الثقافة الإسلاميّّة.. خصوصيّة وعالميّة ترسَّخت في مجرى التاريخ

محمد أيت حمو  |  26 أبريل 2021  |  

إنّ القضية التي نصدر عنها وننتصر لها هنا تتمثَّل في أن التعايش بين الثقافات الإنسانيّة هو طوق النجاة المُنقذ و«خشبة الخلاص» الوحيدة من طبول الحرب التي يدقها أصحاب النهايات (نهاية التاريخ، نهاية الأيديولوجيا، نهاية الفلسفة، نهاية الإنسان، صراع الحضارات،). وإذا كانت الحرب بين الثقافات هي ميزة عصور التخلُّف والانحطاط والانعزال والتقوقع والانسداد الكبير. فإنّ التواصل بين الثقافات و«العيش المُشترك»، هو ميزة عصور الرقي والتقدُّم والمدنيّة والبناء، وأيام «العز والصولة».

ماذا نقصد بالثقافة الإسلاميّّة أولاً؟ يجيبنا أحد الباحثين قائلاً: «الثقافة الإسلاميّّة أو الثقافة من حيث نسبتها إلى المُجتمع الإسلاميّ […] هي مجموع النسيج الحضاريّ الشموليّ الذي قوامه الدين الإسلاميّ: لا من حيث هو عقيدة وشريعة فحسب، بل من حيث هو حضارة وفعل إنسانيّ تضافَرَ في إبداعه مجموع الشعوب التي التقى بها الإسلام عن طريق الفتح، والتجارة والاتصال، وعن طريق الترجمة والآداب والحِكم المُقتبَسة (ذلك هو الشأن في الأثر اليونانيّ خاصة، وفي الأثر الذي يتفاعل معه عامة). ومن هذه الجهة فقد اغتنت الثقافة الإسلاميّّة بكلّ المُكوِّنات التي كانت قاعدة لها (وهذه هي العربيّة وما تعلَّق بها، علوم كان الإسلام نفسه سبباً في تقعيدها وتنظيمها أولاً وفي تطويرها ثانياً)، ثمَّ اغتنت بعد ذلك بما أدركته من آداب الفرس والرومان والكلدانيّين، وبما اقتدرت على استيعابه من الأثر الإغريقيّ (مع غِناه وتعدُّده)، ثمَّ من هذه الجهة أيضاً، أمكن للثقافة العربيّة الإسلاميّّة في أبعادها الكثيرة هذه أن تسهم في بناء الصرح الحضاريّ الإنسانيّ، وأن تعمل على حفظها من الضياع أولاً (في مراحل الهمجيّة والعنف)، ثمَّ أن تسعى إلى تطويرها وحثها على العطاء الجديد (العلوم العربيّة الإسلاميّّة، العلوم «الدقيقة»، الفلسفة الإسلاميّّة، الفكر الاجتماعيّ والسياسيّ عند كبار مفكِّري الإسلام…). وبالجملة فنحن نقصد بالثقافة الإسلاميّّة الثقافة في دلالتها الأنثروبولوجيّة الفسيحة من جانب أول، ونقصد بها تلك الثقافة من حيث كونها سمةً للمُجتمع الإسلاميّ «المفتوح»، وبالتالي فهي الثقافة وقد كانت انفتاحاً على «الآخر» وقبولاً له (مع الوعي بالاستقلال الروحي والتمايُز الحضاري، وهي الثقافة وقد كانت اتجاهاً نحو المُستقبل وقبولاً له وإقبالاً عليه»(1). وقد خصَّص سعيد بنسعيد العلوي الفصل الأول من كتاب (أوروبا في مرآة الرحلة) للحديث عن «الآخر» بالنسبة للثقافات الإنسانيّة، قائلاً: «تحمل كلّ الثقافات والحضارات الإنسانيّة المُختلفة صورةً ما لـ«الآخر». و«الآخر» هو كلُّ ما ترى «الذات» أنه مخالف لها أو مختلف عنها… الآخر إذن هو ذاك الذي تقضي الذات بمخالفته لها وتحكم باختلافه عنها في نظم الحياة كلّها: في العادات، والتقاليد، والأذواق، واللسان، والدين… يؤول الأمر في رسم صورة «الآخر»، وفي تعيين دلالته ومعناه، إلى الثقافة التي يكون إليها انتماء «الأنا» أو «الذات» التي تتحدَّث عن الغير المخالف»(2). فالغرب الأوروبيّ والغرب الأميركيّ هو الذي يشكِّل الآخر للثقافة الإسلاميّّة، وليس الآسيويّين أو الأفارقة من البلدان غير العربيّة. «الآخر» في الوعي الثقافيّ العربيّ الإسلاميّ، لا يخرج عن «الغرب»: فهو الغرب الأوروبيّ تارةً أولى، وهو الغرب الأميركيّ تارةً ثانية»(3).

