استاد المدينة التعليمية.. حيث تلتقي كرة القدم بالعلم والمعرفة

| 07 أكتوبر 2022 |
هناك مقولة مفادها أن فن العمارة الرفيع يقدِّم للناس مكاناً للاجتماع واللقاء، وليس من الضروري أن يكون هذا الجمع واللقاء بين المُتماثلات، بل إنه، وبالمُستويات العليا، ومن خلال فكرة ورؤية خلّاقة، يجمع حتى بين المُتناقضات. هذا ما يجسده تصميم (استاد مؤسَّسة قطر)، أو كما يسمَّى أيضاً (استاد المدينة التعليمية)، ليس بجمعه بين عالَمي الرياضة والمعرفة فحسب، بل بجمعه بين الطرازين المحلي والعَالَمي، وانفتاحه على العَالَم من خلال حدث المونديال.
«حيث تلتقي كرة القدم بالعلم والمعرفة» هو شعار تعريفي ناطق نجده في صفحة موقع استاد المدينة التعليمية، ليصف اعتزاز مؤسَّسة قطر الرائدة بهذه الإضافة المُهمّة لمجموعة المباني الحديثة التي تشكِّل حرم مدينتها التعليمية الاستثنائية. إنه «جوهرة التاج» لعمارة المباني الحديثة التي يزخر بها الحرم التعليمي، أو، إذا توخينا الوصف من تراث صيد اللؤلؤ في الخليج، إنه «الدانة الكبرى» في عقد لآلئ مباني المدينة التعليمية.
عقد لآلئ العمارة الحديثة يكاد لا ينقطع في قطر، تلك المباني التي صمَّمها نخبة من المعماريين من الدرجة الأولى في العَالَم أصبحت تزين هذه الدولة وتعبِّر عن إيمانها بفكرة مفادها أن العمارة الراقية الجميلة لها فضيلة تحسين بيئة حياة الناس ورفع مستوى معيشتهم.
معمارياً، استثمرت قطر في كافة المجالات، في الثقافة من خلال متحف الفن الإسلامي، ومتحف قطر الوطني، والمكتبة الوطنية، وكلها من تصميم معماريين حاصلين على جائزة «البريتزكر»، وهي أعلى شرف يمكن أن يحصل عليه معماري على مستوى العَالَم. واستثمرت بالمُقابل في ترميم التراث المحلي أيضاً بهدف إعادة تكييفه للاستعمال الحديث، والأمثلة كثيرة مثل سوق واقف، الذي تمَّ ترشيحه للفوز بجائزة «الأغا خان» للعمارة في عام 2010 التي أقيمت في العاصمة القطرية الدوحة، وسوق الوكرة التاريخيين، إضافة إلى الاستثمار الحثيث في إيجاد بنية تحتية متقنة للدولة ككل.
كل هذه الإنجازات أتاحت لدولة قطر أن تتقدَّم بعرضها لاستضافة المُونديال بثقة وجدارة، فالفوز بتنظيم حدث كهذا لا يتمُّ من خلال بناء مرافق رياضية فحسب، مهما كانت متقنة، بل يحتاج إلى بنية تحتية وبيئة عمرانية متطوِّرة، فالمدينة والدولة ككل هنا هي مسرح الحدث. من هذه الأرضية، من الاستثمار عبر عقود في التنمية الثقافية والاجتماعية والعلمية، جاء دور تأهيل وبناء الملاعب الرياضية الثمانية التي ستحتضن المُباريات، بعمارة رياضية مميَّزة تكافئ العمارة المدينية الموجودة.
الاستاد ومؤسَّسة قطر
مؤسَّسة قطر ومدينتها التعليمية من أهم أوجه قطر الحضارية، وهي عالَم مصغَّر مكثف لطموحات قطر في الاستثمار في عقول شباب المُستقبل. كانت هذه المُؤسَّسة، لأكثر من عقدين من الزمن، تقود الابتكار العلمي وريادة الأعمال وتعزِّز التنمية الاجتماعية وثقافة التعلُّم مدى الحياة، وذلك بهدف تجهيز أذكى العقول لمُواجهة أكبر التحديات في المُستقبل.
