل منها خياراً مثالياً لتشييد أحد الملاعب المُخصَّصة لاستضافة كأس العَالَم لكرة القدم 2022.
يحاكي تصميم الاستاد جزءاً مهمَّاً من ماضي قطر العريق وإرثها التاريخي وحاضرها في آنٍ واحد، ويعكس التناغم بين وسائل الراحة والحداثة المعمارية من جهةٍ، مع التركيز على المُتطلبات المُجتمعية المُستقبلية في المنطقة من جهةٍ أخرى. وقد يبدو الاستاد من الخارج كخيمة بدوية ضخمة أقرب إلى الخيال، ولكنها بالتأكيد ليست كباقي الخيام.
يهيمن اللون الداكن على الواجهة الخارجية الشبيهة بقماش السدو التقليدي المُستخدَم في إنشاء الخيام وبيوت الشعر الخاصة بالقبائل والعوائل البدوية، مع خطوط بيضاء وسوداء واضحة شديدة التباين. كانت الخطوط في الخيام الأصلية تشير إلى القبيلة أو العائلة التي تنتمي إليها الخيمة، بينما تعكس الخطوط على واجهة الاستاد الخارجية، المدينة المُضيفة، حيث يشعر المُشجِّعون لدى دخول الملعب بحفاوة الترحيب من خلال هذه النقوش النابضة بالحياة.
ولا يختلف الأمر كثيراً في التصميم الداخلي للملعب، بل تزداد الصورة اكتمالاً والترحيب حفاوة، حتى تشعر لوهلة أنك في خيمة حقيقية من خيامنا العربية القديمة، ويزداد هذا الشعور ألفة وروعة مع منظر الجدار الداخلي للملعب الذي يحاكي بدقة وجمال منقطع النظير القماش الداخلي في الخيام التقليدية ذات اللون الأحمر الدافئ والمريح.
من الناحية الهيكلية، يتكوَّن ملعب البيت من كيانين منفصلين: وهما صحن الملعب الرئيس والخيمة. يتضمن هيكل الصحن الرئيس ثلاثة طوابق سفلية مزوَّدة بأنفاق خاصة لدخول وخروج المركبات بطريقة سهلة وآمنة، وطابق أرضي وثلاثة طوابق عليا ومناطق جلوس منفصلة عن بعضها البعض.
أما الخيمة فيزيد طولها على 372 متراً وعرضها على 310 أمتار، وتغطي كامل الملعب. ويتكون هيكل الخيمة من نسيج قابل للشد متصل بكابلات ودعامات فولاذية، بالإضافة إلى دعامات خرسانية، متباعدة بشكلٍ متساوٍ في محيطها، وتعمل ككتل تثبيت للكابلات التي تمسك بالخيمة والسقف الذي يمكن فتحه وإغلاقه في عشرين دقيقة فقط. وتمَّ استخدام مواد متقدِّمة وقابلة لإعادة التدوير في كامل البناء، حيث تمَّ الاعتراف بها من قِبل نظام تقييم الاستدامة العَالَمي (GSAS).
ولضمان راحة المُشجِّعين في جميع الأوقات، تمَّ بناء محطة تبريد موفِّرة للطاقة تضم مبردات تعمل بالطرد المركزي ومبردات غليكول وخزانات ثلج ومرافق تخزين الطاقة الحرارية. علاوة على ذلك، تمَّ اتخاذ تدابير فعَّالة لمُواجهة الحرائق أو انبعاث الدخان في الملعب لتحسين توزيع الهواء والوصول إلى مستويات الراحة المطلوبة. كما اهتمَّت الشركة المُصمِّمة بمرافق البنية التحتية والأنظمة التي تخدم الاستاد، وشمل ذلك الأنظمة المُختلفة ذات التيار المُنخفض وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والأمن، والأنظمة السمعية-البصرية، بالإضافة إلى نظام الصرف الصحي، للحماية من ارتفاع المياه الجوفية، ونظام شامل لإدارة النفايات الصلبة.
وعند الحديث عن التصميم لا يمكننا أيضاً أن نغفل عن ذكر واحد من أهم المرافق في الملعب وهو نفق دخول الفريقين الموجود في الطابق الثالث تحت الأرض، الذي يعتبر إنجازاً ليس فقط على مستوى التصميم، بل على الصعيد الإنساني أيضاً، لأنه يعتبر مساحة رائعة تعكس رغبة الدولة المضيفة في تكريم العُمَّال الذين قاموا بأعمال البناء على مدى السنوات الماضية، والبالغ عددهم 11 ألف عامل من مختلف الجنسيات، حيث استطاعوا بسواعدهم وجهودهم إنجاز هذه التحفة المعمارية الاستثنائية. وللاحتفاء بهم، تمَّ وضع صور جميع العُمَّال المُشاركين بالعمل ضمن تشكيلات ضخمة على جدران المدخل وعلى طول النفق، لتشكِّل صورتهم مجتمعة قطعةً فنيّة متجانسة تمَّ نسجها من قماش السدو الأصيل.