وبناءً على هذا التحديد، فالقاعدة أو القانون الذي يحكم الثقافة الإسلاميّّة المُركَّبة المُتعدِّدة العناصر هو قانون التعايش المُشترك والتواصل والانفتاح والتمدن والتفاعل والتلاقح والتسامح والحوار الإيجابيّ مع الثقافات الأخرى المُخالفة والمُغايرة لها قديماً وحديثاً، لها خصوصياتها وملامحها وقيمها ومقوِّماتها الحضاريّة والتاريخيّة التي تجعلها غير قابلة للسيطرة والهيمنة والاتباع والذوبان في الثقافات الأخرى المُخالفة. فقد أنتجت الثقافة الإسلاميّّة بكلِّ حرّيّة نظامها القيميّ ورأسمالها الرمزيّ الخاص بمجتمعاتها، وتبنَّت القيم الأخلاقيّة والدينيّة والثقافيّة المُلائمة لها دون اضطرار لتقليد الآخرين أو الانطلاق من حداثتهم لبناء حداثتها الخاصة. فهي رؤية للعَالَم ونمط للعيش ونظام للقيم، متجذِّر في التاريخ البعيد والجغرافيا الصلبة، تتميَّز بالتمثل والهضم والاستيعاب الإيجابيّ للثقافات الأخرى بروح الحوار وآداب البحث، مع الخلق والإبداع والإضافة من موقع الندية والتوازن والحوار المُتكافئ بأسلوب الحجاج والمُناظرة وطلب الاقتناع والحرص على البرهنة، بعيداً عن أجواء الخضوع لأحكام «العجز والضرورة»، كما يقول الفقهاء. و«لابد من الانتباه إذن، إلى أن خصوصيّة العَالَم العربيّ الإسلاميّ المُعاصِر لا زالت تشهد نوعاً من التفاعل بين ماضي وشعوب ذلك الماضي وحاضرها المعيش. ممّا يفرض القول أن كلَّ تأمُّل في حاضر هذه الشعوب وتطلع نحو إصلاح مستقبلها يستوجب استحضار ذلك الماضي بما يمثله من قيم ومقاصد وتصوُّرات للحياة ترسَّخت في مجرى التاريخ، وذلك لأجل إعادة تمثل بعضها وتوظيفه بما يسمح بذلك الإصلاح المنشود، أو لأجل إبداء رؤى نقديّة تجاه بعضها الآخر، فيصير هذا النقد المُعاصِر لبعض تلك التصوُّرات والمفاهيم نقداً ضمنيّاً للواقع المعيش الذي يتفاعل مع تراثه»(4).

