«البرفورمانس» والنصّ المتحرّك

| 26 مايو 2021 |
هل أصبح الكَاتِب والشاعِر والمُفكِّر منشّطين تليفزيونيّين؟ ذاك هو السؤال المطروح منذ غلبةِ التليفزيون على الساحة الثقافيّة العالميّة، ومنذ توليّ فضاءات التواصل الاجتماعيّ إسناد التليفزيون في صناعة النجوميّة، قبل منافسته في صناعة القيمة.
كان مجتمعُ الفرجة يَبْرِي مخالبَهُ أيّامَ «غي ديبور وبورديو» في القرن العشرين، أمّا في بداية القرن الموالي، وخاصّة مع استعداد العالم للانخراط في «مرحلة ما بعد الكوفيد»، فقد باتت الفرجة «التباعديّة» هي القاعدة. وعليك أن تصنع الفرجة بنفسك إذا أردت أن «تصل».
من ثَمَّ ظلَّ لكُتَّابٍ كثيرين حضورٌ في الفضائيّات وعلى صفحات التواصل الاجتماعيّ، إلّا أن «حضورهم» كان في الغالب على حساب كُتبهم. وماذا يفعلون بالكتاب؟ «ليس في وسع كتابٍ في الطبخ أن يطفئ جوعك» هكذا يقول لك يوشيكاوا في «الحجر والسيف».
المُهمّ في نظر المسؤولين عن المشهد قدرة الكاتِب على صناعة الحدث وليس كتابه. «الاهتمام بكاتبٍ لِإعجابِنا بكتابِه كالاهتمام بحياة وَزّةٍ لإعجابنا بكبِدِها المُسَمّن»، هكذا يقول لك «غيّوم ميسو» في «طفلة الورق».
من مقتضيات الفرجة أن يتوفّر قدرٌ متصاعد من التشويق والإثارة والخصومات الدمويّة. بتلك الطريقة تمّت التضحية بالكثير من ألعاب القوى وتربّع الفوتبول على المشهد، وتفانى «المُعلّقون» في تعميم مُعجَم حربيّ ترتعد له الفرائص: أجهزوا عليهم أيّها الأبطال! نريد مقاتلين! يا لها من هزيمة شنيعة! لابدّ من الثأر!
حتى سباق الدرّاجات في تجلّياته الكبرى (طواف فرنسا أو إسبانيا أو إيطاليا) باتَ مسارُهُ مُحدّداً ومرسوماً بالشكل الذي يتيح انزلاقات بشعة وحوادث قاتلة أحياناً. كلّ ذلك طبعاً في سياق خطاب منافق مُضمّخ بعبارات أفرغت من كلّ معنى مثل الروح الرياضيّة وغيرها من الشعارات التي لم يعد يصدّقها أحد.
أصبح المُستثمرون في الإعلام والنشر يحدّدون «الرياضة» أو «الفن» الناجح والذي يستحق الحضور في الإعلام: ولا يمكن إفساح المجال طبعاً لخطاب «عميق» أو «نكديّ»، بل لابدّ من لعبة «مشهّية» ولاعبين ماهرين في الفضيحة والإثارة المبنيّة على مخاطبة الغرائز.
لقد أتيح لي على مرّ السنوات أن أشارك في العديد من التظاهرات الثقافيّة، خاصّةً في أوروبا وفي أميركا الجنوبيّة، ولاحظتُ أنّ الوضع لم يعد حكراً على لاعبي الفوتبول أو نجوم «الشوبيز»، بل صار ينطبق على الكُتَّاب وطال حتى المُفكِّرين والشعراء.
لقد سرت هذه العدوى الفرجويّة والمشهديّة والمنبريّة إلى الشعر العالميّ بسبب إغراءات «الميديا» وبسبب بحث الناشرين عن «رواج» منشوراتهم من خلال رواج كُتّابهم. بتحفيز من هؤلاء الناشرين انخرط شعراء كثيرون في البحث عن «الضجّة» أو الـ Buzz.

لقد لاحظت من خلال مشاركاتي في هذه المهرجانات حرصاً كبيراً على صناعةِ نجوميّة نوع جديد من الشعراء بتحفيز من الناشرين وإقبال من الجمهور، أُطلِقَ عليهم اسم «شعراء البرفورمانس»، فهذا يقرأ نصّه من «قرطاس»، والآخر يلقي قصيدته لاعباً بثعبان، والثالث يخلط بين الإلقاء والغناء والصراخ الهستيريّ!!
ليس من شكّ في أنّنا نعيش مرحلة «الميديا» و«الملتي ميديا» والرقميّات و«الحقيقة المُدمَجة». ولا ضير في أن ينفتح الشاعر على تقنيات زمانه، بل لعَلّ من واجبه ذلك. شرْط أن يكون كلّ ذلك خدمةً للنصّ الشعريّ لا «تمويهاً» وشعوذة للتستّر على ضعف النصّ أو رداءته.
