الدبلوماسية الثقافيّة.. ما قبْل وما بعد!

| 26 أبريل 2021 |
من الضروريّ إثراء صنف المُلحقين الثقافيّين بعددٍ من الأدباء والمُثقَّفين، شباب الروح والخيال، الذين تتوفَّر لديهم الرغبة والشروط. إمّا كمُلحَقين وإمّا كمُختصّين يُساعدون المُلحقين في مجال اختصاصهم. هذا الأمر معمول به من القديم. وقد رأينا سلسلةً تكاد لا تنقطع من الأدباء الدبلوماسيّين من «شاتوبريان» إلى «صلاح ستيتيّة» ومن «كارلوس فوينتوس» إلى «نزار قباني»، دون أن ننسى الحاصلين على جائزة نوبل للآداب: «سان جون بيرس» و«أستورياس» و«بابلو نيرودا» و«أوكتافيو باث»، وغيرهم كثير.
قد تختلف سنواتُ ما بعْدَ (الكوفيد) في التعامُل مع الكثير من الخيارات، وخاصّة فيما يتعلَّق بالتعامُل مع المكان: المكان بوصفه ماكينة جديدة لإنتاج التقارب والتباعد على الأرض وفي اللُّغة والفكر تحديداً. ولعَلّ من السهل الانتباه في مُعظَم دُوَل العالم إن لم يكن في كلِّها، إلى ظهور تركيبةٍ ماديّة لُغويّة جديدة تبشّر بهذا «المكان الجديد»، الذي قد يضع «الحوارَ عن بُعد» جنبَ «الجوارَ عن بُعد».
في هذه التركيبة الماديّة اللُّغويّة الجديدة، المُتحالفة مع واقع متجدِّد، قد نرى وزارات الثقافة والتربية والسياحة والخارجيّة تُشكِّلُ رأسَ حَرْبة، في تحالُف مع دوائر الاقتصاد والمال والتنقّل، على أساس أنّ الخطّ الأوّل للدفاع عن الداخل يبدأ من الخارج، وأنّ النجاح داخل الحدود يبدأ من الخارج، فيما يمكن أن نسمِّيه «الدبلوماسيّة الثقافيّة».

تحرصُ الدول ذاتُ الرؤية الاستراتيجيّة على المُوازاة بين عملها الدبلوماسيّ المحض وعمل المُستشاريّات والمراكز الثقافيّة وتختار لهذه المُستشاريّات والمراكز مسؤولين من طرازٍ خاصّ، بل تنتدب لها في أحيان كثيرة مسؤولين من كبار مُثَقَّفِيها. لكنْ ماذا سيكون علينا أن نفعل قبل ظهور «الصعوبات الجديدة» وما قد تتضمَّنه من «نظرةٍ مختلفة» إلى السفر والتنقّل؟
ليس من السهل طبعاً اختزال مواصفات المُلحق الثقافيّ الناجح قبل (الكوفيد) وبعده. لقد شرع محلِّلون مختلفون في النظر إلى «مشهد الرحلة والفرجة» وهو يعيد تركيب صورته وترتيبها في ضوء ما يحدث، وما يمكن أن يحدث، حين نقف أمام ضرورة التعامُل مع المجهول. وبات واضحاً للجميع أنّ من الصعْبِ النّظر إلى المسارح، ودور السينما، وقاعات العروض، بنفس الطريقة لما قبل (الكوفيد) وما بعده.
الدبلوماسيُّ الثقافيّ الناجح لما قبْلَ (الكوفيد) هو ذاك الذي لا يكتفي بامتلاك الكاريزما والمهارات التي تجعل منه وسيطاً ناجعاً وعنصر تجميع، بل يتخطّى ذلك إلى حيثُ يقِفُ المُبدع، فإذا هو يتمثَّلُ ثقافتَه حدَّ الانفتاح على الثقافة الإنسانيّة، وإذا هو يبتكر ويتجاوز القواعد. الأمر الذي يتطلَّبُ سعةَ الخيال ومرونة الفكر وامتلاكَ اللّغة ومعرفةَ الذات حدّ الاهتمام بما هو مختلف عنهما، بما يُيسّرُ التواصُل مع الآخر ولُغتِه وثقافتِه بشكلٍ عامّ.