فالعلاقة بين الثقافة الإسلاميّّة والثقافات المُخالفة المُختلفة لا تخلو من الصلات الاستلزاميّة بين الأنا والآخر و«سريان» الخصوصيّ في العموميّ جنباً إلى جنب مع «سريان» العموميّ في الخصوصيّ في المُجتمع الإسلاميّ، الذي نقصد به «الوجود الحضاريّ والثقافيّ لجملة من الشعوب والأقوام والمُكوِّنات الثقافيّة واللسانيّة والإقليميّة تلتقي عند انتسابها إلى الدين الإسلاميّ من جهتي العقيدة والشريعة، دون أن تنفي مَنْ كان على غير المِلة الإسلاميّّة (وهذا هو الشأن في العرب المسيحيّين تخصيصاً). هذا المُجتمع يخضع بـ«الضرورة» لحتميات التاريخ والحضارة ويعرض له ما يعرض للمُجتمعات الإنسانيّة كلّها، وتلك سُنَّة الله في الخلق»(5). فدراسة «الخصوصيّة» في الثقافة الإسلاميّّة دون الالتفات إلى «الكونيّة»، أو دراسة «الكونيّة» فيها دون الالتفات إلى «الخصوصيّة»، لهي تجريد للازم من ملزومه، وذلك اقتناعاً منّا بأن كلّ دراسة تجهل أو تتجاهل هذه الصلات الاستلزاميّة بين الأصيل والدخيل، والمحليّ والكونيّ والخاص والعام في الثقافة الإسلاميّّة، ولا تومئ من قريب أو بعيد إلى الخصوصيّ ككونيّ، والكونيّ كخصوصيّ، ستظلُّ دراسةً ناقصة وقاصرة، إن لم نقل عرجاء وبتراء. وبالجملة، لا ينبغي التفاضل بين الثقافات، والانتصار لثقافة على أخرى، والانفصال عن «الرؤية التوحيديّة للثقافات» بالانغلاق داخل ثقافة واحدة، وكأنها جزر معزولة عن ثقافات أخرى مجاورة لها ومتداخلة معها بشكلٍ أو بآخر، لدرجة يمكن القول معها بأن كلّ ثقافة تدين في حيويتها وابتكاريتها إلى الثقافات المُخالفة والمُتغايرة معها. فلا بد من الانتباه بما فيه الكفاية إلى أهمِّية التواصل والدور الإيجابيّ للتعايش بين الثقافة الإسلاميّّة والثقافات الأخرى، وذلك بغية تقييم مفهوم الثقافة الإسلاميّّة التعدُّدية والدياليكتيكيّة. فالاعتراف بالخصوصيّة هو ألفباء الوصول إلى الكونيّة بالنسبة للثقافة الإسلاميّّة، ولكلّ الثقافات الأخرى التي تحتكُّ في ما بينها وتغترف من معين بعضها البعض، ممّا يجعل كلّ ثقافة خاصة ثمرةً للفعل والانفعال مع الثقافات الأخرى التي تشكِّل «أغياراً» متنوِّعة الكيف لها، وفي مقدِّمتها الثقافة الإسلاميّّة التي استوعبت كلّ الثقافات واللُّغات والأعراف والحضارات، والتجارب الإنسانيّة وأنماط التمدن الإنسانيّ. «فأما «الغير» فهو حسب إفادة علم الكلام ودلالة اللّغة العربيّة «المُخالف» في الدين والثقافة والحضارة، وليس «المُختلف» فقط، إنه النقيض أو «الآخر» -كما نقول في لغتنا المُعاصِرة-، و«الآخر» هو ذاك الذي نراه ضداً لنا، ونجد أن صورتنا تتحدَّد من حيث إنها نقيضه. فنظرنا إليه هو نظرنا لما نرى أنه غير الذات، والنحو الذي يتمُّ به إدراكنا له هو، في حقيقة الأمر وعي بوجودنا الذاتيّ وإدراك له»(6).

إنّ العلاقة بين الثقافة الإسلاميّّة والثقافات الأخرى علاقة أخذ وعطاء، وإذا كان التفاعل بين العروق يولِّد عناصر جديدة وفعَّالة من الناحية البيولوجيّة والاجتماعيّة، لدرجة أنه حتى الفلّاح في مزرعته يعرف هذه الحقيقة فيستورد الثيران الفحلة الفتية ليحسِّن نسل أبقاره، ويعرض عن المرضى العجاف الضعاف من الثيران المحليّة. فإنه قد تجدر الإشارة إلى أن الثيران الفحلة الفتية التي تحسِّن نسل أبقارنا قد تكون محلّيّة أيضاً، بينما قد تكون الثيران الخارجية من طينة المرضى العجاف الضعاف التي يجب الإعراض عن استيرادها بين حينٍ وآخر. وإن دلَّ هذا على شيء، فإنما يدلُّ بوضوح على أنه لا ينبغي الحط من شأن الأنا مقابل الإعلاء من شأن الآخر، أو نقد الأنا دون الآخر حتى لا نرجِّح كفة الآخر على الأنا فنفقد التوازن والتكامل ونرتطم أرضاً. وكان «الخير كلّه يأتي من الآخر […] والشر كلّه يأتي من الأنا […] فنقع في الأحكام المُطلقة: الخير كلّه من الغير، والشر كلّه من النفس»(7). ذلك أن الدفاع عن الخصوصيّة لا ينطوي على أي مظهر من مظاهر الدونية، كما قد توهم الثقافة الغربيّة التي تحاول الهيمنة عندما تنعت الثقافة الإسلاميّّة بأوصاف قدحية تندرج ضمن قاموس السباب والشتم لمُحاصرة الخصم. «وأصبح كلّ مَنْ يدافع عن الخصوصيّة والأصالة والهويّة الثقافيّة والاستقلال الحضاريّ رجعيّاً ظلاميّاً أصوليّاً إرهابيّاً متخلِّفاً ماضويّاً سلفيّاً […] ويتمُّ تخطيط كلّ شيء بحيث يختفي الخاص لصالح العام الذي كان في بدايته خاصاً ثمَّ أصبح عاماً بفعل القوة»(8). فالثقافة لا يمكنها إلّا أن تكون خاصة في أصلها وبدايتها وانطلاقها. وأمّا الثقافة العالميّة فهي «أسطورة لا وجود لها، خلقتها أجهزة الإعلام الغربيّة حتى يتمَّ تطويع الخارجين على سلطان الغرب. الثقافة تنبع من الهويّة الثقافيّة وليس من التغريب الثقافيّ، والنخبة لا تكون إلّا وطنيّة تعبِّر عن رؤية حضارتها الخاصة، ولا توجد نخبة عالميّة إلّا نخبة الارتزاق»(9). فالمُفكِّر المصريّ «حسن حنفي» يحكم بالخصوصيّة على كلّ الحضارات الإنسانيّة بما فيها الحضارة الغربيّة ذاتها، حيث يقول أيضاً: «إن العلاقة بين الأنا والآخر ليست علاقة بين الخصوصيّة والعالميّة وإلّا أعطينا أنفسنا أَقلّ ممّا نستحق، وأعطينا الآخر أكثر ممّا يستحق. فكلّ حضارة خاصة ولا توجد حضارة عامة تمثل الحضارات جميعاً، وإن تراكم الإبداعات البشريّة في آخر مرحلة من مراحل تطوُّر البشريّة في الغرب الحديث لا يجعل باقي الحضارات تُصاب بالدوار وبفقدان التوازن، لأن لها في هذا التراكم دوراً سابقاً وإسهاماً تاريخيّاً غير منظور. وإن علوم الصين والهند وفارس وحضارات ما بين النهرين، وكنعان ومصر القديمة والإسلام، لهي أحد المُكوِّنات التاريخيّة والروافد العلميّة للغرب الحديث»(10). ولذلك ينبغي تصحيح المفاهيم، وتوضيح معنى الخصوصيّة حتى لا تستأسد أو تتنمَّر عليها العالميّة التي تخفي ماضيها الخاص. «تعني الخصوصيّة البداية بالأنا قبل الآخر، وبالقريب قبل البعيد، وبالموروث قبل الوافد […] تعني الخصوصيّة أدبيّاً، البداية بالجذور قبل الثمار، وبالجذع قبل الأوراق، وبالطين قبل الماء، وبالأرض قبل السماء»(11).