استجابت «الميديا» فإذا هي تُشرع أبوابها أمام ظواهر مثل الـ Slam الذي اكتشفه الغرب في ثمانينيّات القرن العشرين بينما عرفناه نحن قبل قرون في هيئة «القوّال» أو «آلأديب» أو «الغنّاي»، والمُعارضات الشعريّة حامية الوطيس التي كانت تحفل بها الأعراس في بوادينا وأريافنا والتي تُرجمت اليوم إلى «مبارزات شعريّة».
لقد اعتدنا أن نرى الشعراء يختفون وراء قصائدهم لأنّهم يعتبرونها وحدَها الجديرة بالحضور، ولا يريدون التشويش على حضورها بحركة أو مظهر يغلب عليهم. إلّا أنّ الأمر تغيّر، وبتنا أمام قصائد تختفي وراء شعرائها لأنّها تحتاج إليهم كي تقف على قدميها.
ثمَّة أكثر فأكثر شعراء يعوّضون عن ضعف النصّ بحضورهم الإعلاميّ أو المنبريّ. يصنعون الحدث بأشياء من «خارج الشعر» فإذا قصائدهم تُقرأ من باب الفضول. أو ينخرطون في حقل شبيه بحقل «الستاند آب» وأحياناً «مسرح الممثّل الواحد».
هكذا أصبح الشأن بالنسبة إلى حضور الشعراء في فضاءات الإعلام. فالغلبة، مع احترام الاستثناءات، للشعراء الذين «يُمسرحون» حضورهم ويفتعلون المعارك ويتصنَّعون الضحك والتهريج ويعوّلون على أشياء من خارج القصيدة للمُشاركة في «البلاتوهات» كي يعتبرهم التليفزيون «زبائن» جيّدين.
هؤلاء هم شعراء الميديا و«البرفورمانس»، وهؤلاء هم المعنيّون بسؤالنا حين نراهم «يسكنون» بلاتوهات التليفزيون، محوّلين الكتابة والجدل الفكري والمُغامرة الفنّية إلى نوع من «التنشيط» التليفزيونيّ أو الإعلامي المحكوم بقواعد التسلية والترفيه.
علينا أن نشيد طبْعاً بشعراء «النصّ» الذين يشتغلون على نصوصهم، ثمّ لا يضيرهم بعد ذلك أن يشتغلوا على إلقائها أو «أدائها الركحيّ» الذي يدخل على النصّ «حركة» أو يعيد المُصالحة مع «الشفهيّ» أو يرتقي بالنصّ إلى مرتبة الكوريغرافيا أو «الفرجة الشاملة».
هؤلاء لا يفسدون للشعر قضيّة، بل يسندون المُغامرة ويَمُدّون الإبداع بجمهور جديد.
لقد تابعتُ بإعجاب كبير بعض التجارب في هذا السياق، وأتيح لي أن أرى نماذج من هؤلاء الشعراء الجدد، في فرنسا تحديداً، مثل «سيسيل كولون» و«روبي كور» اللتين قرأتا أشعارهما في عشرات المكتبات والفضاءات الثقافيّة وكسبتا بذلك الكثيرين إلى الشعر والكتاب والبحث.
إنّهما تكتبان شعراً متحرّراً، مُحرّراً، في لغة الحياة اليوميّة البسيطة، بسرديّة محسوبة، متخلّصة من إكراهات الوزن والبلاغة، نابعة من سيرة الشاعر الذاتيّة، بما تعنيه من تجارب وخبرات ولقاءات ومعرفة، عن طريق لوحات ومشاهد تعبّر عن المعيش، وتعيد تفكيكه وتركيبه لإنتاج أحاسيس وانفعالات، قريباً من أجواء الشعراء الأميركيين «شارل بوكوفسكي» و«ريمون كارفر».
لكن ماذا عن الشعر العربيّ.
الشعر إقامة في العالم. وليس من السهل أن تقيم في عالم اليوم من دون أن يؤثِّر فيك هذا العالم. لذلك يمكن الانتباه إلى وجود متزايد لشعر «البوفورمانس»، دون أن يكون ذلك بالضرورة على حسابِ شعرِ «النصّ المتحرّك» أو النصّ «الكوريغرافي».
لقد عرف الشعر العربيّ في مراحله القديمة الكثير من هذه الظواهر. وقد يكون من طبيعة الإبداع أن يُجدّد بعضَ قديمه ويذهب به إلى حيث لم يذهب، بعيداً عن التكرار والاتّباع. إلّا أنّ في هذه الظواهر ما أحسنّا فعلاً بتجاوزه، ومن ذلك ما يُصاحبها من صنعة وافتعال وتستُّر على هشاشة النصّ بنوع من البهارات الفرجويّة والشعوذة المنبريّة.
لقد صالحت هذه التقنيات الحديثة من جديد بين الجسد والنصّ وأعادت الشاعر أو الكاتب إلى مقدّمة المشهد بعد أن تراجعت به ثقافة العين إلى ما وراء الصورة، كما ردمت هذه التقنيات الفجوة الفاغرة بين المقروء والمسموع. ولعلّها في الطريق إلى المزيد من ذلك.