استاد الثمامة.. يغطّي ضيوف «كأس العَالَم» بطاقيّة عربيّة

| 07 أكتوبر 2022 |
في هذه الجولة المعمارية والوظيفية لملعب الثمامة، سيرافقنا المُهندس المعماري والفنَّان التشكيلي الأردني محمد الدغليس، للحديث حول الرسالة والمسؤوليّة الثقافية والتراثيّة للدولة، وتلازُم الناحيتين الجماليّة والوظيفيّة، ووجهة نظر الغرب والأجانب عنّا وعن تراثنا واستثماره في مجالاتٍ عديدة، وكيف يمكن للأصالة والحداثة أن يلتقيا معاً في قطر، لتشكيل هذا النموذج الفنّي الرياضي… وقد شكَّل هذا الملعب أيقونة موندياليّة لافتة، حيث افتتحه أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، في 22 أكتوبر/تشرين الأول 2021، كخامس ملعب مونديالي، تحضيراً لبطولة كأس العَالَم لكرة القدم (قطر 2022).
يرى محمد الدغليس أنّ دولة قطر، استطاعت أن تقدِّم تاريخها وثقافتها بكلّ إمكانياتها الماديّة والمعرفيّة وبكلّ اقتدار، انسجاماً مع الحداثة العَالَميّة واتساقاً مع الثراء والإرث الثقافي والتاريخي الذي تتوافر عليه. فملعب الثمامة آبدة معماريّة رائعة من أوابد تشجعها الدولة وتهيئ لها الظروف؛ إذا ما عرفنا أنّ المُسمّى بحدّ ذاته هو مسمّى شعبي وتراثي يحمل اسم شجرة ضربت جذورها في صحراء قطر، فشكّل الملعب وتكوينه الذي يشير إلى ما يوضع على الرأس احتراماً وتقديراً واعتزازاً في مناسباتنا الوطنية والمُجتمعيّة وأعيادنا الدينية، يؤكِّد رمزية تلك الطاقية البيضاء الحامية والمزيّنة لهاماتنا، وهامات أطفالنا.
هل هناك رسالة ومسؤولية مجتمعية وتراثية وأصالة لدى الفنَّان والمعماري في مثل هكذا أعمال كبيرة ومعالِم ظاهرة للناس في البلد العربي بشكلٍ عام؟ هذه الرسالة كيف يتمُّ توظيفها معماريّاً، وهل هناك اختلاف مع الحداثة، وهل يستحي الإنسان العربيّ من تراثه والمعماري من أبنيته القديمة؟! خصوصاً وأنّ في قطر والخليج رسالة واضحة في أنهم يعمدون إلى أبنية تراثية فيجعلون من هذه الأبنية منتديات ومؤسَّسات ثقافية؟!
حول هذا المحور يرى الدغليس أنّ للمعماري المُميّز دوراً هامّاً؛ فهو المُؤهَّل والقادر على إبراز الوجه الحضاري والتطوُّر المعرفي والثقافي، والمُستوى الاجتماعي، والقدرات الماديّة والعلمية، وحتى عناصر القوّة والتمكّن لأيّ أمة من الأمم في حقبة زمنية معيّنة، تتطلَّع فيها للمُستقبل، من خلال ما يبدعه من مبانٍ وطرق وجسور ومدن وتنسيق أراضٍ، والأوابد هذه بالتأكيد هي بمثابة التيجان التي تثري النسيج العام لمُكوّنات البلد العمرانية.
العمارة فنٌّ تطبيقي، كما يقول المُهندس الدغليس، فهي فنٌّ راقٍ نعيش بداخله، ونمارس نشاطاتنا الحياتيّة بمجملها بين جنباته، وفي الوقت ذاته هي المعرض الحيّ الدائم الذي يشاهده القريب والغريب، الصغير والكبير، ويبقى شاهداً على المرحلة الحضارية والثقافية التي عشناها ونعيشها.