وتبعاً لذلك، فالثقافة الإسلاميّّة لا تلغي الآخر، بل تعترف به وتتعامل معه، كما ينبهنا إلى ذلك «ابن رشد» بقوله: «فالمذاهب في العَالَم ليست تتباعد كلّ التباعد حتى يكفر بعضها ولا يكفر، فإن الآراء التي شأنها هذا يجب أن تكون في الغاية من التباعد، أعني أن تكون متقابلة»(12). وإن دلَّ هذا على شيء، فإنما يدلُّ على أن الثقافة الإسلاميّّة تقدِّم درساً مفيداً في التعايش الفكريّ والدينيّ والسياسيّ، والعناية بالعلوم الفلسفيّة، ومجالس المُناظرة والتحاجج، وصقل الآراء، والأخذ والاقتباس عن «آداب الحكماء اليونانيّين»، ومقابلة المعارف وإظهار الحقّ بالتي هي أحسن، بعيداً عن التعصب والأهواء والأطماع، فالإنسان المُتدين الحقيقيّ هو الذي يرتفع عن العصبيات. «وهكذا فالتسامح واعتماد التي هي أحسن وأيسر واجتناب الغلو والتطرُّف والتعصب… كلّ ذلك يعطي لحق الاختلاف مضمونه الإيجابيّ البنَّاء الذي يقي الناس الفتنة والاقتتال وينمي التنوُّع السليم، مصدر الخصوبة والإبداع»(13).

