الحدود الحديديّة تجزئة للعَالَم

| 26 أبريل 2021 |
يشهد تشييد الجدران والحواجز، في القرن الحادي والعشرين، على تطوُّر الحدود في عالَم شديد الحركة، وكذلك على ازدهار سوق حقيقيّ للحدود. كتابه «تجزئة العَالَم»(1) يدرس الجغرافي «ستيفان روزيير»، دلالة الحواجز التي حلَّت محلّ الحدود في بعض المناطق من العَالَم، على غرار الجدران والفواصل في المجر، ثمَّ في الولايات المُتحدة، وإذ تهدف حواجز القرن الحادي والعشرين إلى الاستبعاد أكثر من الحماية، فإنها تعكس حالة من عدم المُساواة والظلم…
تعرض في كتابك «أقدم جدار حدودي» في سورية الحالية، الذي يرجع تاريخه إلى 2400 – 2200 قبل الميلاد، بطول 220 كيلومتراً كيف كان شكل هذا الجدار وما هي أغراضه؟
– اكتشف علماء الآثار الفرنسيّون والسوريّون هذا الجدار في سورية قبل وقتٍ قصير من انتفاضة 2011. ويعود تاريخه إلى أوائل العصر البرونزي الرابع (العصر البرونزي الذي بدأ حوالي 3000 قبل الميلاد). يتراوح عرض السور من 0.8 متر إلى 1.2 متر، وارتفاعه حوالي متر واحد، وبطول 220 كيلومترا، وكان مدعوماً في بعض الأحيان بالقلاع. هذا «الجدار الطويل جدّاً»، كما أطلق عليه علماء الآثار الذين اكتشفوه، ربّما حدَّد منطقة معيَّنة لمُمارسة أنشطة دائمة تجمع بين الزراعة وتربية الحيوانات إلى الغرب من الجدار، قبالة المناطق الواقعة إلى الشرق من الجدار، المُخصَّصة للبدو الرحل والرعاة. يشهد هذا الجدار على وجود قوّة مركزيّة قادرة على إدارة هوامشها على مسافاتٍ كبيرة. سور الصين العظيم، أو بالأحرى الجدران، تستمر في تقدُّمها في منطقة أخرى من العَالَم بأهداف متشابهة (إبقاء البدو على مسافة).
تغيّر معنى وشكل هذه الحواجز بمرور الوقت، مع ظهور الأسلاك الشائكة على وجه الخصوص. في سياق الاستعمار، يندرج الفصل ضمن إطار عالمي من الإكراه. ما هي الحواجز الحدودية التي ترمز لتلك الفترة في نظرك؟
– الحاجز الذي بناه الإيطاليّون على الحدود بين ليبيا ومصر في الثلاثينيّات من القرن الماضي يعتبر أساس التقنيات المُعاصِرة في هذه المنطقة (خط مزدوج من الأسوار المكهربة، معزَّزة بالأسلاك الشائكة، ويحدها طريق دورية). كان العَالَم الاستعماريّ مجالاً للتجارب السياسيّة. لقد نشر العَالَم أشكالاً من الهندسة العرقيّة (التهجير الاستبداديّ للسكّان) على نطاقٍ جديد (ترحيل الهنود إلى أميركا الشماليّة، وتهجير الشعوب الرافضة للنظام الاستعماريّ في الإمبراطوريّات المُختلفة، بما في ذلك ليبيا أو الجزائر، وغالباً للاستيلاء على أراضيها). في مواجهة السكّان الأصليّين المُتمردين، سلَّط الاستعمار أشدَّ أنواع العنف.
لذلك تمَّ اختبار السياج الحدوديّ كأداة للهيمنة الاستعماريّة (من بين أمورٍ أخرى). صمَّمتها دول «الشمال» القويّة للسيطرة على «الجنوب»، لكنها أصبحت لاحقاً أداةً للفصل حتى بين بلدان الشمال خلال «الحرب الباردة» (الستار الحديديّ)، ثمَّ انتشرت في القرن الحادي والعشرين كأداةٍ «سياسيّة بيولوجيّة» لإدارة التنقلات البشريّة. إن مفهوم السياسة – السياسة القائمة على بناء الجدار، يقوم على هذه الأفكار ويحيل بالتحديد إلى هذا الغرض من «الحواجز» التي هي أولاً وقبل كلّ شيء أدوات لإدارة التدفُّقات البشريّة. الغرض من الحاجز هو إجبار الأفراد على التفتيش عند نقاط العبور الحدوديّة أو في نقاط التفتيش بشكلٍ عام.