ضمن حرم هذه المُؤسَّسة الرائدة، في منطقة الريان، تمَّ إقرار بناء الاستاد الكبير لخدمة المدينة التعليمية، ودُشِّن في 15 يونيو/حزيران من عام 2020. وبعد أن نالت قطر، في 2 ديسمبر/كانون الأول 2010، حق استضافة نهائيات كأس العَالَم 2022، تمَّ إقرار رفع جاهزية الملعب، بحيث يتسع لـ(40) ألف متفرج.
كان الاستاد الذي تمَّ التخطيط له كجزء من المُجمع التعليمي الضخم في الدوحة يُعرَف في البداية باسم استاد المدينة التعليمية، وأعيد تسميته لاحقاً للترويج لمُؤسَّسة قطر. ومنذ البداية، كان جزءاً من عرض قطر لاستضافة كأس العَالَم 2022، وكان تصميمه الأكثر اتساقاً من المراحل المُبكِّرة إلى النهائية.
بالإضافة إلى استيفاء موجز النص الأصلي لمُتطلبات أمناء مؤسَّسة قطر، بتصميم مجمع رياضي رئيسي للمدينة التعليمية، أراد المعماري المُصمم «فينويك إيريبارين» استغلاله كنقطة جذب بصرية واجتماعية رئيسة داخل الحرم، وحقق ذلك بوضع المبنى بشكلٍ ملائم وسط واحة خضراء مصطنعة تتخللها ممرات ومناطق مظللة وساحات تفاعلية عامة. علاقة الاستاد بموقعه علاقة درامية، حيث صُمِّمَ بشكلٍ يصل الزائر إليه بعد تحضيرات نفسية عبر محور طويل يلوح في نهايته هيكل الملعب.
ويبعد استاد المدينة التعليمية 10 كيلومترات عن وسط الدوحة، ويتمُّ الوصول إليه من منطقة الكورنيش، ثمَّ شارع «خليفة» وبعده شارع «اللقطة»، حتى الوصول لحرم المدينة التعليمية. أما بمُناسبة المُونديال فستكون هنالك ترتيبات أخرى، بحيث يصل الزائر عن طريق المترو أيضاً، وستكون أقرب محطة هي محطة المدينة التعليمية عبر الخط الأخضر، ويمكن منها التوجُّه إليه مشياً على الأقدام لمسافة قصيرة، أو عن طريق سيارات الأجرة، بالإضافة إلى الترام.
عمارة الاستاد
الشكل العام للاستاد هو مستطيل كبير منبثق من شكل أرض الملعب العشبية الخضراء، وهي تملك بالطبع نفس المُواصفات المعمارية النظامية لـ«الفيفا»، من حيث الأبعاد. وكلما ابتعدنا عن حدود مستطيل الملعب نحو الخارج، تصبح الزوايا القائمة للشكل المُستطيل منحنية، ربع-دائرية، في القشرة الخارجية المُغلفة للمدرجات، ليقترب شكله بهذا من الشكل البيضاوي. ويحد كل ضلع من أضلاع الملعب مدرجات على ثلاثة مناسيب، يفصل بينها ممرات المُشاة، ومن ثمَّ، تأتي القشرة المغلفة والمظللة لهذه المدرجات.
طريقة تصميم هذه القشرة هي ما يعطي المبنى صفته المميزة من الناحيتين البنيوية والبصرية، تلك الصورة الشبيهة بهندسة الألماس البورية. وقد أطلقت عليها إحدى الجهات الإعلامية بجدارة اسم «ماسة قطر المُونديالية»، بينما أعطتها جهة إعلامية أخرى وصف «ماسة في قلب الصحراء».
وسوف يلاحظ المُشاهد عن بُعد بأن جسم المبنى يتلألأ بسبب كثرة الوجوه المُكوِّنة لسطح قشرته المغلفة من جهةٍ، ومادته المعدنية الصقيلية التي تشبه المرآة من جهةٍ أخرى. تعكس هذه السطوح الضوء، في الليل والنهار بمشاهِد وهويّة دائمة التجدّد.