ولذلك نعلن جهاراً أن الثقافة الإسلاميّّة ثقافة مرنة وخصبة، ترفض الخضوع لأي وصاية أو حجر، اغتنت بالسؤال والنقاش، ورفضت الاعتقادات الدوغمائيّة اليابسة والمُتحجرة والمُتكلسة، لم تنشئ محاكم التفتيش، ولم تضطهد العلماء والمُفكِّرين، بل رحَّبت بالعلماء ونالتهم الحظوة. وقد نظرت الثقافة الإسلاميّّة قديماً بعينين متكاملتين: العين الإسلاميّّة والعين اليونانيّة، واغترفت من معينين أو مثابتين: مثابة المِلة ومثابة الحكمة، فتآلف النقل مع العقل، وأثبت «الشارح الأكبر» لأرسطو كما سمَّاه اللاتين، شرعية الفلسفة باللجوء إلى الخطاب الفقهيّ الأصوليّ، وبذلك تأصَّلت الفلسفة في الثقافة الإسلاميّّة، وتمَّت إزاحة العلاقة المُتوترة بين علوم الأنا وعلوم الآخر، وخرج الإنسان من الحجر إلى الرشد. ولابد من استئناف السير في هذا الطريق الآن والهنا من خلال الاتصال بآفاقٍ أخرى في عالمنا الأوسع والأرحب والمُتغيِّر، والاستفادة من منجزات العصر، ومكتسبات الحداثة بالمُساهمة في إكمال مشروعها وتتميمه. لأن الثقافة الإسلاميّّة هي ثقافة عالميّة في كلياتها ومبادئها أو اتجاهاتها العامة، تنحو من خلال تفاعلها، وتأثيرها وتأثرها، وفعلها وانفعالها نحو الكمال الإنسانيّ «إنّ ما نعنيه بالتأصيل الثقافيّ لحقوق الإنسان في فكرنا العربيّ المُعاصِر هو إيقاظ الوعي بعالميّة حقوق الإنسان داخل ثقافتنا، وذلك بإبراز عالميّة الأسس النظريّة التي تقوم عليها والتي لا تختلف جوهرياً عن الأسس التي قامت عليها حقوق الإنسان في الثقافة الغربيّة. ومن هنا يبرز الطابع العالميّ – الشموليّ، الكليّ، المُطلق لحقوق الإنسان من داخل الخصوصيّة الثقافيّة نفسها، ويتأكَّد مرّة أخرى أن الخصوصيّة والعالميّة ليستا على طرفي نقيض، بل بالعكس، هما متداخلتان متضايفتان، في كلّ «خاص» شيء ما من «العام»، كما أن «العام» ليس كذلك إلّا لكونه يضمُّ ما هو «عام» في كلّ نوعٍ من أنواع «الخاص»(14). وهكذا نلاحظ بأن العلاقة بين الخاص والعام هي علاقة التناغم وليست علاقة التوتر والتنازع. وإذا كانت الخصوصيّة والعالميّة تتفقان على «كلمة سواء»، فإن ما يستدعي التنبيه عليه هو السياسة الغربيّة التي تكيل بأكثر من مكيال في تعاملها مع الدول والأنظمة السياسيّة المُستبدة والمُعادية لحقوق الإنسان. «بمعنى أن حقوق الإنسان أصبحت تُستخدَم اليوم كلافتة أيديولوجيّة من أجل تصفية الأنظمة السياسيّة المُزعجة للغرب بحجة أنها معادية لحقوق الإنسان والسكوت عن أنظمة أخرى لا تقلُّ عنها عداءً ولكنها «صديقة» للغرب. لقد فقدت «حقوق الإنسان» براءتها الأولى عندما أعلنت لأول مرّة في أثناء الثورة الفرنسيّة. وبدلاً من أن تُوظَّف لخدمة حقوق الإنسان بالفعل أصبحت تُستخدَم لخدمة مصالح الغرب واستراتيجياته»(15).

ومن هنا يصح القول بأن عدم عدول الغرب عن هيمنته وسياساته الخاطئة في منطقتنا الجغرافيّة وفي النظر إلى قضايانا الكبرى هو مورد النزاع الأكبر بيننا وبينه، ودون تصحيح ذلك (خَرْطُ القَتَادِ)، كما يقول أهل اللّغة! ذلك أن «أسباب التوتر والصراع لا ترجع إلى اختلاف الثقافات طالما أنها مجرَّد رؤى للعَالَم وأنماط للعيش وأنظمة للقيم، وإنما ترجع إلى روح الهيمنة التي تمارسها الثقافة الغربيّة على العَالَم على أساس من الظلم الغاشم، والتي تتجلَّى في الغزو الاقتصاديّ، وفي التعامل بمعايير مزدوجة، وفي عدم احترام الآخر في خصوصيّته الثقافيّة، وفي التدخل في مصائر الأمم والدول، إلخ»(16). ولذلك كنّا وما زلنا أشد حملاً على الحداثة كسياسة، وأشد دفاعاً عن الحداثة كقيمة. فالحداثة بما هي قيمة فوق الشك، أمّا الحداثة بما هي سياسة فينبغي أن تتهم، فالعلاقات الدوليّة ليست علاقات حداثيّة، وهذا لا يرجع إلى مفهوم الحداثة بقدر ما يرجع إلى تجليها السياسيّ. «قيام المشروع الحضاري العربيّ من حيث هو مشروع حضاري قوامه الإسلام ووجهته المُستقبل، لا يتأتى مع إقفال النوافذ والأبواب في وجه «الآخر» والانصراف عنه، ولو كان ظالماً وخاطئاً في نظره إلينا، كما أن قيام ذلك المشروع لا يقوم مع إغلاق النوافذ والدعوة إلى رفض الآخر والانزواء، ولكنه يكون بالحوار»(17). فالتقابل بين العَالَم العربيّ الإسلاميّ والعَالَم الغربيّ على الصعيد المعرفيّ ليس تشكيكاً في الحداثة، ولا ينبغي أن نفهم منه موقفاً سلفيّاً. وهنا نقطة الخطورة التي يجب أن نضع تحتها الخطوط، وهذه المسألة تحتاج إلى «تحرير محل النزاع» بيننا وبين الغرب الذي ينحاز إلى الأنظمة السياسيّة المُستبِدة بدل الانحياز لشعوبها المقهورة الثائرة. فقضايا حقوق الإنسان، والديموقراطيّة والحرّيّات العامة والعدالة الاجتماعيّة، لا تتعارض مع الإسلام، وإنما مع تأويلات معيَّنة للإسلام، وهي قضايا عصرنا، ولا ينبغي أن تكون قضايا مؤجَّلة، لأنها لا تحتمل التأجيل أو التسويف، بل يجب أن تكون على سُلَّم أولويات المُعارضة والمُجتمع المدنيّ في العَالَم الإسلاميّ.

