الكورونا.. ظاهرة إعلاميّة؟

| 08 يونيو 2020 |
استطاع فيروس كورونا في وقتٍ قياسيّ أن يُحقّق ما عجزت عنه أشرسُ الشموليّات: حثّ الناس على تكميم أفواههم بأنفسهم. دَفْعهم إلى إخلاء الشوارع ولزوم البيوت. إيهامهم بضرورة الانعزال بعضهم عن بعض طلبًا للسلامة. إقناعهم بما ذهب إليه باسكال حين قال «إنّ كُلَّ شقاءِ البشر ناجمٌ عن كونهم لا يعرفون الركونَ إلى الراحةِ في غرفة».
تُقِرُّ الجهاتُ الرسميّة في فرنسا مثلاً بأنّ عدد الوفيات اليوميّة بسبب (كوفيد – 19) أقلّ بكثير من عدد الوفيات اليوميّة بسبب السرطان. كما تُذَكِّرُ اليونسكو بأنّ 25 ألفًا من البشر يموتون في العالم يوميًّا بسبب الجوع، من بينهم عشرة آلاف طفل. دون أن يرفَّ للعَالَمِ جفنٌ. دون أن تُفكّر «منظومةُ المال والسياسة» في إيقاف عجلتها الشرسة ولو لثوانٍ.
ما الذي جَدَّ إذَنْ؟
أعتقد أنّ هذا الفيروس ما كان ليوقف عقارب الساعة العالميّة عن الدوران بهذه «القصوويّة»، لولا حضورُ الإعلام بشكلٍ غير مسبوق. أقصد ذلك الجانب من الإعلام الذي عرف كيف يتمرَّد على المثلّث الجهنّمي: مجتمع التعاليم، ومجتمع التعليمات، ومجتمع المعلومات. حيث «الأغُورَا» سُوقٌ دَيْدَنُها الربح والكلُّ فيها سلعة، حتّى البشر، الذي يُراد له هو تحديدًا أن يكون بضاعةً قليلةَ العلَف سريعةَ التلف قابلةً للاستبدال.
لولا «تَفشِّي» فيروس الكورونا كمعلومةٍ لَمَا اختلفَ ردُّ الفعل تجاهَهُ عن ردِّ الفعل تجاه ما سبقه من الفيروسات والأوبئة. الأمر الذي يجعلنا أمام «ظاهرة إعلاميّة» بالمعنى الإيجابي للعبارة. أي بالمعنى الذي ينحني خشوعًا أمام ضحاياها ولا يهوّن من شأن ما تسبّبت فيه (وما قد تتسبّب فيه) من كوارث، لكنّه يرفض التغافل عن الأبعاد الأخرى التي يُتَحاشَى الخوض فيها.
تلك هي قناعتي. لذلك علينا أن ندعم الجانب «المنفلت» من الإعلام. علينا أن نحميه عن طريق نقْدِهِ وتحصينه من أمراضه وفيروساته الكثيرة. بعيدًا عن غواية التوظيف أو الترويض. استعدادًا للمعارك القادمة. وهي قادمة لا محالة بعد أن امتصّت المنظومة الدوليّة الصدمة، وعثرت على «عناصر الخطاب» المناسبة لجَعْل رَفْع الحَجْر بلا ضماناتٍ حقيقيّةٍ «مَطْلَبًا شعبيًّا»! ولم يبقَ إلّا أن يختفي الفيروس بضربة عصًا سحريّة، بينما المنظومةُ «تغسل يديها» أمامنا مثل بيلاطس، ولسان حالها يقول من على منابرها المطيعة الطيّعة: «أخفِي عنّي هذا الفيروس الذي لا أطيق رؤيته».
قد يكون رفْع الحُجب عن «كواليس» المنظومة إحدى هدايا الجائحة للمُستَغْفَلين أو للمحكومين في العالم، كي لا يسمحوا لأحد أن يحكمهم من جديد عن طريق إدارة الهلع من اللامرئيّ. ولعلّنا نكتشف قريبًا أنّ هذه «العيانيّة» (هكذا أرى ترجمة عبارة visibilité) كانت نقطة الضوء الأساسيّة في عتمة «اللحظة الكورونيّة». لا بسبب ما سبق فحسب، بل بسبب فعلها المُمكِن في الكثير من المفاهيم والمُسلّمات.

