الإرث الأدبيّ للروائي فرانز كافكا في المحاكم

| 08 أبريل 2020 |
صدرت مؤخَّراً الترجمة الفرنسيّة لكتاب «المحاكمة الأخيرة لكافكا، الصهيونية وإرث الشتات» من تأليف بنيامين بالينت* وترجمة فيليب بينيار (دار النشر لاديكوفيرت). ويتناول الصراع الطويل الذي دار بين إسرائيل وألمانيا حول أرشيف فرانز كافكا (1883 – 1924). النصّ الإنجليزي الأصلي كان عنوانه «المحاكمة الأخيرة لكافكا. قضية إرث أدبيّ» بدون تلميحات سياسيّة. وصدرت مؤخَّراً أيضاً ترجمة فرنسيّة جديدة لمذكرات كافكا «اليوميات» (دار النشر نو) التي كتبها بشكل متقطّع من 1909 إلى غاية وفاته في 1924. أنجز الترجمة روبير كاهين، وهي أكثر شمولية تكشف لأوّل مرّة معلومات وحقائق عن الحياة الخاصّة للكاتب العالمي.
«المحاكمة الأخيرة لكافكا»، هو العنوان الذي اختاره الكاتب الأميركي-الإسرائيلي بنيامين بالينت لكتاب في غاية الدقة حول صراع سياسيّ وثقافيّ استمر لمدة طويلة وله خلفيات صهيونية عميقة حول أرشيف الكاتب التشيكي اليهودي فرانز كافكا، أحد كبار قصاصي وروائيي القرن العشرين. العنوان يحيل على «المحاكمة»، الرواية الشهيرة لكافكا، الذي توفي قبل حوالي 100 عام. وقد جاء هذا الكتاب ليكشف عن تفاصيل صراع كافكاوي تتشابك فيه لعبة السياسة بغرائز الصداقة والوفاء والشهرة والمال. وإذا كانت إبداعات الروائي الراحل ما زالت تثير النقاش الأدبيّ والإعجاب عالمياً، فإن الجدل حول مَنْ يمتلك هذا الإرث الفنيّ ومن يوظفه سياسيّاً وثقافيّاً ظلّ محتدماً لسنوات، وقد يكون حسم مؤخَّراً ما لم تظهر مستقبلاً عناصر جديدة. جاء كتاب بنيامين بالينت للتحقيق بشكلٍ بارع في خبايا هاته القضية التي تمس في العمق الصراع العربيّ-الإسرائيليّ. فهي تثير أسئلة استراتيجية أهمّها: هل كان كافكا حقّاً من دعاة إنشاء دولة إسرائيل؟ أم أن الأمر يتعلَّق بتسييس مقصود لإبداعه وإعادة تأويل لمواقفه الشخصيّة والسياسيّة التي عبّر عنها أساساً في يومياته؟
في هذا الصراع حصلت مواجهة قانونيّة وسياسيّة داخل المحاكم الإسرائيليّة بين طرفين: الأوّل ألمانيّ تمثله أساساً امرأة اسمها «إيفا»، وهي ابنة «إيستر هوف» كاتبة ومساعدة ماكس برود صديق كافكا الحميم. وكانت عائلة هوف مدعومة بمؤسَّسات أدبيّة ألمانيّة تريد الحفاظ على إرثه الثقافيّ على اعتبار أن كافكا كان تشيكياً يكتب بالألمانيّة. قبل وفاته في 1968، كان ماكس قد ترك الأرشيف لإيفا مع توصية بأن تسلمه إلى مكتبة داخل أو خارج إسرائيل. لكنها لم تحترم الوصية مثلما لم يحترم هو سابقاً أيضاً وصية صديقه كافكا. أمّا الطرف الثاني في هذه القضية، فهو الحكومة الإسرائيليّة التي تبنَّت هذا الملف، وإن بشكلٍ متأخّر، ودافعت بقوة عن ملكيتها للأرشيف لأغراضٍ سياسيّة واضحة.
قصّة أرشيف كافكا
لهذا الأرشيف قصّة هوليوودية معقَّدة. في 1939، استطاع ماكس برود أن يهاجر إلى فلسطين هرباً من اجتياح قوات هتلر لتشيكوسلوفاكيا، وليحقق حلم الهجرة إلى إسرائيل «أرض الميعاد» في سياق حملة الاستيطان التي عرفتها فلسطين. هاجر إليها وهو يحمل معه حقيبة مملوءة بأرشيف وكتابات كافكا بعد أن كان قد أصدر في براغ ثلاثاً من روايات صديقه غير المكتملة التي ستصبح من كلاسيكيات الأدب الروائي المُعاصِر وهي: «المحاكمة»، «القصر» و«أميركا» رغم أن كافكا كان قد أوصاه بإحراق كلّ ما كتبه وعدم نشره. بعد فترة، سيتم تهريب جزء من هذا الأرشيف، وفيه «يوميات» كافكا وكتابات أخرى، خلال خمسينيات القرن الماضي من إسرائيل، ليعود في غفلة من ماكس برود إلى ألمانيا عن طريق سلمان شوكن، وهو الناشر الألماني لكتب كافكا. ونظراً لقيمته المادية والرمزية الكبيرة، قرَّر الناشر أن يخفي هذا الأرشيف الجزئي العائد والغالي القيمة في خزنة من حديد في أحد الأبناك في سويسرا. وهنا ستتدخّل عائلة هوف بواسطة أستاذ متخصّص في الثقافة الألمانيّة لتطالب باسترجاع الأرشيف وسيتم نقله إلى أوكسفورد، وهو ما يفسِّر أن أرشيف كافكا مازال موزعاً إلى غاية اليوم بين ثلاث دول هي ألمانيا (أرشيف مارباخ Marbach)، وإنجلترا (مكتبة بودليان Bodleian في أوكسفورد)، وإسرائيل.