صحيح أن الثقافة الغربيّة تريد فرض هيمنتها ونمط حياتها وعيشها بالقوة الخشنة تارةً والقوة المرنة تارةً أخرى، على الثقافات المُخالفة والأمم الضعيفة المغلوبة على أمرها من خلال «العولمة»، وفرض الطريقة الغربيّة والأميركيّة، في الحياة باعتبارها الطريقة المُثلى الوحيدة المُمكنة، بالنظر إلى أن الغرب هو الأقوى ثقافيّاً وعسكريّاً ويحتل المركز، بينما الأمم الأخرى هي الأضعف وتحتل الهامش. ممّا يجعلنا وجهاً لوجه أمام جملة من التحدّيات الثقافيّة التي تطرحها العولمة باعتبارها الاسم الحركيّ للأمركة، التي أصبحت تهدِّد التنوُّع الثقافيّ… بل يمكن الذهاب أبعد من ذلك، والقول مع محمد عابد الجابري بأن الغرب اليوم لا تحرِّكه المصالح الاقتصاديّة فحسب، بل تحرِّكه أيضاً الذاكرة الثقافيّة الدينيّة الأوروبيّة الحديثة التي مازالت تفعل فعلها في صُنَّاع القرار والسياسة، وفي هذا الصدد نورد قول المرحوم الجابري: «سنكون مخطئين إذا نحن اعتقدنا أن الغرب قد تحرَّر من تلك الخلفيات الثقافيّة الدينيّة التي كانت توجِّه فلاسفة التاريخ والمُستشرقين، وأنه الآن غرب علمانيّ خالص، عقلانيّ براغماتيّ لا غير، سنكون مخطئين إذا نحن جرَّدنا الغرب من ذاكرته الثقافيّة الدينيّة، ذلك لأنه إذا كانت هذه الذاكرة تفعل بصورة واعية في الكنسيين والمُتطرفين العنصريّين في كلّ من أوروبا وأميركا، فهي تفعل كذلك بصورة لا واعية في العلمانيّين والليبراليّين، وهي تميط اللثام عن نفسها بين حينٍ وآخر من خلال ردود فعلٍ معيَّنة، غير مراقبة»(18). وهكذا أصبح العَالَم الغربيّ متهمَّاً من طرف العَالَم غير الغربيّ انطلاقاً من سلوكاته السياسيّة وسلبه للعوالم الأخرى بما فيها العَالَم العربيّ الإسلاميّ حقها في التحديث، ممّا يقود البعض إلى رفض الحداثة. فالغرب كان أداة الحداثة بالفعل منذ عصر النهضة، إلّا أنه أصبح الآن عائقاً في مسلسل التحديث. وبعبارةٍ أدق: إن الغرب أصبح محافظاً على العلاقات الدوليّة، ويتجلَّى هذا الطابع المُحافظ في سهره على استمرار عدم اكتمال الحداثة وتعميمها.

