الحَجْر، والعُزلة، والأمَل

| 09 مايو 2020 |
الحَجْر أن تجلس بمفردك، وكأنما أصبح للكون قلبٌ واحدٌ، وتنهيدةٌ أقرب إلى التضرُّع، وأنت تنصتُ شارداً إلى خفوتها. تتراءى لك نفسك كأنها طيفٌ في حلم. تلمح خوفك طافياً سابِحاً في خوف الملايين. خوف من عدو صغير جدّاً، غير مرئي، يحوم طول الوقت ليغرز أسنانه في صدر الحياة. تجلس وتأكل لقمة. تدخن سيجارة. ترقد على السرير ويطاردك السؤال ذاته: هل تنتهي حياتي الشخصيّة؟ حياة الأحباء؟ حياة الإنسانيّة؟.
أحاول النومَ بجرعةِ دواءٍ منوِّم. أصحو ورأسي ثقيل لأجدني عند نفس النقطة: أهي مجرَّد عطسة فيروس عابرة نمسحها عن وجوهنا ونستأنف الحياة؟ أم أن علينا أن نتأهب لرحيلٍ جماعي؟ وأن نلملم أوراق الإنسان، وتاريخه، وملاحمه، وكلمات الحب التي اخترعها؟. أجلس إلى المكتب لأنهي مقالاً عن ضرورة التفاؤل، عن أهمِّية الأمل، عن الإنسانيّة التي لم تُهزَم قط. أكتب سطرين وينحدر بصري بدون وعي ناحية الموت الرابض في ركن الحجرة. كتلة سوداء تفح في الهواء. وأنا مقيَّد، عاجز، لا أدري متى يختطف الفيروس حياتي. أنهض لأعدَّ فنجان قهوة. أرجع. أجري اتصالاً هاتفياً لأطمئن على صديق. يدور الحديث بيننا عن أي شيء، لكن في طيّات الكلام سؤالاً غير منطوق: هل أنت بخير؟. أقرأ قليلاً. يخطر لي أنني فوَّت فرصة الاستمتاع بالكثير من الكُتب الجميلة، ولم أعد أعلم هل ألحق قراءتها أم أن الوقت قد نفد. أسجل فكرة قصّة عن فتاة عصبيّة، سيئة الحظ، لكن الكلمات تظهر لي شاحبة لا تتوهج من حرارة. ما الذي يحدث؟ هل هذا هو الحَجْر؟ أن تقع في قبضة المخاوف والهواجس؟ أن يهزمك فيروس حقير حتى أنه غير مرئي…
أهذا هو الحَجْر؟ الخوف؟ حتى الجيران في الشقة المقابلة صاروا يتجنَّبون الحديث. يحنون رأسهم كأنما لم نرَ بعضنا البعض، ويغلقون بابهم بسرعة.
آكل لقمة. يتأرجح عقلي مثل بندول بين نقطتين. نقطة تكوَّمت فيها كلّ الأفكار والذكريات والانفعالات، ونقطة في الناحية الأخرى، حيث يطل الخوف من الموت. ثمَّة قاسم مشترك بيننا جميعاً في تجربة الحَجْر. ثمَّة علامات عامّة. لكن التجربة تتخذ كلّ مرّة وجودها الخاصّ بحكم اختلاف تفاصيل حياة كلّ شخص. لم أفزع من الحَجْر بمعناه العام، أي بصفته قيداً على الحركة والتواصل مع الآخرين، فقد قضيت نحو نصف عام معتقلاً في حبسٍ انفراديّ، من دون كِتاب، من دون رسالة، من دون صوتٍ بشريّ، وكانت الحركة الوحيدة المتاحة أن أقطع إسفلت الزنزانة الصغيرة ذهاباً وإياباً. أروح وأجيء في الصمت ويداي معقودتان خلف ظهري ما بين الباب المُصفَّح والجدار الأصم، أدوس بقدمي أيامي. أمرغ ساعات العمر، مجبراً على سحق حياتي بنفسي، مرغماً أن أكون القاتل والقتيل. لكنك في السجن لا تهلك حياة أحد ما عدا حياتك، أما في حَجْر الوباء فإنك بغير إرادتك تمسي أداة إبادة الآخرين، إذا صافحتهم، إذا عانقتهم، إذا تنفَّست بالقرب منهم، واليدان اللتان كانتا تقدِّمان الزهور للأحباء تصبحان مثوى للموت.