جدار برلين ترك انطباعاً بمظهره الهائل، وامتداده أيضاً تحت الأرض منذ أن تمَّ تقسيم المدينة إلى قسمين ولما يحمله من أبعادٍ رمزيّة. ومع ذلك، كان يهدف لمنع الأفراد من مغادرة المدينة بدل الدخول إليها. هل ألهم هذا «السياج» الرمزيّ للحرب الباردة الحكومات الأخرى؟
– تمَّ بناء معظم الجدران والحواجز الحدوديّة بشكلٍ فعَّال لمنع دخول محيط معيَّن (المنطق الدفاعيّ السائد في المُجتمعات المُغلقة) بدلاً من المُغادرة (منطق السجن). إذا كان للستار الحديدي في البداية غاية دفاعيّة، فقد تمَّ تحويله بشكلٍ فعَّال إلى أداة سجن، وكان الغرض من جدار برلين بالفعل هو منع هروب الألمان الشرقيّين إلى المناطق الغربيّة من برلين. اليوم، الدول التي تحظر مغادرة أراضيها قليلة جدّاً. بشكلٍ عام، تغلق العديد من الأنظمة حدودها، ليس بالضرورة من خلال بناء الحواجز، ولكن من خلال فرض أنظمة قانونيّة مقيِّدة للغاية بشكلٍ عام للمناطق الحدوديّة. لقد ألهم جدار برلين الحكومات الأخرى من وجهة نظر فنِّيّة، إنه بالفعل نموذج أولي لأسوار المدينة المُعاصِرة (القدس). لاحظ أن تكلفة بناء الجدار أعلى بكثير من بناء السور (بمتوسط سعر لا يقلّ عن مليون دولار لكلّ كيلومتر)، لذلك النسخ المُقلّدة لجدار برلين نادرة.
تُظهر بوضوح أن الحواجز من المُرجَّح أن تمنع التدفُّقات غير المشروعة والإرهاب. إنها تكشف عن عدم تناسق في التنقل، وعادةً ما يكون السكّان الأكثر هشاشة هم العاجزون عن عبور الحدود. ألا يوجد تناقض بين عالَم الحركة الفائقة وتضاعُف الحواجز؟
– حواجز الحدود هي في الواقع، قبل كلّ شيء، أدوات لإدارة ومراقبة التدفُّقات البشريّة – «غير القانونيّين» هم كلّ أولئك الذين يتهرَّبون من المُراقبة. فيما يتعلَّق بانسياب التدفُّق، علينا التفكير في فئات جيّدة. العَالَم متحرِّك للغاية، نعم، ولكن فقط لفئتين من الأفراد: الأفراد «المُناسبون» (أصحاب جوازات سفر جيّدة، ومستوى معيشيّ مرتفع) و«المطلوبون» (أصحاب الدبلومات المُلائمة، والمُؤهلات المطلوبة). في تقسيمه للبشرية إلى قسمين، أشار الجغرافيّ ماثيو سبارك (2006) إلى وجود «مواطنة فئة رجال الأعمال»، تسافر بسهولة وتعبر الحدود دون صعوبة. وفي المُقابل يمكن أن نميِّز بشكلٍ ديالكتيكي فئة «المُواطنة منخفضة التكلفة» التي تتكوَّن من الأفراد الذين أصبح العَالَم بالنسبة لهم أقلّ قابلية «للتنقل والحركة».
يمكن أن يكونوا فئاتٍ اجتماعيّة متوسّطة، لكنهم بدون أوراق، وبالتالي يمكن أن يدفعوا لعصابات المُهرِّبين، أو في أسفل السلم، الفقراء الذين ليست لديهم أوراق، والذين يخضعون فعلياً للإقامة الجبريّة (أو المُحاصرون!) من قِبل نظام الحدود العَالَمي. عبَّرت «آن لوري أميلا سزاري» و«فريديريك جيراوت» (2015) عن درجة مرونة الحدود هذه التي تعتمد على طبيعة الأفراد الراغبين في عبورها، بمُصطلح «قواعد الحدود». إنّ حركيّة الأفراد، أو «قواعد الحدود» هذه، تعتمد الآن على المعلومات الشخصيّة التي نوافق على تقديمها إلى السلطات المُشرفة.