وإذا كنّا نتفق مع الجابري في الخلفية الدينيّة اللاشعوريّة التي مازال الغرب أسيراً لها حتى اليوم، فإننا نعتقد بأن نقد المركزيّة الأوروبيّة، والهيمنة الأميركيّة، وسياساتها الخاطئة في العَالَم غير الغربيّ، لا يعني الدعوة إلى الصعود إلى «جبل قاف»، والعيش في جزيرة دونها «جزيرة حي بن يقظان». فالتعايُش بين الثقافة الإسلاميّّة والثقافات الأخرى أصبح اليوم ضرورةً حضارية، أكثر من أي وقتٍ مضى، بعد أن أصبح العَالَم قريةً صغيرة تحتم علينا التعاون والتآزر، ممّا يجعل من الضروري والحاجي (كما يقول علماء الأصول) أن تتعاون جميع الثقافات في صُنع الإنسان «الكونيّ» و«الكامل» انطلاقاً من خصوصيّاته، حتى تكتمل إنسانيّة الإنسان وسعادته باعتباره أنبل المخلوقات وأعظمها، والمُساهمة في صُنع التاريخ الجديد الذي لا تكون كتابته حكراً على الأقوى والأجمح، بعيداً عن التفاضل بين الثقافات الإنسانيّة، والدخول في «المُزايدة المُحاكاتية» بينها، بالرغم من بعض المآخذ التي يمكن أن ننبه إليها بين الفينة والأخرى في ما يتعلَّق بالحداثة المُتوحشة، والعقلانيّة الأداتيّة…

إنّ التعايش هو لُبُّ الثقافة الإسلاميّّة ولُبابها، فهي ثقافة التواصل بالجوهر وبالذات، لا بالعرض والمظهر، بالرغم من أن التعايش بين الثقافات هو العملة الصعبة في عالَم منقسم وغير متوازن بين عالَم اليسر والفائض الذي يرفض اقتسام الثروات التي يستأثر بالقسط الأوفر منها 80 في المئة (الشمال) ويقصي مساحات شاسعة من الشعوب من الحداثة التي يحتكرها. وعالَم العسر والعجز (الجنوب) الذي يرفض الإمبرياليّة والهيمنة ويطالب بتوزيع عادل للثروات، وبتعميم الحداثة وعدم حكرنتها، وأعزُّ ما يطلب في الوعاء الزمنيّ الذي تسوده نظريّة المركز والهامش، في جغرافيّة تتخفَّى فيها الأمركة والغربنة خلف العولمة والعالميّة. ومع ذلك، فالثقافة الإسلاميّّة تملك من المُقوِّمات والأسس ما يجعلها جديرةً بحيِّز خاص بها في عالَم الحداثة المُشترك المُتعدد، بعيداً عن كلّ محاولات الغرب للاستئثار بهذه الحداثة واحتكارها، فقد أنتجت الثقافة الإسلاميّّة حداثتها الخاصة بها مع مفكِّرين عظام منذ زمنٍ بعيد، وبلونيات مختلفة، وكانت النموذج الأمثل للتعايُش بين الثقافات الإنسانيّة، ونشر التفاهم بين البشريّة، وبذلك حقَّقت الثقافة الإسلاميّّة «الوجود الأشرف» فضلاً عن «الوجود الضروريّ». وذلك في حدود المُمكن والمُتاح لها في الإبيستيميّ الوسطويّ، وفي حدود ما تسمح به الأطر الاجتماعيّة لمعرفة عصر النظار وحملة الأقلام القدماء، والتي كان من المُتعذِّر عليهم القفز عليها. فالتنوُّع الثقافيّ رصيدٌ وإرث عام مشترك بين البشريّة وشعوب الأرض جميعاً، يجب أن يعمل الجميع على صيانته والمُحافظة عليه لتعزيز التعايُش والتعاون والاحترام والاعتراف المُتبادَل بين الشعوب والأمم والحضارات بدل الصدام والصراع والحرب بينها. أمّا طغيان ثقافة القوي والغالب على ثقافة الضعيف والمغلوب، فهو أقرب الدروب الخبيثة إلى معانقة نظام شموليّ وتفقيريّ يضعف الإنسانيّة بدل أن يقويها. وبذلك يصبح الكوجيطو الثقافيّ الإسلاميّ: «أنا أتعايش إذن أنا موجود».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1 – سعيد بنسعيد العلوي، الإسلام وأسئلة الحاضر، منشورات الزمن، العدد 22 يناير 2001، ص 11 – 12.

2 – سعيد بنسعيد العلوي، أوروبا في مرآة الرحلة: صورة الآخر في أدب الرحلة المغربيّة المُعاصِرة، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة بالرباط، سلسلة بحوث ودراسات رقم 12، الطبعة الأولى 1416هـ/1995م، ص 11 – 12 – 13.

3 – سعيد بنسعيد العلوي، الإسلام وأسئلة الحاضر، سبق ذكره، ص 10.

