صناعة السينما العالميّة في الحجر الصِّحيّ

| 08 أبريل 2020 |
«السينما مُغلقة حتى يتوقَّف الواقع عن أن يبدو كالأفلام. حافظوا على سلامتكم وكونوا بخير». بهذه اللافتة استقبلت إحدى دور السينما في ولاية فلوريدا جائحة كورونا، وقد وضعت يدها على مصدر التضرُّر الأعمق للصناعة جرَّاء هذا الوباء الذي امتدَّ أثره السلبيّ على كافة المناحي.
صناعة السينما كانت بين المُتصدّرين لصفوف المُتضرّرين، بدايةً بالمنع والحذر من التجمعات التي هي أساس المشاهدة السينمائية، ومروراً بإيقاف تصوير عدد من الأفلام المهمّة خوفاً على صناعها من الاختلاط والإصابة بالفيروس، ووصولاً بتأجيل أهم الأفلام الجاهزة للعرض والتي كانت منتظرة في مواسم نهاية الشتاء والربيع وترحيلها فيما بعد ممّا سيؤثّر بالتبعية على الأفلام المجدول عرضها في الصيف والخريف، وهذا يعني ثلاثة أمور: إما مزيد من الترحيلات على طريقة تأثير الدومينو، أو تخمة من الأفلام تصدر تباعاً وتُحرَق كلّها بعد فوات الغمّة، وهو موعد في علم الغيب، أو التضحية بالعروض السينمائيّة وإتاحة الأفلام للمشاهدة عبر المنصّات الإلكترونية، أي أن الأفلام ستكون مُعرَّضة للحرق بتكدُّس المعروض مرة، والحرق لقدم المعروض مرة، وكذلك الحرق بالمشاهدة المنزلية وما يتبعها من فرص للقرصنة.
وفي كلّ الحالات فالاقتصاد السينمائيّ أصبح مهيأ تماماً لضربة كبرى، بدأت هذه الضربة تؤثر على الجميع بالفعل، من ملاك شركات الإنتاج وحتى أصغر الموظفين بتلك المنظومة ممَّنْ يعيشون بقوت يوم العمل. هي فاجعة غير مسبوقة تاريخيّاً للصناعة قد تفوق مثيلاتها في عصور الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية، والفارق أن مع الكوارث السابقة ظلّت صالات السينما ملجأ للبعض يهربون إليه من كابوسية الواقع، أما الآن فصالة سينما نصف ممتلئة تعني الكابوس نفسه.
الخسائر الاقتصاديّة ليست بالأمر الجلل مقارنةً بأصل الفاجعة، فكسب قوت اليوم لن يجدي إذا كانت الحياة نفسها مُهدَّدة، بالتأكيد لن نفتقد مشاهدة الأفلام لأن- وكما تعبِّر اللافتة- الواقع نفسه أصبح أكثر إثارةً للانتباه والشحن العاطفي من أي فيلم يمكن أن نراه الآن، مهما بلغ من الخيال، لأننا أصبحنا نعيش الخيال، لدرجة أن أفلام كوارث بعينها تتكرَّر تفاصيل أحداثها الآن في عالمنا، كفيلم «Contagion 2011» للمُخرج ستيفن سودربرج، والذي تنبأت أحداثه بفيروس يضرب العالم، ويبدأ من الصين، وتتشابه أعراضه مع كورونا، ويتشابه في طريقة انتشاره، وتتعامل معه السُّلطات بنفس الشكل الذي نشاهده اليوم في البلدان الموبوءة. إعادة مشاهدة فيلم كهذا الآن بقدر ما يُحسب لخيال الفنَّان ويدلّل من جديد على أهمّيته في المجتمع كونه دائماً مَنْ يبدأ بدق أجراس الخطر، ويسبق الساسة بخطوات أو بأشواط، ومع ذلك فلم تعد مشاهدة الخيال جاذبة، بل قد تكون في تلك الحالة محبطة.
تأتي جائحة كورونا في موسم نهاية الشتاء والخريف السينمائيّ، والمعروف بأنه موسم ازدهار أفلام الرعب والحركة والخيال. «A Quiet Place Part II» أحد أبرز أفلام الرعب المنتظرة للمُخرج جون كراسينسكي، كان مفترض عرضه في العشرين من مارس/آذار، لكنه تأجل لأجل غير مسمَّى بسبب كورونا، الفيلم هو الجزء الثاني لفيلم مُتميِّز صدر عام 2018، عن عالم ما بعد قيامي تدور أحداث القصّة في مدن مهجورة تمثِّل العالم بعد غزو من كائنات غامضة تفترس البشر حين يصدرون أيّة أصوات، يقبع الناجون في منازلهم ويقتصر تواصلهم الإنسانيّ على النظرات وحركات الشفاه، هذا العالم الكابوسي يأتي متوافقاً مع حالة الحجر والعزل الصحّي العامّة التي يعيشها العالم الآن، بالبقاء في المنازل والحدّ من طرق التواصل الاجتماعيّ القديمة التي تنقل الفيروس، لعلّ الفيلم يتفوَّق قليلاً بحدّة عناصر كابوسيته، لكن عالمنا يتفوَّق على الفيلم بأنه حقيقي، ولا قيمة لأفلام الرعب في زمن صارت فيه نوبات الهلع طقساً إنسانيّاً يومياً يحدث بمجرَّد مشاهدة نشرات الأخبار ومتابعة عدادات الإصابة بكورونا وهي تقفز بمختلف البلدان.