كما أنّ اعتزاز الفنَّان والمعماري بتراثه والالتزام بهويّته وانعكاس ذلك على إبداعاته وتطوير قدراته ومنتجه، يتماهى حتماً مع الحضارة العَالَمية والحداثة التي لا تتناقض أبداً مع هذه الأهداف، لتقديم رسالة صادقة لكلّ متلقٍ ومتابع، فتؤدي إلى احترامه وتقديره وإجلاله دون أن نمنع انخراطه في العَالَمية..
الوظيفة والجمال..
في ملعب الثمامة، تقترن الناحيتان الجمالية والوظيفية؛ باعتبارهما عماد أيّ عمل فني يدوم، وفي ذلك منافع عديدة، وحول جدليّة أن نعزل الوظيفة عن الجمال في أبنيتنا ومعمارنا وفي ما نقدّمه للعَالَم من تراث، أو سؤال الحداثة والربط بين الأصيل والحديث في أعمال المعمار. وفي هذا الصدد يرى الدغليس إنّ من بين معماريي العَالَم مَنْ يهتم بالشكل المُثير، وهؤلاء يُسمّون بـ(الفورملزم)، وهناك مَنْ يولي الناحية الوظيفية عنايته واهتمامه الأكبر وهؤلاء هم (الفنكشنلزم)، أمّا المعمار المُتمكن المُتكامل، فهو الحريص على الإبداع المُبهر في التصميم الداخلي الوظيفي وذلك بتأمين الوسط الأمثل للفعالية المُعدّ لها المُنتج، من راحة وظروف معمارية للضوء والشمس والتهوية والحركة والراحة النفسية أيضاً، وفي الوقت نفسه يولي التشكيل الخارجي والتلوين والتكتيل العناية اللازمة، وبما يعكس المُعطيات المحليّة والبيئية والتراثية والوسط المُقام به المبنى، وحتى استعمال المواد المحلية المُتوفّرة في موقع الحدث، لتصبح اللوحة مكتملة الأركان.
وهذا ما يلمسه الدغليس بوضوح في مبنى ملعب الثمامة، عندما يتفحّص مكوّناته الداخلية وسعته التي تتناسب مع الحدث الكبير، وانفتاحه على النور والسماء وعناصر الاستدامة التي تحيط به في وسط أخضر يربض فيه، مثل درّة بيضاء تسبح في خضرة غنّاء، هذا إضافة إلى تسخير ما أفرزته الحضارة من إمكانيات استثمار الطاقة الشمسية في خلق الجوّ المُناسب لفعالية يجتمع حولها أربعون ألف شخص من شتى بقاع الأرض، فهو بكلّ صدق قد أمّن كلّ ما يصبو إليه المعماري من عناصر إغناء الوظيفة التي أنشئ من أجلها.
وحول الشكل الخارجي، فإنّ شكله الخالي من التعقيد والحامل للعفوية والبساطة التي تحقق الجمال المطلوب ولونه الأبيض العاكس للحرارة، والمُنسجم مع النسيج المعماري للدول التي تقع في المناطق الصحراوية الحارة، يحمل رؤية مدروسة في تصميمه، علماً أنّ الشكل الدائري يتكامل مع الوظيفة التي تجري داخله، فلا ننسى ما للدائرة من معانٍ عميقة في مظاهر الكون، والآراء الفلسفية وتكامل الخطوط التي تحوي كلّ الأشكال الهندسية، وهكذا، فقد أبدع المُصمم وقدَّم لنا إحدى الدرر المعمارية التي ستشدُّ لها الأجيال.
التراث والحداثة..
من خلال جولاته العربيّة والغربية، يروي الدغليس كيف تحتفي البلدان والدول والشعوب بموروثها في الساحات العامة، والمباني، وهو ما يعطينا حافزاً لأن نحترم تراثنا وأصالتنا وأن نعمل على تقوية هذا التراث بالحداثة، حين تقترن مواصفات الأمان والسلامة بمواصفات الجمال، فالشعوب الأصيلة العريقة التي لها جذور في أعماق التاريخ والتي تعتز بماضيها وتستحضره في كلّ مناسبة وتاريخ، تفخر بما لديها من ماضٍ مشرق وتراث خاص يميزها عن غيرها.
