الخاص والعام في الجائحة

| 11 مايو 2020 |
أنا من الأشخاص الذين يتطلَّب عملهم بقاؤهم في المنزل، وتلك كانت عادتي في معظم حياتي العمليّة، فإنك حتى تكتب لابد أن تقرأ، ولا أفضل من جو البيت للقراءة. وكنت دائماً في أوقات الإجازة الأسبوعيّة أبقى في المنزل وأستخدم عبارة (أنا مُجاز في البيت) لأصدقائي الذين يتصلون بي، وهو تعبير معروف بالإنجليزية vacationing at Home أخرج إلى الفضاء العام بضعة أيام في الأسبوع من أجل الذهاب إلى (الديوانية)، وهي ملتقى لتجمُّع أصدقاء ومعارف تستغرق أقلّ من ساعتين في الجلسة، وهي تقليد من التقاليد الاجتماعيّة القديمة في الكويت، أغشى ثلاث أو أربع ديوانيات في الأسبوع في المساء عادةً حتى التاسعة مساء، غيرها طبعاً الذهاب إلى الاجتماعات في اللجان التي أعمل عضواً فيها في بعض المؤسَّسات أو الجامعة، ويومان للتدريس من الصباح حتى الظهر.
في بداية الحجز- مذ شهر تقريباً أو أكثر- اعتقدت أن الأمور سوف تسير كما كانت بنقصٍ في بعض النشاطات، ومع مرور الأيام بدأت أشعر أن الأمور مختلفة، حتى الرياضة الصباحية في المشي لم تعد ممكنة في المنطقة التي أسكنها، وأصبحت المشكلة أن القراءة لا تستهلك كلّ الوقت، فلجأت إلى التلفاز، والذي أصبح يوماً بعد يوم مملاً بسبب الفقر الشديد في المحتوى لمعظم البرامج، فهي تتناول أخبار انتشار المرض، ومقابلة بعض مَنْ يُسمَّى أهل الاختصاص، وظهر أن كثيراً منهم غير مختصِّين، ولا يعترفون بقصور معلوماتهم، ولكنهم يتحدَّثون في العموم بغير علم. هنا ظهر ما يمكن أن يُسمَّى جائحة المعلومات الكاذبة أو غير الدقيقة، وأصبحت الديوانية ذكرى عزيزة على قلبي، لأنك لو سمعت فيها شيئاً لا يصدق تستطيع أن تصحح أو تعترض، وحتى لو عوضتها جزئياً بمجموعات (الواتس أب)، ولكن حتى هذه الأداة بدأ البعض ينشر فيها رسائل ممّا يتلقاه دون تدقيق، وفي بعضها يجنح للخرافة. مخيف عندما يُصاب الإنسان بالقلق، وهو قلقٌ ناتجٌ من هذا المرض الخفي، فحتى الآن ليس له دواء معروف، وليس له لقاح قريب! لذلك توقَّفت عن متابعة الكثير من مجموعات (الواتس أب) وأبدلتها بانتقاء شديد لما أقرأ على تلك الوسيلة..
شعور غريب في البقاء القسري داخل البيت، ففي البقاء الطوعي أنت تتخذ القرار، تخرج أو تبقى في المنزل متى ما أردت.. في البقاء القسري عليك أن تبقى بصرف النظر عن رغبتك، وهي سجن من نوعٍ ما، تجعلك تتعاطف مع كلّ مسجون في العالم، وتعرف قيمة التنقل والارتحال، وهي قيمة غالية ومهمَّة للإنسان نفسيّاً وصحيّاً واجتماعيّاً. أصبحت الديوانية شيئاً تذكره باعتزاز.. أقسى ما يمكن أن تفكِّر فيه وأنت في الحجر القسري هو أنك لو مرضت أو مرض أحدٌ من أفراد عائلتك لن تستطيع أن تذهب كما كنت تفعل إلى العيادة القريبة من منزلك، لأن ذلك قد يكلفك فوق المرض حياتك. كما أنك تسمع خمس مرّات في اليوم تعبيراً في رفع الأذان (أصبح مخيفاً) ومغلقاً (ألا صلوا في بيوتكم)، كم هي عبارة بالغة الدلالة لم تكنْ تحلم أن تسمعها في السابق مهما كان خيالك خصباً، والأمر الثاني هو أن تفقد عزيزاً غادر دنياك، ولا تستطيع حتى أن تودّعه كما عهدت في مجتمع مثل الكويت.. عادةً تذهب للعزاء حتى لأشخاص أو أسر لا تعرفهم فهو (واجب اجتماعيّ)، فما بالك إنْ كان ذلك الذي غادر إلى ربه صديق عزيز، وقد فقدت في الأسابيع الأخيرة العديد منهم مع الأسف دون وداع إلّا من رسالة على (الواتس أب) لذوي المتوفى أو تعزية على (تويتر) لا تُغني عن المُشاركة الحقيقيّة.