4 – عبد المجيد الصغير، في البدء كانت السياسة: إشكالية التأصيل للنهضة والديموقراطيّة في المُجتمع المغربيّ، منشورات رمسيس، العدد 7، يونيو 1999، ص 8 – 9.

5 – سعيد بنسعيد العلوي، الإسلام وأسئلة الحاضر، سبق ذكره، ص 107.

6 – سعيد بنسعيد العلوي، الإسلام وأسئلة الحاضر، سبق ذكره، ص 43.

7 – حسن حنفي، العقل والحرّيّة بين فرح أنطون ومحمد عبده: سجال «الجامعة» و«المنار»، مجلّة «المُستقبل العربيّ»، العدد 359، يناير/كانون الثاني 1/2009.، ص 142 و147.

8 – حسن حنفي، ما العولمة، (حوارات لقرنٍ جديد)، تأليف حسن حنفي وصادق جلال العظم، دار الفكر، دمشق – سوريّة، الطبعة الثانية 1421هـ/2000م.، ص 47 – 48 و53.

9 – المرجع نفسه، ص 254.

10 – حسن حنفي، حوار المشرق والمغرب: نحو إعادة بناء الفكر القوميّ العربيّ، حسن حنفي، محمد عابد الجابري، المُؤسَّسة العربيّة للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1990، ص 80 – 81.

11 – حسن حنفي، ما العولمة، سبق ذكره، ص 58 – 59.

12 – ابن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، دراسة وتحقيق محمد عمارة، الطبعة الثالثة 1986م، ص 42.

13 – محمد عابد الجابري، الديموقراطيّة وحقوق الإنسان، مركز دراسات الوحدة العربيّة، الطبعة الأولى، بيروت، نوفمبر/تشرين الثاني 1994، ص 218.

14 – محمد عابد الجابري، الديموقراطيّة وحقوق الإنسان، سبق ذكره، ص 144.

15 – هاشم صالح، أين هو الفكر الإسلاميّ المُعاصِر؟ تأليف محمد أركون، ترجمة وتعليق هاشم صالح، الطبعة الثالثة 2006، دار الساقي، ص 73.

16 – محمد المصباحي، نعم ولا: ابن عربي والفكر المُنفتح، منشورات ما بعد الحداثة، الطبعة الأولى 2006، ص 57 – 58.

17 – سعيد بنسعيد العلوي، الإسلام وأسئلة الحاضر، سبق ذكره، ص 120.

18 – محمد عابد الجابري، «مسألة الهويّة، العروبة والإسلام… والغرب»، مركز دراسات الوحدة العربيّة، الطبعة الأولى، أبريل 1995، ص 136 – 137.

مواضيع مرتبطة

استاد 974.. في بيان الاستدامة
محسن العتيقي 07 أكتوبر 2022
استاد خليفة الدوليّ.. عراقة، حداثة واستدامة
شربل بكاسيني 07 أكتوبر 2022
استاد المدينة التعليمية.. حيث تلتقي كرة القدم بالعلم والمعرفة
وائل السمهوري 07 أكتوبر 2022
استاد الثمامة.. يغطّي ضيوف «كأس العَالَم» بطاقيّة عربيّة
إبراهيم السواعير 07 أكتوبر 2022
استاد الجنوب.. بوابة بين الماضي والمُستقبل
فراس السيد 07 أكتوبر 2022
استاد أحمد بن علي.. بوابة الصحراء
محمد أدهم السيد 07 أكتوبر 2022
استاد لوسيل.. سحر الكرة أم سحر المكان؟
محمد أدهم السيد 07 أكتوبر 2022
استاد البيت.. خيمة ليست كباقي الخيام
ليال المحمد 07 أكتوبر 2022
أورهان باموق لـ(الدوحة): أركب سفينة جديدة، وتهبّ الرياح مرّة أخرى!
حوار: سالي شبل 07 سبتمبر 2022
خطاب نوبل.. عبد الرزاق قرنح متحدثا عن الكتابة
ترجمة: علاء عبد المنعم إبراهيم 02 فبراير 2022

مقالات أخرى للكاتب

المُجتمع المفتوح في السياق الإسلاميّ
08 فبراير 2021

هل يمكن الحديث عن ثقافة الحوار والاختلاف والمُصالحة في العَالَم العربيّ الإسلاميّ في الوعاء الزمنيّ المُعاصِر؟ أين نحن من كبار النظار في العصر الكلاسيكيّ الذين أسَّسوا للحوار والاختلاف والتعدُّد؟  أين نحن من موائد الحوار والاختلاف والتسامح الدسمة في...

اقرا المزيد