قبولُ الناس بارتداء «الكمّامات» قد ينبّههم إلى أنّ «ثمّة شيئًا متعفّنًا في مملكة الدنمارك» لا يُراد لهم مُقاوَمتُه. إخلاءُ الشارع قد يلفت انتباههم إلى أنّ قبولهم اليوم بالعمل عن بُعْدٍ قد يفتح الطريق غدًا إلى قبولهم بالتظاهر عن بُعْدٍ. لُزُومهم البيت قد يُحفّزهم على مُساءلَةِ أسباب تفتُّتِ الأسرة، وقد يشجّعهم على اكتشاف خفايَا تحوُّل البيت من ملاذٍ إلى حَبْس. من مأمنٍ إلى عقوبة. من وطَنٍ إلى منْفًى. بعيدًا عن ذلك النوع من «الرحم» أو «الجسد الأموميّ» الذي تغنّى به باشلار، نشدانًا للسعادة، أو للإقامة «شعريًّا» في أرض البشر المتناهية، لا في ذلك الفضاء الهُولْدِرْلِينيّ اللامتناهي.
الاطّلاعُ اليوميّ على ما يَظهر من خفايا ظهور الفيروس أو «تصنيعه» قد يُنشّط التفكيرَ في خطل تأسيس القيمة على «الربح» و«القوّة» و«التوحُّش»، وقد يُرغِمُ الإنسانيّةَ على شيء من التواضع! فما الذي نختلف فيه عن الفيروسات؟ الفيروساتُ تحتاج إلى الخلايا المُضيفة كي تتكاثر وتتغوّل. لذلك لابدّ من استخدام فيروسات مضادّة (virostatika) تمنعها من دخول الخلايا المُضيفة. إنّها بمثابة الضيف الثقيل الذي يقتحم البيت ويسيطر عليه عن طريق التهام ما فيه من مؤونة. هذا يعني أنّ فيروس الكورونا ما كان لينجح لولا استعدادنا «لتسمينه». وليس من حلٍّ إلّا أن تُغلَقَ في وجهه مخازنُ التموين. لكن ما العمل إذا كانت المفاتيح في يد فيروسٍ أكبَر اسمُهُ الإنسان؟
«العزلُ» قد يغيّر علاقتنا بالمكان الذي خُيِّل إلينا أنّنا ننتشر فيه ونتمدّد فإذا نحن ننكمش ونتقوقع. إقفالُ المدارس (وفتْحُها لتمكين الأولياء من الذهاب إلى العمل) قد يكون فرصةً للانتباه إلى المكانة الدنيا التي آلت إليها التربية. وقد يتيح الانتباه إلى عواقب تضارُبِ الساعات (الأُسَريّة والمهنيّة والثقافيّة) ودوران عقاربها كلّ عكسَ اتّجاه الأخرى. الأمر الذي يحفر شرخًا متّسعًا بين التربية والتعليم من جهةٍ، وبينهما وبين الإعلام والثقافة من جهةٍ ثانية، مختزلاً فضاءاتها في أماكن لحراسة الصغار (garderies) من جهةٍ، وأماكن لقتْل الوقت وإعدام المعنى بدعوى تسلية الكبار من الجهةِ الأخرى.
أمّا إلغاء «التظاهرات» الثقافيّة وإغلاق المكتبات والمسارح ودُورِ الثقافة وقاعات السينما، فلعلّه يزيح ورقة التوت الأخيرة التي تُخفِي مُعاداةَ المنظومة واحتقارَها التامّ للشيء الثقافيّ، ورغبتَها في «حيْونَة» الإنسان عند أوّل فرصة، عن طريق اختزاله في إشباع غرائزه، وتجريده من «الحاجة إلى الثقافة» التي جعلت منه ما هو.
لقد برهنت طريقةُ إدارة «حرب الكورونا» المزعومة على أنّ معظم أصحاب القرار لا يخافون شيئًا كما يخافون الثقافة. «اللعبةُ» السياسيّة بالنسبة إليهم «طاقيةُ إخفاء» كي لا يراهم أحد. ولمّا كانوا يعلمون أنّ الثقافة هي المرآة الوحيدة القادرة على تحويل «اللامرئيّ» إلى مرئيٍّ لا تُحتَمل رؤيته ولابدّ من تغييره، فإنّهم ما انفكّوا يسعون إلى تصفيتها وإلغائها من المشهد. وليس من طريقةٍ أفتك من القمع والتجويع كالتشويه والاحتقار. بدايةً من اختزال الشيء الثقافيّ في التسلية والترفيه، وصولاً إلى إنتاج ما سمّاه فيليب موراي «الهومو فيستيفوس Homo Festivus» الذي يتمُّ تقديمه قربانًا لكلّ وحشٍ يظهر.