على الصعيد العام انكشفت بعض السياسات التي كان يتوجَّب أن نفكِّر فيها من قبل سواء على مستوى الوطن، وأحسب حتى على مستوى دول الخليج للخصوصيّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي تحملها هذه المجتمعات، وأعني ما أصبح يعرف بـ(الهيكل السكّاني)، كان معروفاً أن هذا الهيكل مختل، وأن هناك جيشاً من العاملين في الخدمات، في الحقيقة إن هناك نوعاً من العمالة غير المحلّية تحتاجها البلد، وهي عمالة مهنيّة عالية أو متوسطة تعيش في أماكن صحيّة وتتلقّى عن عملها بديلاً مجزياً يساعدها على مواجهة متطلباتها الحياتيّة، و لا ضرر منها، أمّا ما تبيَّن من نقص أن هناك عمالة هامشية وعددها كبير تراكمت في بلدان الخليج بسبب سياسات خاطئة وضعف ضمير لدى البعض بعد ذلك، فتعيش هذه المجموعات في أماكن مكتظة ودخلها قليل ووعيها الصِّحيّ والاجتماعيّ محدود كليّاً. السياسات الخاطئة هي الملامة وليس الأشخاص، فعن طريق سياسات (تلزيم بعض الأعمال الحكوميّة إلى مقاولين)، مثل الحراسات في المدارس والمؤسَّسات المختلفة، وعمّال الخدمة في المؤسَّسات الحكومية، وعمّال التوصيل في المستشفيات إلى آخره من هذه العمالة، وهي أعمال تخضع لمناقصات سنويّة تقوم فيها الشركات بمنافسة بعضها البعض، وعادةً ما يرسو عقد التلزيم على الشركة الأقلّ تكلفة، وبالتالي يجلب ذلك المتعهد أناساً غير أكفاء، ويسكنون في مساكن جماعيّة مكتظة تكون عُرضة أكثر لانتشار الأوبئة. اللوم هنا على السياسات التي صُمِّمت بهذا الشكل، وأيضاً على الثقافة الاستهلاكيّة السائدة في مجتمعاتنا. إن تحدَّثنا عن الكويت فأنت إنْ ذهبت إلى الجمعية الاستهلاكيّة أو المستشفى أو إلى مؤسَّسة حكوميّة، سوف ترى أن كثيراً من عُمَّال المساعدة هناك، وبعضهم لا يخضع للشروط الصِّحيّة، جلب الشاي والقهوة ونقل الملفات أو حمل ما تبضع الإنسان من مشتريات في الجمعيات الاستهلاكيّة إلى السيارة لا يضير الشخص أن يقوم بذلك، فهو لو ترك بلده في إجازة لفعل ذلك راضياً. الحل من خلال الأتمتة، كمثل الحراسة عن بُعد بالكاميرات الحرارية، أو أن يقوم الموظف بتحضير الشاي والقهوة من خلال ماكينات حديثة له ولضيوفه! أو يحمل المتبضع ما اشتراه إلى سيارته دون مساعدة من آخرين، طبعاً ذلك يحتاج إلى إعادة تثقيف من جهةٍ، وتغيير سياسات من جهةٍ أخرى.
لقد كشفت هذه الجائحة والبقاء في المنزل لفترةٍ طويلة الكثير من الضعف الإنساني، وفجّرت أيضاً خلافات أسريّة، وصعَّدت من الضيق الشخصيّ الذي انتشر على وسائل التواصل الاجتماعيّ، كما كشفت أيضاً كَمْ هي مهمَّة علاقتك بمَنْ حولك، فهؤلاء التزموا البقاء في المنزل كما أنت، وعليك أن تفهم حاجياتهم حتى لو لم تكنْ توافق عليها، وتتفهم مدى قدرتهم على التحمُّل، وقد لا يكون الجميع في القدرة النفسيّة على تحمُّل الاعتزال سواءً ولفترةٍ طويلة. كما كشفت أهمِّية العاملين في البيت من جنسياتٍ مختلفة، فهم يعانون معك كما تعاني، وتكتشف أيضاً كَمْ هي الإنسانيّة متماثلة، فهم أيضاً قلقون، أوّلاً على صحَّتهم، وثانياً على أقرباء وأحباء لهم في بلدانهم الأصلية.
الأسئلة الصعبة التي يحار المرء في الإجابة عنها هي: إلى أي مدى سوف يبقى الناس في منازلهم؟ أمّا السؤال الآخر المُهمّ جدّاً في نظري فهو: هل سوف نتعلَّم من أحداث هذه الجائحة؟ في تقديري أن الإجابة عن السؤال الثاني هي في الغالب: لا… لأن النوع الإنسانيّ يتمتّع بضعفِ الذاكرة!!! وإلّا لكُنا تعلَّمنا الكثير من التاريخ!!