الدبلوماسيُّ الثقافيّ الناجح لما قَبْلَ الكوفيد هو ذاكَ المهووسُ بالشيء الثقافيّ لأسبابٍ تتعدَّى متطلَّبات المهنة، فإذا هو يتمكَّن من تفاصيل البروتوكول والتشريعات والإجراءات الإداريّة ودوائر القرار والتمويل والرعاية الثقافيّة في البلدين، ويكاد يوازنُ بين اطّلاعه على تفاصيل الحياة الثقافيّة في بلاده وفي البلاد التي يعمل بها.
لكن أين هذا ممّا نحتاج إليه اليوم وغداً: ذاكرة مفتوحة تصنع من الجذور أجنحة. صورة دقيقة عن الساحة الثقافيّة في البلاد التي يعمل بها لا تقلّ دقّةً عن الصورة التي يحملها عن الثقافة في بلاده. جسور تردم الفجوات بين تلك الساحة والساحة الثقافيّة في بلاده، بحيث تنتعش تلك الساحة وتتجدَّد بِفعل التلاقُح والتحاوُر مع الثقافات الأخرى، وتُصبح في الوقتِ نفسِه، الجبهة الأولى (أو الفيترينة) التي تكتسبُ من خلالها جاذبيّة حقيقيّة تُتيح لها الانتعاشَ ومن ثَمَّ إنعاش السياحة والاقتصاد ككلّ. مخيّلة خصبة. تكنولوجيا حديثة. إرادة على الإنجاز وقدرة على التواصل، كفيلة كلّها بإعادة النظر في مفهوم الشيء الثقافيّ ككلّ.
ليس من شكٍّ طبعاً في أنّ لدينا دبلوماسيّةً عريقة مشهوداً لها منذ عُقود وسفراء مقتدرين مقتنعين بدور الثقافة يعملون بمساعدة مُلحقين ثقافيّين مجتهدين. إلّا أنّ أغلب هؤلاء المُلحقين الثقافيّين يعمل وفق اجتهاده الشخصيّ، بلا ميزانيّة مناسبة ولا موارد بشريّة ولا خطّة عمل واضحة ولا تنسيق مع مختلف الوزارات. فضلاً عن ضرورة الاعتراف بأنّ المُلحق الثقافيّ في عددٍ من سفاراتنا اسمٌ بلا مُسمَّى. أو لا تكوين له في المجال. أو مشغولٌ بمهمَّات المُلحق الاجتماعيّ!
إنّ في الأزمة (التنظيميّة والإبداعيّة) التي عاشتها معظم الساحات الثقافيّة العالميّة خلال أزمة (الكوفيد)، ما يدلّ على ضرورة تغيير النظر إلى الثقافة والإبداع.
وإذا كانت الحلول «الأوّليّة» قد نجمتْ في الغرب عن «مبدعين» أوّلاً، استطاعوا أن يبلغوا مراكز القرار، فإنّ الموقف ظلّ مختلفاً في معظم البلدان العربيّة، حيث استمرّ المسؤولون عن مشاكل الأوضاع الثقافيّة في البحث عن حلول للمشاكل الثقافيّة.
إنّ من الضروريّ (الآن الآن وليس غداً) إثراء صنف المُلحقين الثقافيّين بعددٍ من الأدباء والمُثقَّفين، شباب الروح والخيال، الذين تتوفَّر لديهم الرغبة والشروط. إمّا كمُلحَقين وإمّا كمُختصّين يُساعدون المُلحق في مجال اختصاصهم. هذا الأمر معمول به من القديم. وقد رأينا سلسلةً تكاد لا تنقطع من الأدباء الدبلوماسيّين من «شاتوبريان» إلى «صلاح ستيتيّة»، ومن «كارلوس فوينتوس» إلى «نزار قباني»، دون أن ننسى الحاصلين على جائزة نوبل للآداب: «سان جون بيرس» و«أستورياس» و«بابلو نيرودا» و«أوكتافيو باث»، وغيرهم كثير. ولا أدري إنْ كنّا محتاجين حقَّاً إلى دراسات مُعمَّقة كي نبرهن على المكاسب الثقافيّة (ومن ثَمَّ الماديّة والمعنويّة) التي حقَّقها هؤلاء المُثقَّفون الدبلوماسيّون لأوطانهم، في سياق الموازنة بين متطلَّبات الوظيفة ومتطلَّبات الموهبة.
