استاد لوسيل.. سحر الكرة أم سحر المكان؟

| 07 أكتوبر 2022 |
ملعب لوسيل هو واحد من بين ثمانية ملاعب في قطر خُصِّصت لاستضافة نهائيات كأس العَالَم لكرة القدم 2022، هذه المُسابقة العَالَمية الأكثر أهمية وشعبية على مستوى العَالَم، والتي سوف تُقام للمرّة الأولى في تاريخها في بلدٍ عربي. ويعتبر هذا الملعب الأكبر حجماً واستيعاباً للمُشجعين ليس على صعيد الملاعب المُخصَّصة لكأس العَالَم في قطر فحسب، بل في منطقة الشرق الأوسط أيضاً.
خلال زيارتي الخاصة لملعب لوسيل الدولي لكرة القدم، الذي سوف يستضيف المُباراة الختامية وعدد من مباريات كأس العَالَم لكرة القدم هذ العام، كان السؤال الأول الذي خطر على بالي وأنا أتابع التفاصيل المُدهشة لهذ الصرح المعماري الكبير، كيف يمكن لعشرات الألوف من المُشجعين والمُتابعين المُتواجدين في الملعب من كافة أنحاء العَالَم أن ينشغلوا بمُتابعة أحداث المُباراة وفي الوقت نفسه مقاومة الرغبة الشديدة بالتجوُّل في المكان والنظر مطوَّلاً إلى تفاصيله المُثيرة؟!
فالملعب الذي يتسع لأكثر من 80 ألف مشجع هو أقرب أن يوصف بالتحفة الفنّيّة الرائعة والصرح المعماري الفريد الذي يملك سحراً خاصاً وبصمة فريدة في كلّ تفصيل من تفاصيله الكثيرة. ولا شكّ أن هذا السحر يزداد تأثيراً وأهمية من خلال التمعُّن بالتصاميم الأساسية والتشكيلات الاستثنائية التي يتضمنها هذا الملعب الضخم، سواء من الخارج أم من الداخل.
يقع الملعب في مدينة لوسيل، وهي مدينة ساحلية حديثة يجري تطويرها على بُعد نحو 15 كيلومتراً إلى الشمال من العاصمة القطرية الدوحة وتستوعب نحو 250 ألف شخص. ويعتبر الملعب جزءاً هاماً من مخطط حضري كبير وعملاق لتحويل هذه المدينة إلى مشروع تطوير مستدام يمتد على مساحة 35 كيلومتراً مربعاً، ويتضمن أكثر من مرفأ بحري ومناطق تجارية وترفيهية ومناطق سكنية ومراكز تسوق ومدارس ومراكز طبية ومساجد مع أكثر من 25 ألف وحدة سكنية وملعبين للجولف.
قام بتصميم الملعب واحد من أهم مكاتب التصميم والعمارة على مستوى العَالَم، وهو مكتب فوستر وشركاؤه للمعماري البريطاني الكبير نورمان فوستر، وهو من أشهر المعماريين البريطانيين ومصمم عدد كبير من الجسور والمباني والمُؤسَّسات والصروح المعمارية الضخمة في كافة أنحاء العَالَم. كما أنه حاصل على العديد من الجوائز العالمية الرائدة في مجال العمارة، ولعلّ أهمها جائزة الآغا خان للعمارة (سويسرا) في عام (2008) عن مشروع جامعة بيتروناس للتكنولوجيا في ماليزيا، وجائزة أمير أستورياس للفنون من ملك إسبانيا خوان كارلوس في عام (2009)، وأخيراً جائزة بريتزكر للعمارة (الولايات المُتحدة الأميركية)، والتي تعتبر بمثابة جائزة نوبل في مجال العمارة، في عام (2019).
الأمر المُثير في هذا المشروع بالذات أن التصميم النهائي للملعب، كما يقول نورمان فوستر، «بقي سرياً لفترة طويلة من الزمن»، الأمر الذي جعل من هذا الملعب حالة خاصة استقطبت اهتمام ومتابعة وسائل الإعلام والمُهتمِّين في كافة أنحاء العَالَم لفترة طويلة من الزمن. وما زاد الموضوع إثارة وحماساً أن أعمال البناء في الملعب بدأت بالفعل في عام (2015)، واستمرّت على قدم وساق بنشاطٍ كبير حتى وصل البناء تقريباً إلى شكله الفعلي في عام (2017)، قبل أن يتمَّ الإعلان عن تصميم الملعب النهائي ضمن حفلٍ خاص أقيم في شهر ديسمبر/كانون الأول من عام (2018).
تصميم يعكس عراقة التراث
يمكن القول بدايةً إنّ أهم ما يميِّز ملعب لوسيل الدولي أن تصميمه يعكس التراث الفنيّ العريق لدولة قطر، مستلهماً مفرداته من تداخل الضوء والظل في الفنار العربي التقليدي أو الفانوس. ويبدو هذا الأمر جلياً من خلال شكله الخارجي الذي يبدو من بعيد كوعاءٍ عملاق، أو كمركب شراعي قديم، يبدأ بمساحة محدودة من الأسفل ثمَّ يزداد اتساعاً وضخامة كلما ارتفع البناء نحو الأعلى. ويصبح الملعب أكبر حجماً وأكثر إثارة للإعجاب عند اقتراب المُشجِّعين والزائرين منه ووصولهم أخيراً إلى الباحة الرئيسة الكبيرة التي تحيط به بشكلٍ كامل وتسمح بالدخول والخروج من الملعب بكلِّ راحةٍ وأمان.