تطوَّرت الحواجز إلى سوقٍ مربح بمواد وتصميمات ومعايير محدَّدة. مَنْ هُم المُستفيدون الرئيسيّون من «تجزئة العَالَم»؟
– كتبت «كلير رودييه» (2012) عن التجارة المُربحة لـ«كره الأجانب». تتجسَّد هذه الأعمال المُتعلِّقة بمراقبة الحدود والقمع من خلال ما يمكن تسميته بالتجمُّع «الأمني الصناعيّ» الذي يعدُّ الفاعل الرئيسيّ في السياسات الاقتصاديّة المُعاصِرة. تتكوَّن قاعدة هذا «المجمع»، وهو تجسيد جديد لـ«المجمع الصناعيّ العسكريّ» للحرب الباردة، من الشركات الخاصّة. في الواقع، تزامن تراجع الحروب بين الدول والتهديدات العسكرية البحتة، أو نهاية «الحروب الكبرى» حسب نظريّات المُؤرِّخ «جون مولر»، مع ظهور تهديدات جديدة: أوسع وأكثر انتشاراً ضمن مفهوم الأمن. ومن المُثير للاهتمام أن الأدوات المُستخدمة للتحكم في الحدود (عند نقاط العبور الحدوديّة وعلى طول خط الترسيم) غالباً ما تكون مماثلة للأدوات المُستخدمة لحماية المطارات والمناطق الحرّة وكلّ منطقة بدخول مقيّد. يمكن أن تكون الأسوار الحدوديّة، مثل الكاميرات وأجهزة الاستشعار، مماثلة تماماً لمناطق التسوُّق العادية. تعتبر الحدود أحد الأسواق من بين أسواق أخرى للشركات في المجمع الصناعي الأمني الذي يلبي احتياجات الأفراد أو المجموعات (على سبيل المثال المُقيمين في مجتمع مسوّر) أو الشركات أو الدول (مثل شركة «Schlage» الأميركيّة التي توفِّر أجهزة الحماية للأسر، وكذلك المُعدات البيومترية لشرطة الحدود).
لا تتوقَّف هذه الحواجز عن التطوُّر حتى أصبح «من غير الممكن اجتيازها»، ولكنها تشكّل أساس إستراتيجيّة كاملة من الحلول البديلة للعابرين. هل الحدود المُغلقة تماماً موجودة حقّاً؟
– لا. لا توجد حواجز يتعذَّر اجتيازها، ولكن مثل الباب الأمامي للمنزل، يمكن أن يكون الاقتحام (أو تجاوز الحواجز) مسألة وقت أطول أو أقصر. إذا استمر الضغط على الممر وقتاً طويلاً، فإنّ «غير القانونيّ» أو السارق يأخذ المزيد من المخاطر. لقد صُدِمت لسماع مدير شركة «Eurotunnel» أثناء زيارة جماعيّة مع الجغرافيّين الآخرين من موقع «Coquelles»، وهو يبيّن أن الأنظمة التي تمَّ إنشاؤها مصمَّمة للإبطاء، للردع، لكن المُهاجر الذي يريد حقّاً المرور، سوف يمر في النهاية. هذا ما يجعلني أعتقد أن الحواجز، التي يتمُّ بناؤها دائماً على حساب دافعي الضرائب، قد لا تكون ضرورية. في الواقع، أنا أتفق مع مفكِّرين مثل «كاثرين ويتول دي ويندين» أو «فرانسوا جيمين» الذين يدافعون عن حرّيّة التنقُّل وفتح حقيقي للحدود، وهو الانفتاح الذي يسمح أيضاً للمُهاجرين بالعودة إلى بلدانهم، بدلاً من حبسهم داخل البلدان المضيفة.
أي الحدود يجسّدها كتابك بشكلٍ أفضل ولماذا؟
– سؤال صعب. يجب أن نختار نموذجاً أصلياً. الآن، ما هو الحاجز الحدودي اليوم؟ بشكلٍ عام، يعدُّ هذا أولاً وقبل كلّ شيء عقبة أمام كبح الهجرة غير المرغوب فيها. تستهدف الحواجز أو «الجدران» تدفُّق المُهاجرين في طريقهم إلى منطقة أكثر فرصاً من تلك التي يأتون منها. في الوقت نفسه، نلاحظ أن البضائع من نفس المناطق مرحب بها (التجارة الحرّة هي عقيدة عالميّة، فقط الحركة الحرّة هي المُشكل، كثيراً ما أكرّر لطلابي أن الإنسان هو حبة الرمل التي تعطّل تروس عولمة البضائع). وبالتالي، أودُّ أن أقول إنّ حدود الاتحاد الأوروبيّ في المُستوطنة الإسبانيّة المُحصنة سبتة ومليلية، بالأسوار العالية والمذهلة (لكن رغم كلّ ذلك تقطعها بانتظام موجات من المُهاجرين) ستكون بلا شكّ أفضل مثال، بالإضافة إلى ذلك، إنها تعكس بشكلها المُذهل للغاية مشهد «تجزئة العَالَم» الحالي (بعبارة العنوان الفرعي لكتابي).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حوار: أنتوني غيون
المصدر:
https://www.nonfiction.fr/article-10716-cloisonner-le-monde.htm
الهامش:
1 – Stéphane Rosière, Frontières de fer: Le cloisonnement du monde, 2020, Syllepse, 181 pages.