تفاصيل المحاكمة
من أهمّ ما كشفه كتاب بالينت هو أن حكومة إسرائيل لم تعر أي اهتمام لأرشيف كافكا طيلة حوالي 40 عاماً، بل إنها لم تبدِ أي اهتمام بالموضوع حتى عندما قامت إيستر هوف ببيع أجزاء منه في المزاد العلني، والذي كانت تحتفظ به في بيتها في «تل أبيب» في نفس منزل ماكس برود. وكان الأرشيف مهملاً بشكل كبير، بحيث كانت تلعب فوقه القطط، كما أن بعضه تعرَّض للسرقة. وكان الخبراء يقدرون قيمته بملايين الدولارات في بداية الألفية الحالية. في العام 2009 فقط ستقرّر حكومة تل أبيب أن تتحرَّك بسرعةٍ مباشرة بعد قيام إيستر هوف بكتابة وصية تسمح لابنتيها بأن ترثا الأرشيف. حيث قامت «المكتبة الوطنيّة لإسرائيل» برفع دعوى قضائية لاسترجاع الأرشيف ووكلت للدفاع عنها المحامي مايير هيلر الشهير بفصاحته، والذي سيقول خلال إحدى مرافعاته ذات النبرة السياسيّة القوية ذات الدلالة: «مثل العديد من اليهود الآخرين الذين ساهموا في الحضارة الغربية، نحن نعتقد أن إرث كافكا ومخطوطاته ينبغي أن توضع هنا في الدولة اليهودية».
من جهتها، قرّرت مؤسّسة مارباخ للأرشيف الأدبيّ الألمانيّ، إحدى أهمّ المؤسَّسات المُتخصّصة في العالم، أن تطالب أيضاً باسترجاع هذا الأرشيف. وكانت قد دخلت بموازاة ذلك في مفاوضات مع عائلة هوف لشراء منزل ماكس برود نفسه لتحويله إلى متحف. وهكذا استمرَّت القضية معروضة على المحاكم الإسرائيليّة في جلسات عديدة على مدى سنوات. وتوجت في 2016 بقرار نهائي للمحكمة العليا اعتبر أن الأرشيف يعود إلى ملكية دولة إسرائيل ولم يتم تقديم أي تعويض لعائلة هوف. وقد توفيت «إيفا» بعد صدور الحكم بمدة قصيرة في 2018. وفي 2019، قامت ألمانيا بتسليم المكتبة الإسرائيليّة مخطوطات لكافكا كانت مسروقة على ما يبدو. كما تسلَّمت المكتبة من بنك UBS في سويسرا ما كان يحتويه صندوق حديدي يضم أرشيفاً مماثلاً.