وأجمل ما في التصميم هو الجدار الخارجي للملعب الذي زُيِّنَ بنمطٍ مثلثي أنيق للغاية ونقوش ذات تفاصيل دقيقة تذكِّرنا بأوعية الطعام القديمة والأواني التقليدية وغيرها من القطع الفنّيّة الجميلة التي انتشرت في أرجاء العَالَم الإسلامي خلال عصره الذهبي. وتتوالى المُثلثات بأحجامٍ متفاوتة وبأشكالٍ مسطحة ومنحنية، وتتباين بطريقة رائعة وانسيابية مما تضفي جمالية خاصة وتجعل الشكل الخارجي للبناء يبدو متناسقاً بطريقة مدهشة. وعندما يتمُّ تسليط الأضواء على الملعب في المساء يزداد المنظر جمالاً وسحراً، خاصة مع التباين الرائع الذي يفرضه التصميم بين الأجزاء المُنارة والمُظللة.
لكن، الأمر الذي يُثير الانتباه إلى حدٍّ أكبر هو السقف المُظلل الهائل للملعب الذي تمَّ تصميمه على شكل سرج يطفو فوق وعاء الجلوس الخرساني. ووفقاً للجهة المُصمِّمة، تدعم حلقة من الأعمدة المقوسة هيكل السقف، والذي يمكن سحبه من المركز، بشكلٍ خفي بينما تسمح فتحات السقف القابلة للتشغيل بانكشاف الملعب أو تغطيته بالكامل دون الحاجة إلى تحريك السقف. ولا شكّ أن هذا التصميم يضفي جمالية كبيرة إلى المكان، خاصة مع التباين الرائع بين الأجزاء المُضاءة والمُظللة، ناهيك عن الأشكال التي تعكسها هذه الفتحات في كافة أرجاء الملعب عبر مرور أشعة الشمس من خلالها.
في الداخل، ما أن يضع المُشجِّع أو الزائر أولى خطواته في المكان حتى يلفت انتباهه صحن الملعب البيضاوي الكبير الذي يضفي على الملعب سحراً إضافياً ومشهداً ممتعاً للنظر، سواء للاعبين أو المُشجعين على حدٍّ سواء. ومع ارتفاع البناء نحو الأعلى واتساعه يزداد هذه المشهد روعة وجمالاً، بينما تزداد الإثارة والمُتعة حضوراً بالنسبة للمُشجِّعين بالطبع كلما ازدادت المُدرجات قرباً من أرضية الملعب.
تمَّ اختيار اللون الأبيض في كافة الأروقة والممرات وحتى غرف تغيير الملابس في الملعب، فيما يبدو، لتوفير الإضاءة الكافية في المكان من جهةٍ، ومنح اللاعب الراحة النفسية والشعور بالثقة والتفاؤل والتركيز الذي يحتاجه قَبل المُباراة من جهةٍ أخرى. وتعكس الزخارف المُتعدِّدة الموجودة في الأروقة والممرات ومرافق الملعب الطراز الفنيّ للحضارة الإسلامية العريقة، بينما يتكرَّر النمط المُثلثي الذي يميِّز التصميم العام للملعب من الخارج في الأسقف الداخلية للممرات والمرافق، في لمسة إضافية تضفي المزيد من الجمال إلى البناء.
باختصار، يمكن القول من نظرة مورفولوجية إن تصميم الملعب يقوم على مبدأ الوحدة المُتكرِّرة، حيث يتمُّ تكرار الوحدة الأساسية في التصميم بطريقةٍ سلسة وليِّنة في كافة أرجاء الملعب من الداخل والخارج، مُولِّدة في هذه الحالة علاقةً رائعة ما بين التصميم الداخلي والخارجي. وبهذه الطريقة، لم تعد العناصر الداخلة في التصميم صلبة ومنفصلة وإنما ليِّنة ومتصلة مع بعضها البعض، خاصةً في الأجزاء المُنحنية، مما يعكس قوة وجمالية الموقع. كما أن من ميزات هذا التصميم الاعتماد على الخطوط الانسيابية البعيدة عن الأشكال الهندسية الصريحة.
أما السقف العلوي للملعب فيمكن القول إنه أقرب لأسلوب التصميم البارامتري، من خلال وجود تكوينات تتغيَّر باستمرار خالقة مساحاتٍ متباينة بين الظلِّ والنور. وأخيراً يضمن توجيه الملعب من الشرق إلى الغرب تظليل الملعب بالكامل، وهذا الأمر يخدم بشكلٍ كبير المفهوم الأساسي الذي يقوم عليه التصميم من خلال إيجاد التباين بين المساحات المُظللة والمُضاءة، مما يمنح جمالية إضافية للموقع ويبتعد عن التكرار والرتابة.
