اقتصاد ما بعد كورونا.. هل سينطلق من الصفر؟!

| 13 مايو 2020 |
يطلق كثيرٌ من المُحللين الاقتصاديّين والمُتتبعين لمستجدات الأحداث الدوليّة مقارناتٍ بين ما يحدث منذ بداية السنة الجارية 2020 والأزمات الاقتصاديّة التي عرفها العالم على الأقلّ منذ أزمة 1929 التي مهَّدت للحرب العالميّة الثانية، وما تمخَّض عنها بعد نهايتها، وصولاً إلى الأزمة الماليّة لسنة 2008. والواقع أنه من الصعب إيجاد مداخل للمُقارنة بين أزمة كورونا وتداعياتها وأيٍّ من سابقاتها. هذا الاستنتاج لا يحتاج إلى ما يُستدل بهِ لتأكيدهِ. إن الأمر لا يتعلّق بتوترات عالميّة بين الدول أدت إلى اندلاع حرب، ولا بحروب الشرق الأوسط وسلاح النفط، كما لا يتعلّق بأزمة عقارات أو هبوط أسهم، أو بمضاربات أدَّت إلى سحب الأموال من بلدانٍ وضخها في أخرى. اليوم الأزمة مختلفة في أسبابها، وبالتأكيد في نتائجها وتداعياتها.
لقد نسي العالم، أو بالأحرى تناسى، أن محاولات الخروج من أزمة 2008، تسبّبت في اندلاع حرب تجاريّة بين الصين والولايات المتحدة، باتهام الأخيرة للأولى بعدم احترام قواعد السوق في التجارة الدوليّة، وباتهام العالم لأميركا ترامب بالتراجع عن التزاماتها، سواء بالنسبة للعديد من القضايا التجاريّة أم للتغيُّرات المناخيّة، وبالعمل الحثيث على العودة إلى إرساء الإجراءات الحمائية التي تمَّ رفعها في إطار منظَّمة التجارة العالميّة، حيث صارت الصين، كما اتضح في الدورات الأخيرة لمنتدى دافوس الاقتصاديّ مثلاً، هي المدافع الأكبر عن حرّيّة التجارة الدوليّة وتنقل الأموال. ولم تعد التوترات الإقليميّة واللاجئون والعقوبات على إيران تحتلّ عناوين الأخبار الدوليّة. وأوقف الأوروبيّون التفكير في ما بعد خروج بريطانيا، وما إذا كان هذا الحدث إيذاناً بتفكك الاتحاد الأوروبيّ وخروج أعضاء آخرين في السنوات المقبلة، كما لم يعد يهمّهم نقاشُ اليسار واليمين وصعود اليمين المُتطرِّف. لكلّ هذا من غير الممكن التفكير في ما بعد الأزمة بالمنطق نفسه بالنسبة للأزمات السابقة.
الآنَ ثمَّة مفارقةٌ لم يعرفها العالم المُعاصِرُ في أي فترةٍ من الفتراتِ، يتمثلُ قطباها، أولاً في وجود تحالفٍ غير معلنٍ وحيدٍ بينَ الشرقِ والغربِ، بين الدول التي تناحرتْ طويلاً بسبب خلافات سياسيّة مختلفة أو تجاريّة، كما كان عليه الأمر منذ وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وبينَ الأحزابِ التي تخوض نزالاتٍ شرسة من أجل الفوز بالناخبين والمناصب والسُّلطة والأمثلة على ذلك عديدة في أميركا وأوروبا وفي البرازيل إبان الانتخابات التي أتت بجايير بولسونارو اليميني إلى الحكم؛ وثانياً في أن آفاق هذا التحالف من أجل محاربة الجَائِحة التي جفَّفت حتى المنابع التي كان يعوَّلُ عليها لتعافي الاقتصاد العالميّ من أزمة 2008، تبدو غائمةً إلى حدٍّ بعيدٍ في ظلِّ استمرار الوباء والتوقعات المُتشائمة بشأن تراجعه قريباً، وهو ما يمكن قراءته مثلاً نقلاً عن صندوق النقد الدوليّ في آخر تقاريره حول آفاق الاقتصاد العالمي لسنة 2020 عندما يقول إن هذه الأزمة غير مسبوقة، وأنه في ظلِّ الإجراءات المُتخَذة يصعب تحفيز الأنشطة الاقتصاديّة خاصة منها الأكثر تضرراً، وبالتالي من المُحتمَل جداً أن يسجل الاقتصاد أسوأ تراجع لهُ مقارنةً مع ما شهده خلال السنوات التي تلت أزمة 1929، وأيضا خلال السنوات العشر الأخيرة منذ الأزمة المالية لسنة 2008.