أما قسم الضيافة، فيتضمن 96 غرفة بمساحات مختلفة مخصَّصة كأجنحة للضيافة، وهي ذات خصوصية ومواصفات عالية تحقق أعلى درجات الراحة والرفاهية للضيوف، وتتواجد هذه الغرف في نفس الطابق المُخصَّص لكبار الشخصيات، والذي يتمُّ الدخول إليه من خلال مدخل خاص، ويضم ردهات وقاعات استقبال وشرفات رائعة تعبِّر عن الكرم وحسن الضيافة القطرية.
كما يضمُّ الاستاد أربع غرف لتبديل الملابس تمَّ تصميمها على شكل المجلس العربي، وزودت بأحدث التقنيات لتوفِّر جواً من الراحة والاسترخاء للاعبين، وفي الوقت نفسه مساحة داخلية تسمح للاعبين بإجراء بعض تمارين الإحماء والاستعداد قبل الدخول إلى أرضية الملعب.
معيار في الاستدامة
كان الالتزام بتحقيق مفهوم الاستدامة واحداً من الالتزامات الرئيسة التي قدَّمتها دولة قطر ضمن ملفها الخاص لاستضافة بطولة كأس العَالَم لكرة القدم، ونعني هنا الاستدامة في التصميم، والاستدامة خلال عملية التنفيذ، وأيضاً الاستدامة عند تشغيل جميع المُنشآت والملاعب بعد البطولة. وبناءً على ذلك، تمَّ تصميم الخيمة بطريقة عملية للغاية، كما تمَّ تطبيق مفهوم الاستدامة في كل مرحلة من مراحل البناء، الأمر الذي جعل من هذا الاستاد أنموذجاً يحتذى به لمشاريع البناء الصديقة للبيئة.
ولأنه من الضروري أن تكون الخيام، التي يستمد منها استاد البيت رؤيته وتصميمه، مريحة ومستدامة ومناسبة لطبيعة الصحاري التي تتواجد فيها، كان من البديهي تطبيق المبدأ نفسه في الخيمة التي تحيط باستاد البيت. إذ على الرغم من بساطتها، من حيث التصميم، إلّا أن خيمة استاد البيت تلبِّي عدداً من المُتطلبات الأساسية وفي طليعتها الاستدامة، كما تحقق في الوقت نفسه الراحة والأمان والمُتعة للمُشجِّعين واللاعبين على حدٍّ سواء.
من ناحيةٍ أخرى، يحقق الاستاد حالة من الانسجام والتناغم مع البيئة المُحيطة به من خلال التكامل في عملية التصميم، واستخدام تقنيات ومواد البناء المحلية والمُتوفِّرة في المنطقة. ونتيجة لذلك، حصل تصميم وبناء استاد البيت على أعلى الدرجات وأفضل التقييمات من هيئة نظام تقييم الاستدامة العَالَمي، كما تمَّ منح الاستاد درجة خمس نجوم للتصميم والبناء، إلى جانب تصنيف عملية البناء ضمن الفئة (*A)، وأخيراً حصل على شهادة الامتثال لنسبة كفاءة الطاقة الموسمية.
وكغيره من الملاعب الأخرى التي ستستضيف كأس العَالَم، سيتمُّ تفكيك جزء من الاستاد بعد انتهاء المُسابقة ويُعاد تجميعه في أماكن أخرى، بينما سيتمُّ خفض القدرة الاستيعابية من 60 ألفاً حتى 32 ألف مشجِّع، وسيتمُّ تحويل غرف الضيافة إلى غرف فندقية، وقسم من المبنى إلى مراكز تسوُّق ونشاطات أخرى. أما الحلقة الثالثة من البناء فقد تمَّ تصميمها وبناؤها من النجارة المعدنية، ليتمَّ تفكيكها بعد البطولة والتبرُّع بها لعدد من الدول النامية التي تحتاج إلى بنية تحتية رياضية.
بهذه الطريقة، ستنتشر الروح الأخوية التي تحدَّث عنها رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا)، جياني إنفانتينو، عندما قال في حفل افتتاح هذا الاستاد: «البيت هو المكان الذي يتحد ويجتمع فيه الجميع، إنه رمزٌ لما تمثله كأس العَالَم. اليوم، تمثل كأس العرب ما سوف تمثله بطولة كأس العَالَم في العام القادم، حيث يجتمع الناس سوية، ويتحد الناس سوية من كل أصقاع الأرض. لذلك، إن إقامة المُباريات في مثل هذا الملعب الجميل، في مثل هذا الملعب الرمزي، هو شيء يجب أن نعتز به وسيكون أمراً حاسماً في نجاح كأس العَالَم».
اقرأ في هذا الملف:
استاد خليفة الدوليّ.. عراقة، حداثة واستدامة
استاد المدينة التعليمية.. حيث تلتقي كرة القدم بالعلم والمعرفة
استاد الثمامة.. يغطّي ضيوف «كأس العَالَم» بطاقيّة عربيّة
استاد الجنوب.. بوابة بين الماضي والمُستقبل
استاد أحمد بن علي.. بوابة الصحراء
استاد لوسيل.. سحر الكرة أم سحر المكان؟
استاد البيت.. خيمة ليست كباقي الخيام