الاستدامة هي العنوان
بعيداً عن التصميم الرائع والمُتميِّز لملعب لوسيل الدولي، الذي ينافس دون شكّ أكبر وأروع الملاعب في العَالَم، يبدو موضوع الاستدامة والحفاظ على البيئة واحداً من العناوين الرئيسة لهذا الصرح المعماري الكبير، خاصة في مدينة لوسيل التي تشهد نمواً كبيراً ونهضةً عمرانية واقتصادية واجتماعية متزايدة.
ضمن هذا الإطار يعتمد الملعب على نظام تشغيلي صديق للبيئة وموفر للطاقة، كما يتميَّز بإمكانيته للتعامل مع الظروف الجوية المُحيطة في أغلب أوقات السنة، مثل الحرارة المُرتفعة والرطوبة العالية والرياح الجافة، وغيرها الكثير من الظروف الجوية القاسية التي تؤثر سلباً على المُشجعين واللاعبين على حدٍّ سواء، مما يسمح باستخدام الملعب على مدار العام. وللوصول إلى هذه الغاية يتمُّ استخدام تقنيات تبريد صديقة للبيئة لتوفير درجة حرارة معتدلة داخل الملعب، بحيث لا تزيد على 27 درجة مئوية، حتى عندما تزيد درجة الحرارة في الخارج على 40 درجة مئوية.
أما المظلات التي تظلل مرافق الخدمة ومواقف السيارات فيتمُّ الاستفادة منها من خلال شبكة من ألواح الطاقة الشمسية التي تعمل على توليد الطاقة الكهربائية لإنارة وتشغيل مرافق الملعب بشكلٍ أساسي، ومن ثَمَّ توفير الكهرباء للمباني المجاورة عندما لا يكون الملعب قيد الاستخدام. ويمكن القول إن هذه التجربة تعتبر من التجارب الرائدة على صعيد المنطقة العربية، والتي تقوم فيها منشأة رياضية بتوليد طاقة كهربائية نظيفة للمُجتمعات المُحيطة بها.
وعلى مقربة من ملعب لوسيل تمَّ بناء عدد من الفنادق لاستضافة زوار المدينة والمُشجِّعين خلال فترة المُونديال العَالَمي الكبير وفي المُستقبل. كما تمَّ الأخذ بعين الاعتبار تأمين شبكات الطرق ووسائل النقل العامة والخاصة وحتى المترو لتأمين وصول المُشجِّعين إلى الملعب. وبفضل مرونة هيكله من المُنتظر أن يتحوَّل الملعب في المُستقبل إلى مركز مجتمعي وثقافي، كما سيكون قادراً على استضافة العديد من الأحداث والفعاليات الرياضية والثقافية والاجتماعية في قطر بعد عام 2022.
ويمكن القول إن هذا الملعب بكل إمكانياته وخصائصه المُميَّزة والفريدة سوف يكون إضافة كبيرة وهامة لمدينة لوسيل، وسيعمل على جذب المزيد من الاهتمام إلى المدينة، كما سيروِّج لأفكار جديدة رائدة وصديقة للبيئة في المنطقة العربية والعَالَم. وهذا ما أشار إليه سعادة الشيخ محمد بن حمد بن خليفة آل ثاني، رئيس لجنة ملف قطر لكأس العَالَم 2022 الذي تحدَّث في وقتٍ سابق عن هذا الصرح المعماري الكبير قائلاً: «إن ملعب لوسيل المُتميِّز سيكون المكان المثالي لافتتاح ونهائي كأس العَالَم، كما أنه سيكون مصدر إلهام لجيل جديد من الملاعب الرياضية الإقليمية والدولية، وسيجسد تقنيات تبريد صديقة للبيئة لضمان الأجواء المثالية للاعبين والمُتفرِّجين على حدٍّ سواء».
في الختام، لا شكّ أن ملعب لوسيل هو إنجاز كبير ومصدر فخر ليس لدولة قطر فحسب، بل للأمة العربية قاطبة، والأمر نفسه ينطبق على استضافة دولة قطر لكأس العَالَم. وإنّ استضافة نهائي كأس العَالَم في هذا الاستاد الرائع، كما يقول نجم كرة القدم الأسترالية تيم كيهل، ستمثِّل دون شكّ تجربةً فريدة لكل مَنْ يحالفه الحظ بحضور المُباراة النهائية ومشاهَدة تتويج الفائز بلقب أول نسخة من المُونديال في العَالَم العربيّ.
اقرأ في هذا الملف:
استاد خليفة الدوليّ.. عراقة، حداثة واستدامة
استاد المدينة التعليمية.. حيث تلتقي كرة القدم بالعلم والمعرفة
استاد الثمامة.. يغطّي ضيوف «كأس العَالَم» بطاقيّة عربيّة
استاد الجنوب.. بوابة بين الماضي والمُستقبل
استاد أحمد بن علي.. بوابة الصحراء
استاد لوسيل.. سحر الكرة أم سحر المكان؟
استاد البيت.. خيمة ليست كباقي الخيام