السؤال الآن: أين نحن من كلِّ هذا؟
أنطلقُ في هذا السؤال من تجربةٍ شخصيّة وعامّة جعلتني أعرفُ كَمْ يُهدر المُبدعُ من طاقةٍ كي يسدَّ غيابَ المؤسَّسات الخاصّة والعموميّة، وكَمْ يتمكَّن أحياناً من الذهاب شرقاً وغرباً، بجهده الخاصّ، فإذا بالإعلام هناك «يتَحرَّك» طيلة أسبوعٍ وأسبوعين بما لا يُقارَنُ مع ما تفعله الدبلوماسيّة طيلة سنة، دون أن يتحرَّك لسفارته ساكن! مع احترام الاستثناءات!
قد يقول قائلٌ نحن لسنا فرنسا كي نزرع أكثر من 150 مركزاً ثقافيّاً فرنسيّاً في العَالَم ولسنا معنيّين بالدفاع عن اللّغة الفرنسيّة في كندا مثلاً كي يكون لنا فيها مستشاران ثقافيّان. قد يقول قائلٌ نحن لسنا الولايات المُتّحدة الأميركيّة كي نكون مهمومين بفتح الأسواق أمام صناعاتنا الثقافيّة من كُتُب ودوريّات وإنتاج سمعي بصريّ موسيقيّ وسينمائيّ وتكنولوجيا رقميّة.
قد يقول القائلُ أكثر من هذا لكنَّ وْضْعَنا (على تواضعه وربَّما بسبب تواضعه) يُواجهنا بحقيقةٍ بسيطة، مفادها أنّنا أحوج من الجميع إلى تفعيل هذه المنظومة، لأنّ الثقافة ثروتنا الأساسيّة، ولأنّها مفتاح استقطاب المُترجم والناشر والإعلاميّ، ومن ثَمَّ السائح والمستثمر. لِنتخيَّلْ المردودَ المُمكن على الصعيدين الثقافيّ والاقتصاديّ، لو توفَّر لـ(50) سفارة من سفاراتنا في العَالَم مُلحَقُون ثقافيُّون قادرون على تنظيم نشاط جيّد كلّ شهر، ولو استضاف هذا النشاط عشرة مُثقَّفين عرب، بما يُتيح حضوراً دوليّاً لـ(6000) مُثقَّف عربيّ كلّ سنة!
ليس من شكٍّ طبعاً في أنّ النهوض بهذا الدور يتطلَّب من المُلحق الثقافيّ تكويناً خاصّاً، واطّلاعاً دقيقاً على الثقافة في بلاده، لا يقلّ دقّةً عن اطّلاعه على الثقافة في موقع عمله. أسأل هنا على سبيل الاستفسار والاستيضاح بعد حفظِ المقامات واحترام الاستثناءات، بعيداً عن كلِّ تعميم أو حكمٍ مُسبَق: هل لدينا في تقاليدنا الدبلوماسيّة ما يدلُّ على أنّنا نؤمن حقَّاً بأنّ للثقافة هذه المكانة وللمُلحَقِ الثقافيّ هذا الدور؟ وكَمْ لدينا من مُلحَقٍ ثقافيٍّ بهذه المُواصفات؟ وهل لدينا تحديداً القدر الكافي من الخيال والطاقة «الاقتراحيّة» لمُواجهة متطلَّبات «الدبلوماسيّة الثقافيّة» للمكان المُنفلت، المُغاير، المُختلف، لسنوات ما بعد الكوفيد؟