الهويّة البصرية للمبنى
لم يعانِ المعماري كثيراً في اختياره لشكل يعبِّر عن هويّة المكان خصوصاً وتاريخ قطر القديم عموماً. الهويّة التي فرضت نفسها هي هويّة «محايدة» تعكس هويّة العلم ومنهجه الموضوعي المجرد، كون الموقع هو المدينة التعليمية، وكون هذا الاستاد ليس الاستاد الرئيسي المحمل بعبء عكس صورة وهويّة قطر وتراثها. فقد حمل هذا العبء كلٌّ من استاد البيت، الذي بُني على شكل خيمة عربية مستوحاة من التراث العربي في منطقة الخليج، واستاد «الثمامة» المُستوحَى شكله من غطاء الرأس التقليدي «القحفية». في استاد المدينة التعليمية لجأ المعماري في تصميمه مباشرةً إلى المولدات الوظيفية والتقنية التي تتطلبها عمارة الاستاد – تصميم معاصِر بمُساعدة الكمبيوتر.
يستخدم المعماري نفس الوحدة الهندسية (المعين) التي استخدمها لاحقاً المعماري الذي صمَّم استاد «الثمامة»، ناشراً إياها على سطح أسطواني منحني. بينما نجد أن استاد المدينة التعليمية يعتمد هذه الوحدة الهندسية، لكنه يقسمها إلى مثلثين اثنين، بمُستويين مختلفين ليتمَّ التوليد الهندسي للمنحني العام لجسم الاستاد، وذلك بتكرار هذه الوحدة البنائية بشكلٍ بلوري فصيح (articulated)، أي دون أن تذوب في السطح المنحني كما في استاد «الثمامة».
هذه الألواح المثلثية المُنتشرة على كامل السطح المغلف للمبنى هي عبارة عن لواقط شمسية. ولابد من الذكر هنا أن التحكُّم في أبعاد الوحدات المثلثية/المعينية كي تدور حول سطح منحني كهذا يحتاج في تصميمه إلى الاستعانة بالحاسوب (CAD) بسبب الارتيابات المُتغيِّرة والصغيرة بين كل وحدة وما يجاورها من الوحدات. والنتيجة هي تأثير بصري زخرفي معاصِر (بارامتري) أخاذ، مولَّد باستخدام برنامج حاسوبي خاص.
على الرغم من ذلك، يبقى هنالك تأثيرٌ يلمِّح إلى تراث الزخرفة الإسلامية المحلية ولا يصرِّح به. ويمكن القول إن استراتيجية «التلميح» التصميمية هذه، تبعد الشعور بالغُربة والغَرابة عن المُشاهِد المحلي من أهل البلد، وبنفس الوقت تُشبع توقع الزائر الأجنبي بوجود لمحة محلية في التصميم. هذا ما أسميه الشعور بـ«الألفة الحرجة critical familiarity»، حيث يشعر الناظر أنه يرى وجهاً يعرفه، لكنه لا يستطيع أن يضع له اسماً محدَّداً.
لعلَّ توظيف العلم والتقنية في تصميم هذا الاستاد يأخذ أهم أبعاده في استراتيجيات التحكُّم بالحرارة ضمن تحديات مناخ قطر الصحراوي الحار. ضمن هذا الإطار، تمَّ استخدام تقنية تبريد مباشر لوعاء خاص موجود أسفل كل مقعد من مقاعد المُتفرِّجين، مما يضمن راحتهم حتى في أشد أشهر الصيف حرارة، فأيٌّ كانت درجة الحرارة في الخارج يجب ألّا تزيد درجة حرارة الاستاد في الداخل على 24 – 27 درجة مئوية. على كل حال، من المُفترَض أن تكون الحرارة قد انخفضت شدتها في شهر نوفمبر، خلال الفترة التي سوف يستضيف فيها هذا الملعب عدداً من مباريات المُونديال.