علاقة كافكا «المُبهمة» مع إسرائيل والنساء
يرى عالم الاجتماع الألماني اليهودي الشهير تيودور أدورنو أن كافكا «لم يكن شاعراً لأرض اليهود» وهي استعارة تعني أن كافكا لم يكن من المؤيّدين لفكرة إقامة أرض لليهود في فلسطين إلى درجة أن يكتب شعراً يمدح ويحلم بهذا الأفق. فعكس صديقه برود الذي هاجر إلى إسرائيل واستقرَّ بها، كان كافكا غير مقتنع بمشروع إقامة دولة إسرائيل، ولم يهاجر إليها، على الرغم من ذكر بعض المصادر أنه كان يخطط لذلك. كما أن علاقته بأصوله وبثقافته اليهوديّة تبقى «مُبهَمة» حسب العديد من المختصين. بحيث إنه كان متشبثاً بها، وحريصاً على دراستها بعمق، وخاصّة مسرح الييديش، وهي لهجة خاصّة تكلمها اليهود منذ القدم في ألمانيا وفي أوروبا الشرقيّة. وقد كتب كافكا صفحات طويلة في يومياته عن مسرح وقصص الييديش، وعن التصوُّف واللاعقلانية في هذا التراث. وكان حسب بنيامين بالينت معجباً بهذا المسرح، و «متأثّراً بصدقه وقوة نبرته، وبدرجة السخرية في لغته التي كان يتحاور ويتصادم فيها ما هو عالي القيمة مع ما هو متواضع، والمكتوب مع العامي». وعلى الرغم من هذا الاهتمام، ظلّ كافكا يحتفظ بمسافة وجودية وعبثية إلى حدٍّ ما مع أصوله، وهي ميزة أساسيّة في كتاباته. فكان يطرح أفكاراً ذات نبرة متهكمة حول معاني ودلالات علاقته بإسرائيل، بل وحتى باليهود، حيث يتساءل في يومياته: «ما هي العلاقة التي تجمعني باليهود؟» فيجيب قائلاً: «أنا ليست لديّ بالكاد علاقة حتى بنفسي». هذه التساؤلات حول الوجود والعلاقة التي تربطه بواقعه وبالإنسانيّة عموماً جعلت البعض يعتبر كافكا كاتباً كونياً وإنسانياً أكثر منه كاتباً يهودياً إسرائيليّاً. ويرى بالينت أن هذه العلاقة المُبهَمة بإسرائيل تشبه علاقته بالنساء اللواتي تعرف على الكثير منهن دون أن يرتبط رسمياً أو يتزوج نظراً لميله إلى الفردانية الشديدة والإنعزال. ويقول بالينت في هذا الصدد إن كافكا كان يحب النساء، ولكن عن بعد، حيث يكتب: «إن تناقض وتردُّد كافكا في ما يخص الصهيونيّة ليس غريباً عن تعقُّد علاقته مع «فيليس بوير» (خطيبته) والنساء الأخريات، فهو كان يحبهن جميعاً، ولكن دائماً من بعيد».
في رواية «المحاكمة» يتعرَّض البطل واسمه اسمه «ك» للاعتقال ذات يوم في الصباح ويقدَّم للمحاكمة بتهمة ارتكابه لخطأ يجهل حتى طبيعته، ثم يتولَّى محاكمته قضاة لا يراهم أبداً، وذلك تطبيقاً لقوانين لا يعرفها «ك»، بل لا يريد أي أحد أن يشرحها له. هذه الأجواء تلخصها أيضاً إحدى شخصيّات الرواية عندما تقول: «إن مَنْ يتعرَّض لمثل هذه المحاكمة محكوم عليه مسبقاً بأن يخسرها». إنها قولة تجسد إحدى الخلاصات الأساسيّة لرواية عن عبثية الحياة كما يراها كافكا. وقد يكون هذا هو ما وقع في النهاية لعائلة هوف في محاكمة الأرشيف، بحيث إنها خسرت الدعوى، وخسرت إرثاً تاريخياً ارتبط باسمها مئة عام. لكن هل ستكون هذه القضية هي فعلاً «المحاكمة الأخيرة لكافكا»، كما يقول عنوان الكتاب؟ أم أن إسرائيل يمكن أن تطالب مستقبلاً بملكية الأجزاء المتبقية من أرشيف كافكا في إنجلترا وألمانيا؟ يبقى هذا أمراً محتملاً ووارداً بحسب منطق الصهيونيّة واستراتيجية الدفاع التي تبناها محامي المكتبة الإسرائيليّة نفسه. ووفق المنطق نفسه أيضاً، يمكن أن تطالب إسرائيل باسترجاع أرشيف أي كاتب عبر العالم له أصول يهوديّة حتى إذا لم يكن يؤمن بالدولة الإسرائيليّة
الكاتب: محمد مستعد (المغرب(
*بنيامين بالينت: كاتب في الأربعينات من العمر، ومن الأسماء الصاعدة في دراسات الإنسانيات متخصّص في العلاقات الثقافيّة الأميركيّة-اليهوديّة. وُلد في الولايات المتَّحدة ويحمل الجنسيتين الأميركية والإسرائيليّة. يكتب بالإنجليزية والعبرية في كبار الصحف العالميّة مثل «وول ستريت جورنال» و«دي تزايت» و«هآرتز». كما أنه عضو باحث في «معهد فان لير» the Van Leer Institute المُتخصّص في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة في القدس التي يعيش فيها. من بين مؤلَّفاته كتاب مشترك مع «ميراف ماك» يحمل عنوان: «القدس: مدينة الكتاب» ويبحث في التاريخ القديم والحديث للمكتبات الخفية في القدس وكنوزها من خلال ما تجسّده من مرجعيات سكّانها وثقافاتها المنتمية إلى الديانات السماويّة الثلاث. وله أيضاً كتاب بعنوان «كومنتري: المجلّة المثيرة للجدل التي حوَّلت اليهود اليساريين إلى محافظين جدد». ويتناول فيه مسارات جيل من الأدباء والمُفكِّرين الأميركيين ذوي الأصول اليهودية مثل فيليب روث، وجيمس بالدوين وهانه أرندت… الذين برزوا في مجلّة «كومنتري» وتحلَّقوا حولها وكانوا متعاطفين سياسيّاً مع اليسار، لكن المجلّة تحوَّلت مع مرور السنوات إلى ناطقة باسم اليمين المُحافِظ.