الفيلم الأحدث من سلسلة جايمس بوند «No Time Time To day»، تمَّ تأجيل طرحه عالمياً من أبريل/نيسان إلى نوفمبر/تشرين الثاني القادم، بعد أن تحمّلت الشركة المنتجة مصاريف باهظة في الترويج والدعاية، وإعادة جدولته في نوفمبر/تشرين الثاني تعني أنه سيواجه منافسة شرسة مع أفلام موسم الجوائز والأعياد، لكن البعض يرى أن التأجيل في حدّ ذاته صنع دعاية من نوعٍ آخر للفيلم وزاد الترقُّب له. أفلام بنفس الضخامة تم تأجيل عرضها العالمي لآجالٍ بعيدة أو غير مسمّاة، وعلى رأسها فيلم الحركة «F9» وهو الجزء التاسع من سلسلة «Fast & Furious»، كما تأجل عرض فيلم «Black Widow» وهو عن بطلة عالم مارفل التي تظهر للمرّة الأولى باستقلال عن سلسلة «Avengers» و«Iron Man»، وقد كان من الأفلام التي تراهن عليها شركة ديزني، ثم تراجعت، بعد أن جازفت بعرض فيلمها «Onward» في الأيام الماضية ولم يحقّق الإيرادات المتوقّعة بتأثير كورونا ما اضطر ديزني لحرق الفيلم بإتاحته عن طريق المشاهدة المنزلية، ولذا كان حتمياً على الشركة أن تتعلَّم من الدرس وتدرك أن كورونا ليس مزحة، فأجلت عرض النسخة الحية الجديدة من فيلم «Mulan»، وأجّلت فيلمين من أضخم إنتاجاتها لهذا العام وهما «Antlers وThe New Mutants»، ولا أحد يعلم متى ستصدر ديزني تلك الأفلام خاصّة وقد خصّصت شهر نوفمبر/تشرين الثاني لعرض فيلم «The Eternals» الذي تراهن عليه ديزني بعد انتهاء سلسلة «Avengers». ديزني التي ابتلعت وحدها أكثر من 40 % من إيرادات العام الماضي، قد تكون أكبر الخاسرين هذا العام، ليس لأنها المتضرّر الوحيد، لكنها المُتضرّر الأكثر إنفاقاً، وليس أمامها الآن سوى تقليل الخسائر بعرض الأفلام سريعاً على منصّتها الإلكترونية.
وبجانب الأفلام الجاهزة للعرض التي تمَّ تأجيلها، هناك عدد من الأفلام في مرحلة الإنتاج تقرِّر إيقاف تصويرها خوفاً من كورونا، على رأس هذه الأفلام الجزء السابع من فيلم «Mission Impossible» والذي تدور جزء من أحداثه في إيطاليا أكبر المنكوبين من الفيروس. وهناك الجزأين الثاني والثالث من فيلم «Avatar» اللذين تنتجهما ديزني دفعة واحدة بميزانية ضخمة وقد توقف تصوير المشاهد بسبب كورونا. مزيد من الأفلام توقف تصويرها لنفس السبب مثل (The Batman، Jurassic World: Dominion، Matrix 4، Elvis) وغيرها.
الخسائر لم تقف عند أفلام هوليوود ضخمة الإنتاج وحسب، لكن امتدّت للسينما المُستقلّة والفنِّيّة والتي فقدت أكبر مصادر ترويجها وتوزيعها المتمثِّلة في مهرجانات السينما العالمية وهي تغلق أبوابها تباعاً، التأثير الأكبر على السينما المُستقلّة نجم من إيقاف مهرجان «SXSW» بمدينة أوستن، وهو من أكبر أحداث الصناعة في أميركا الشمالية، وكانت تستفيد الأفلام منه بالرواج والدعم، ثم جاء تأجيل مهرجان «كان» الفرنسيّ ليثير صدمة في الوسط السينمائي، خاصّة وأن موعد إقامته سيظل مهدّداً مع تفشي فيروس كورونا في فرنسا لدرجة وصلت إلى إعلان حالة الحرب. مهرجانات أخرى كانت متنفَّساً للأفلام الفنّيّة أعلنت الإيقاف أو التأجيل، مثل «تسالونيك» و«بكين» و«براج» و«ترايبيكا» و«إسطنبول»، وعربياً توقَّفت مهرجانات «قمرة» في الدوحة و«عمان» في الأردن و«البحر الأحمر» في المملكة العربيّة السعودية، والأخيران كانا يستعدان لدوراتهما الأولى.
لوهلة ظنّ البعض أن ما يحدث قد يصب في مصلحة منصّات المشاهدة المُستقرّة مثل نتفليكس، وأن عصر المُشاهَدة المنزلية أصبح أمراً واقعاً ومصيريّاً انتهى فيه التنظير، إلى أن أعلنت نتفليكس عن توقف تصوير أغلب أعمالها الأصلية حفاظاً على سلامة العاملين بها، وهو القرار المنطقيّ والمُتوقَّع والذي عاد ليؤكِّد من جديد أنها ليست أزمة سينما أو مُشاهَدة، هي أزمة حياة أو موت تواجهها حضارتنا. والسؤال ليس متى تعود السينما، ولكن متى تعود الحياة الطبيعيّة التي تحفظ للخيال مهابته؟!