وإذا كان ثمّة من وصفٍ تقريبيّ يُستنتجُ مما سبق حول الوضعية الراهنة للاقتصاد العالميّ، فهو أنه سينطلق من الصفرِ، أو يكاد، بعد انقشاع الأزمة. فقد تعقَّدت حالة المُبادلات التجاريّة الدوليّة إلى الحدِّ الذي بدت معه المُنظمة العالميّة للتجارة غير قادرة على تحديد نسبة تقريبيّة لتراجعها خلال السنة الجارية. وتظهر هذه الحيرة في الفرق الكبير بين الحدِّ الأدنى (13 في المئة) والحدِّ الأقصى (32 في المئة) المُتوقَع من خبرائها لهذا التراجع مقارنةً مع سنة 2019. وعلى خلاف النبرة التي لاذ بها خبراء صندوق النقد الدوليّ للتعبير عن بصيصٍ من التفاؤل بالإشارة إلى أنه من المُحتمَل تسجيل انتعاش في الاقتصاد العالمي بدايةً من 2021 إذا قدَّمت الحكومات دعماً سياسيّاً لاقتصاداتها، فإن المنظمة العالميّة للتجارة التي قال مديرها عن نسب التراجع المُتوقعة بأنها «أرقام مخيفة»، لا ترى ما يراه الصندوق، مستندةً إلى الواقع الناتج عن أزمة 2008، التي لم يتعافَ منها الاقتصاد العالميّ حتى الآن بالرغم من أنها أزمة لا تصل في خطورتها إلى أزمة كورونا.
إن المُبادلات التجاريّة لا تعدو مجرَّد مثالٍ وصورة للمجالات الاقتصاديّة والماليّة الأخرى، التي دمَّرها الوباء، وهي نفسها مرآة لحجم الإنتاج الذي يوجد في أدنى مستوياته بسبب الحَجْر المفروض على ما يقارب نصف سكّان الأرض، أغلبهم في الدول الصناعيّة الكبرى بما فيها الصين، ولحجم الاستثمارات الأجنبيّة المُباشرة التي كانت تنشط الإنتاج وسوق الشغل، وتمتص البطالة، وتغذِّي بالتالي الطلب الداخلي والاستهلاك في الكثير من الدول الناشئة والفقيرة، دون الحديث عن دورها في رفع دينامية الاقتصاد في الدول الكبرى. فهذه الاستثمارات من المُتوقَّع أن تشهد تراجعاً حاداً هذه السنة، حسب نشرة مارس/آذار 2020 لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد)، يتراوح بين 5 و15 في المئة، خاصّة أن شركات عالميّة كبرى لها أنشطة عبر العالم أعلنت عن تأثرٍ كبيرٍ، وعن تراجعٍ غير مسبوقٍ لأرباحها، وأنها مضطرة لتقليص نفقاتها.