وحول الجهود القطريّة في الارتقاء بالموروث والتراث، واستنباط الأعمال من بيئتنا وثقافتنا، يؤكّد الدغليس أنّ اهتمام دولة قطر ودورها الريادي في حاضر أمتنا، واجتذابها للفعاليات العَالَمية وعلى رأسها كأس العَالَم وحضورها اللافت في كلّ المحافل الدولية باقتدار بارز، لم يكن وليد اللحظة، بل إنّ وراء كلّ ذلك عقولاً مفكّرة، وثقافة ومعرفة وعلوماً وأداء ونشاطاً لافتاً ومنقطع النظير. فهو انتصار للثقافة بمفهومها الشامل والتفصيلي والتراثي المُعبِّر عن هويّة، بما يؤكّد كينونتنا.
وفي هذا يقول الدغليس إنّ ما حقّقته دولة قطر من تراكم للنشاطات العلمية والإعلامية والرياضية والثقافية والمنجزات الحضارية والمعمارية والجمالية ومن إحياء للتراث القطري والعربي، سيكون له أثرٌ ملموس على مجتمعاتنا العربية، وعلى سمعتنا وكينونتنا بشكلٍ إيجابي وعميق، فهو بالفعل يمثّل انتصاراً حضاريّاً لقطر وللعرب، فنحن في أعينهم أمّة واحدة، تجمعها لغة واحدة وهموم مشتركة، ولا بدّ أننا نُسْهِم في التطوُّر الحضاري والعلمي في مسيرة المعرفة العَالَمية.
ما بَعد «كأس العَالَم»..
يقول الدغليس حول تصميم ملعب الثمامة: إنّه ليس هناك مَنْ هو أقدر على معرفة وتحسس احتياجات أيّ أمّة من الأمم على ضوء المُعطيات المُتوفّرة والأهداف المُبتغاة، مثل أبنائها المُميَّزين ونخبها المُتمكّنين، في المجالات كافة، الثقافية والفنية والعمرانية وحتى المُجتمعيّة، فالمهندس إبراهيم الجيدة له خبرات معماريّة وفنيّة ورؤية جمالية ووظيفية كإنسان ينتمي لوطنه ويعشق تراثه، وهو ما انعكس على هذا المَعْلم بكلّ تفاصيله الداخلية أو وجهاته الخارجيّة وهيبته النابعة من شكله واسمه وموقعه.
تميّز ملعب الثمامة، بالإضافة لكونه انصهاراً للموروث الثقافي العربي مع العمارة الحديثة، أن تشييده تمَّ ليدوم إرثاً لمرحلة ما بعد فعاليات كأس العَالَم وليبقى معلماً حيّاً نشطاً تهفو إليه القلوب. وسيكون بمقدور هذا الملعب، كما يرى الدغليس، أن يصبح قبلةً للأجيال ومرتبطاً بذكرى عطرة مرَّت في حياتهم واستقرَّت في وجدانهم، حين تجتمع الرياضة والفنّ والجمال معاً، وبالتأكيد حين نبرز تراثنا وثقافتنا واحترامنا لذاتنا في تظاهرة عالَميّة كبيرة هي نسخة «كأس العَالَم» 2022 في قطر.
اقرأ في هذا الملف:
استاد خليفة الدوليّ.. عراقة، حداثة واستدامة
استاد المدينة التعليمية.. حيث تلتقي كرة القدم بالعلم والمعرفة
استاد الثمامة.. يغطّي ضيوف «كأس العَالَم» بطاقيّة عربيّة
استاد الجنوب.. بوابة بين الماضي والمُستقبل
استاد أحمد بن علي.. بوابة الصحراء
استاد لوسيل.. سحر الكرة أم سحر المكان؟
استاد البيت.. خيمة ليست كباقي الخيام