أهرب إلى الأغاني والموسيقى. أقول لنفسي لا ينبغي للإنسان أن ينشر الخوف. لابد للإنسان أن يذيع الأمل والنور في عزِّ الظلمة. أتذكَّر «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها»، لكن ما الذي بيدي الآن؟ الكتابة؟ أهذا كلّ جهدي؟ وما جدواها؟ أكان لها أو أن لها الآن نفعاً؟ أم أنني احترفتها من دون تخطيط، كما تحترف الزهور إطلاق العطر، ليس عن وعي، لكن بحكم التكوين والفطرة. أتساءل: ألم يكنْ من الأفضل لو أنني قضيت سنواتي مستمتعاً بالحياة دقيقة؟ بالبحر، بالشمس؟ بخفق الهواء؟ بالقبض على الكفوف الناعمة، بالضحك من أعماق القلب؟ ما جدوى الأدب؟ أن نعيش قصائد لا نكتبها أفضل من كتابة قصائد لم نعشها. تظل الحياة القضيّة الأولى والأخيرة.
أتساءل: إذا نجونا من الجائحة، ما الذي ينبغي أن نستخلصه منها؟ على الأقلّ أن نعي أن الإنسان لن ينجو بمفرده، وعليه لكي ينجو بنفسه أن ينقذ عدوه معه! ينتشر الوباء ولا يُميِّز بين الناس، فأصبح علينا أن ننقذ أعداءنا وإلّا هلكنا من عدواهم، وأمسى على أعدائنا أن ينقذونا لكي لا يهلكوا بسببنا.
أنقذ عدوك لكي تعيش! يا له من درس!
ذات يوم كتب الأديب الروسي أنطون تشيخوف: «هكذا هي الحياة، إنها أشبه بوردة تزهر بفرح في أرض خضراء، وتأتي ماعز تأكلها فينتهي كلّ شيء»، فإذا التهم الفيروس زهرة الحياة، فإن الإنسانية ستصعد إلى أعلى كما بنفس الكبرياء التي عاشت بها، فليس لدى الإنسانية ما تخجل منه.
يقولون إن العالم بعد فيروس كورونا سيتغيَّر ليحقِّق أحلامه بالحرّيّة والعدالة والحياة الكريمة. لكن التاريخ يشهد بأن الأوبئة والكوارث الطبيعيّة لم تبدِّل النظم السياسيّة والاقتصاديّة الجائرة، بدَّلها فقط الوعي والعمل الاجتماعيّ. في يومٍ ما أبادت الأنفلونزا الإسبانيّة نحو خمسين مليون نسمة عام 1918، ولم يغيِّر ذلك شيئاً من النظام العالميّ، وإنْ كان قد حرَّك الضمير الإنسانيّ.
الوباء الحالي أيضاً قد يهز الضمائر، لكنه لن يغيِّر النظام العالميّ السائد، وعلينا حتى نحقِّق أحلامنا أن نتشبَّث بالأمل، الأمل في استمرار الحياة أولاً، لأنه ليس أمامنا خيارٌ آخر، لذا علينا أن نكرِّر لأنفسنا كلّ دقيقة أن أيام الكابوس معدودة، وأن الإنسان سيخرج منها منتصراً، وهو الذي صارع الوحوش، والظلمات، والفيضانات، والرعود، وخرج من الكهوف الأولى إلى الحضارة، ومن الكرة الأرضيّة إلى الفضاء الشاسع، ورجع بمشاعل الأمل في التقدُّم والعلم والتطوُّر. وسوف يأتي من بعدنا أناسٌ لن يتذكَّروا وجوهنا أو أصواتنا، لكنهم سيقولون عنا: «لقد تمسَّكوا بالأمل»، حتى عندما لم يكن هناك أمل. وحين يتَّجه البندول إلى الناحيةِ الأخرى من خواطري، حيث الخوف من الموت، وحين أسمع طنينه في الجو، أنهض. أفتح النافذة. أرفع رأسي عالياً نحو الشمس. أقول بقوة: «ستبقى على الأرض الأغاني والقصائد والألوان والإنسان الذي اخترع الرقة، والعذوبة، والوحدة، والكتابة، والأمل».