انطلاقاً من ذلك، يمكن الحكم على توقعات صندوق النقد الدوليّ بانكماش الاقتصاد العالميّ خلال السنة الحالية بنسبة 3 في المئة بأنها متفائلة، أو على الأقلّ تنأى ما أمكن عن الحديث عن احتمال حدوث كسادٍ حقيقيّ علما أن أسبابه قائمة، وباتت منظوراً إليها بوضوح ربَّما أكثر من أي وقتٍ سابق (بطالة مرتفعة مقرونةً بضعفٍ كبيرٍ في القدرة الشرائيّة، تراجع الموجودات، انخفاض الإنتاج وتقلصٌ قد تصل نسبته إلى الثلث في التجارة الدوليّة). ولأن الأزمة شاملة لم تستثنِ أي بلد، وإنْ بشكلٍ متفاوت، فإن محفزات الانتعاشِ سيكون مفعولها بطيئاً في أفضل الأحوال. فوفقاً للمُعطيات الواردة في نشرة الأونكتاد المذكورة، كلّ القطاعات الصناعيّة والطاقيّة والتجاريّة والخدماتيّة لم تسلم من آثار الجَائِحة، خاصّة أن عدداً من الدول الكبرى والناشئة على حدٍّ سواء اتخذت إجراءات صارمة لمواجهة الوباء عطّلت بشكلٍ كامل تقريباً الحركة الاقتصاديّة داخليّاً وخارجيّاً. وهي المعطيات التي دعمتها لجنة التنمية للبنك الدوليّ بعد اجتماعها منتصف أبريل/ نيسان الماضي بالتأكيد على أن «الجَائِحة تسبّبت في تعطيل التجارة، وسلاسل التوريد، وتدفُّق الاستثمارات. وأن رأس المال البشريّ غير مستغل، بينما تناقصت بسرعة التحويلات المالية للمُغتربين، وعائدات النقل، والسياحة، بالإضافة إلى انهيار أسعار المواد الأوليّة».
إنّ إجماع هذه المؤسَّسات الماليّة والاقتصاديّة الدوليّة، بالإضافة إلى التحالف العالميّ غير المُعلن، بالرغم من الاتهامات المُتبادلة- أحياناً- بصنع الفيروس وبقرصنة المواد الصِّحيّة المُوجَّهة لهذا البلد أو ذاك- أحياناً أخرى- وغير ذلك، يعني أن لا أحد يملك الإجابةَ عن سؤال المُستقبل، سواء في المدى القصير أم المُتوسط ناهيك عن المدى الطويل.
بيد أن قراءة في التصرُّفات والإجراءات التي تمَّ التعامل بها مع الوباءِ، من شأنها أن تقدِّم صورة مركَّبة مُحتمَلة لما ستكون عليه التوجُّهات الاقتصاديّة لعالم ما بعد الجائحة التي يمكن اعتبارها منعطفاً في ما يتعلَّق بإعادة ترتيب الأولويات ليس الاقتصاديّة فحسب، بل الاجتماعيّة أيضاً، وهو ما يحتم القيام بإصلاحات سياسيّة عميقة ملاءمة بإمكانها مواجهة الأزمات المُحتمَلة في المستقبل بفعالية ونجاعة أكثر.
في هذا السياق، يمكن التمثيل بالوضع في القارة الإفريقيّة التي اعتبرها محللون ومؤسَّسات دوليّة، خاصّة مع توالي الاضطرابات على الاقتصاد العالميّ، قارة الأمل بالنظر إلى نسب النمو المُتواصلة خلال العقدين الأخيرين. ذلك أن التوقُّعات تبدو سيئةً، لأن هذا النمو ظلَّ مرتبطاً بشكلٍ كبير بالشركاء الأساسيّين للدول الإفريقيّة خاصّة الصين التي كسبت مواقع متقدِّمة على حساب الشركاء التقليديّين الأوروبيّين والولايات المتحدة، وبعد هذه السنوات «الزاهرة» التي لم تتأثر كثيراً بتداعيات أزمة 2008، يتوقّع البنك الدوليّ تسجيل نسبة نمو سلبية تتراوح بين ناقص 2.1 في المئة وناقص 5.1 في المئة في بالنسبة للدول الإفريقيّة جنوب الصحراء، معللاً ذلك بانخفاض أسعار المواد الأوليّة وتراجع السياحة، يُضاف إليهما غلق منافذ التصدير وتوقُّف تدفُّق الاستثمارات.