رغم كون التحكُّم الحراري أهم التحديات التي تمَّت مواجهتها إلّا أن التوظيف التقني الفائق ينسحب على كل فعاليات الاستاد وأنظمة الأمان فيه، وذلك بما يتوافق مع أحدث المُتطلبات والمعايير الأولمبية الدولية، (خاصة معايير الفيفا الصارمة).
الاستدامة والتراث
تصنَّف المدينة التعليمية برمتها كمنطقة خضراء مستدامة، وقد حصل مشروع الاستاد فيها على تصنيف خمس نجوم بموجب نظام تقييم الاستدامة العَالَمي (GSAS)، مما يجعله أول ملعب في العَالَم يحصل على مثل هذا الاعتراف. بالإضافة إلى ذلك، يأتي نحو (55 %) من المواد المُستخدمة في المشروع من مصادر مستدامة، بينما تحتوي (28 %) من مواد البناء على محتويات مُعَاد تدويرها.
ومن الأمور المُميَّزة في هذا الصدد تصميم الألواح المعدنية المثلثية، التي تغطي الملعب بشكلٍ كامل من الخارج، والتي تكمن مهمّتها الأساسية في توليد الطاقة الكهربائية اللازمة للملعب، عن طريق أشعة الشمس الطبيعية. هذه اللواقط ستوفِّر ما يصل إلى أكثر من (20 %) من الطلب على الطاقة خلال أيام الفعاليات. أما في الأيام العادية، فستظل هذه اللواقط فعَّالة، حيث ستزوِّد الشبكة المحلية بفائض الطاقة المُتولِّدة منها على الدوام. وهكذا، بنظرةٍ ما إلى المدينة التعليمية، نظرة من الخيال العلمي، يمكن اعتبار الاستاد برمته كلاقط شمسي ضخم!
بعد انقضاء هذا الحدث الجميل، وكما يقول المثل الإنجليزي «كل الأشياء الجميلة لها نهاية»، لن يبقى الاستاد أطلالاً تذكِّر بالحدث والأيام السعيدة التي مرَّت عليه، ولكنه سوف يبقى إرثاً وشاهِداً على الحدث وصرحاً تذكارياً مستداماً لخدمة مجتمع المدينة التعليمية، كما حدث في أمكنة أخرى من العَالَم، حيث يحضرني هنا استاد أولمبياد طوكيو 1960، على سبيل المثال لا الحصر.
يدخل هذا ضمن سياسة «الإرث» الحصيفة التي صدرت بمرسوم أميري سنة 2011، وتمَّ تفعيل هذه «السياسة» بتسمية مبتكَّرة تمَّ دمجها بمهمَّة لجنة إنجاز المشاريع، فأصبحت تعرف بـ«اللجنة العليا للمشاريع والإرث».
الاستدامة ضرورة عالَمية، أما الإرث والتوريث، فهو فضيلة إنسانية، ومن هذا المُنطلق، لن يعود الإرث والتوريث للملاعب بالفائدة على الصعيد المحلي فحسب، بل سيعمُّ الخير أيضاً دولاً نامية تفتقر للملاعب. في حالة استاد المدينة التعليمية، بعد الانتهاء من حدث المُونديال سيتمُّ تفكيك 25 ألف مقعد من أصل 40 ألفاً وإرسالها إلى أمكنة أخرى في حاجة لها. ولكن ستبقى «ماسة الصحراء» حيَّة، بملعبها الرئيس وملاعبها الأخرى، باللاعبين من طلابها وعلمائها، وبكونها مولداً ضخماً للطاقة الكهربائية – والمعنوية في البلاد!
اقرأ في هذا الملف:
استاد خليفة الدوليّ.. عراقة، حداثة واستدامة
استاد المدينة التعليمية.. حيث تلتقي كرة القدم بالعلم والمعرفة
استاد الثمامة.. يغطّي ضيوف «كأس العَالَم» بطاقيّة عربيّة
استاد الجنوب.. بوابة بين الماضي والمُستقبل
استاد أحمد بن علي.. بوابة الصحراء
استاد لوسيل.. سحر الكرة أم سحر المكان؟
استاد البيت.. خيمة ليست كباقي الخيام