إنّ هذه الوضعيّة يمكن تعميمها لتشمل أغلب البلدان النامية والفقيرة أو الغنيّة بالمواد الأوليّة الأساسيّة، والتي تحتاج ديناميّة الاقتصاد فيها إلى مُحفزات خارجيّة، سواء تعلَّق الأمر بالاستيراد والتصدير أم بتحويلات المُهاجرين والاستثمارات الخارجيّة، أم كذلك بالمساعدات والقروض المُوجَّهة لمشاريع تهمُّ التنمية البشريّة أو إنعاش القطاعات الحيويّة. إن هذه الهزة غير المسبوقة تفرض على هذه الدول إعادة النظر أولاً في نماذجها الاقتصاديّة باتجاه الحدِّ من تبعيتها الاختياريّة بحكم المُوارد المُتوفرة والتي تتحكَّم في توجيه سياسات هذه الدول في مجال الاقتصاد، أو المفروضة بحكم موازين القوى الدوليّة، وبحكم ظروف تاريخيّة كالاستعمار مثلاً، وتحويل هذه التبعية إلى علاقات تأخذ في الاعتبار المصالح الوطنية تماماً كما تقوم بذلك الدول القويّة الغنيّة.
لقد أدت الظرفيّة المُفاجئة التي فرضها الوباءُ، كما سبق الذكر، إلى صعودٍ مفاجئ أيضاً لروح جماعيّة على مستوى العالم، والتفكير بشكلٍ مشترك في الحلول، بالرغم ممّا يطفو إلى سطح الأحداث من ممارساتٍ (أنانية) من قِبَل دول كبرى أحياناً تجعل كلّ ذلك في مهب شكوك كثيرة بشأن المستقبل. إلّا أن الأمر قد يتجاوز الشكوك ليصبح حقيقة. فإذا كان طبيعيّاً وعادياً أن تتضرَّر الدول الفقيرة فإنّ كثيراً من الدول العظمى تبدو ضعيفة أمام أزمة مثل الأزمة الراهنة، يتداخل فيها الاقتصاديّ بضرورة المحافظة على الحياة البشريّة، توفير الغذاء بتأمين المُستلزمات الصِّحيّة، وفي ذلكَ لم ينفعها ما أنفقته من جهدٍ ماليّ وسياسيّ، وأحياناً عسكريّ للاستحواذ على الأسواق الاستهلاكيّة أو الاستثماريّة في العالم، وهذا قد يدفع الولايات المتحدة مثلاً إلى المزيد من «أميركا أولاً» ولو بدون ترامب، والعديدَ من دول الاتحاد الأوروبيّ إلى إعادة الاعتبار لسيادتها ولقرارها الوطنيّين اقتصاديّاً وسياسيّاً، خاصّة أن المؤسَّسات الأوروبيّة لم تقدّم ما يكفي من الدعم لأعضائها.
إنّ العالم يُعاد تشكيله وفق معايير جديدةٍ، لم تفرضها قوة عسكريّة ولا يد لأحد فيها بشكلٍ مباشر، على الأقلّ حتى الآن، ومن غير المُستبعد أن نشهد عودةً بشكلٍ مرنٍ إلى بعض المبادئ التي قامت عليها الأممُ من سيادة وطنيّة وإجراءات لحماية ودعم الاقتصاد، والانفتاح المدروس على الخارج بما لا يؤثِّر على المصالح الوطنيّة الحيويّة، ولعلّ بوادر المرحلة المُقبلة بدأت فعلاً بفرض بعض المعايير المُقيِّدة للاستثمارات الأجنبيّة في دول الاتحاد الأوروبيّ، والدعوات إلى الحفاظ على المحاصيل الزراعيّة ومخزونات الأدوية، بالإضافة إلى ما كان دونالد ترامب قد شرع في تنفيذه قبل ظهور الوباء من إجراءات حمائيّة، كما أن الدعم المُقرر للمقاولات قد يستمر لوقتٍ طويل لمُواجهة المُنافسة الخارجيّة عند الاقتضاء. فهل يكون ما يحدث إيذاناً بنهاية مرحلة من العولمة الشاملةِ؟