هكذا باتت الثقافة في نظر معظم أصحاب القرار: أوّل شيء يمكن الاستغناء عنه والتضحية به وآخر شيء يُفَكَّر في إسناده والدفاع عنه، بل إنّهم نجحوا حتى في إقناع «شُهُودٍ من أهلها» بأنّها ليست ضروريّة، وأنّ أهلها ليسوا من «جنود الصفّ الأوّل» في مثل هذه «الحروب»! متناسين أنّ المناعة ثقافة أو لا تكون. أنّ الأمنَ ثقافيٌّ، صحيًّا وغذائيًّا كانَ أم «قوميًّا». أنّ الثقافة هي التي تُرَسِّخُ في العقول والوجدان القيم التي تدور بفضلها عقارب كلّ الساعات وعلى رأسها الساعة الاقتصاديّة. تناسوا كلّ ذلك. وما إنْ قرّروا «الحَجْر» حتى حجروا على الثقافة. ما إنْ قرّروا «رفع الحَجْر» حتّى استثنوا كلّ فضاءٍ ثقافيّ. لقد خيّل إليهم أنّ أصغر مغازة أو مخبزة، في مثل هذه اللحظات الكارثيّة، أهمّ من أكبر مسرح أو مكتبة. لم يتركوا مكتبةً واحدة تشتغل. لم يفكّروا حتّى في تنظير «المكتبات» بدكاكين المُكَسَّرات!
قد تكون «اللحظة الكورونيّة» فرصةً لإعادة النظر في كلّ هذا. وقد تغتنم الإنسانيّة هذه الفرصة وقد لا تفعل. كلّ ذلك مشروط بإرادة البشر وإصرارهم على الدفاع عن حرّيّتهم. بقدرتهم على التفاؤل بلا سذاجة وحرصهم على ترجمة تفاؤلهم إلى واقع ملموس. بانتباهم إلى أهميّة إزاحة اللثام ورفْع طاقيّة الإخفاء عن كلّ ما يُدارُ في الخفاء، وتحويله إلى «ظاهرة إعلاميّة» بالمعنى الذي حاولنا تشخيصه.
في انتظار ذلك أرى فصْلَ «رفع الحَجْر» يقترب، واثقًا من أنّه سيحلُّ بالضرورة قبل أوانه. أضربُ بيديّ وبالكلمات على جنبات «الخزّان». ليس لديّ غير يديّ وكلماتي. الصوتُ بَحَّ من النباح في البريّة. أشُمُّ رائحةَ أحلامٍ تحترق. أنحني لمظاهر التضامن ونكران الذات وأشمئزّ لأمارات الجشع والاستثمار في الكارثة. أقفُ مشدوهًا أمام أرضٍ جريحة، نصفُها منخرطٌ في عرسٍ لا يَتمّ ونصفُها منغمسٌ في حدادٍ لا ينتهي.
أحاولُ التفكير على طريقتي في طبيعة ما يحدث.
رأيتُ في البداية أن أنأى بنفسي عمّا خيّل إليّ أنّه انخراطٌ في الجوقة. رفضتُ المَشْيَ على مخاوف الناس وآلامهم، لكنّها سرعان ما بدت مخاوفي وآلامي. استطاعَ الإعلام (ربّما للمرّة الأولى بهذا الشكل) أن يحشر الجميع في نفس المربّع، وأن يضع أقدام سكّان العالم كلّهم على الجمرة نفسها. فجأةً خُيّل إلينا أنّ «التباعُد» جعلنا نتقارب أكثر. كان ذلك وهمًا طبْعًا. ليس المحصورُ في فِيلّا بطوابق كساكنِ عُلبةِ صفيح، ولا صاحبُ الحِذاءِ الجِلْدِ كالحافي. لكن لا بأس. لم نَعُدْ مَخْفِيّين بعضُنا عن بعضٍ كالسابق. صنعتْ اللحظةُ قدْرًا أكبر من «المُشْتَرَك»، فإذا التراجيديا على الرغم من جوانبها الكرنفاليّة، أكثر جديّة وأشدّ وطأةً من أن تُتْرَكَ خارِجَ مجال «التفكير معًا».
التفكير والإبداع ليسا اثْنين في نظري. إنّهما اثنان في واحدٍ. قد يُضيءُ أحدُهما الطريق للآخر في ظرفٍ مُعيّن وقد يتمخّض أحدهما عن الثاني في ظرفٍ آخر. إنّهما يتطلّبان عادةً اتّخاذَ مسافةٍ من الوقائع والأحداث. لكنّها مسافةٌ تُقاسُ بالكثافة لا بالامتداد في الزمن. وهي نتيجةُ كيمياء خفيّة بين المزاج والموهبة والمعرفة لا يملك سرّها أحد. الامتداد في الزمن لا يمنع الرداءة والاستجابة الفوريّة لا تمنع الجودة. لذلك تتعدّد طرائق التفكير والإبداع تعدُّدَ المُفكّرين والمُبدعين.
كيفما كان الأمر: «المسافة» كتمهُّلٍ أو تَعَفُّفٍ تَرَفٌ لا يتوافق مع الحياة في فوهة بركان أو بين يدي جائِحة. ليس في وسعي والمركب يحترق أن أطلب من النيران مسافةً للتفكير أو الإبداع. أحتاج إلى أن «أتوجّع فكريًّا أو إبداعيًّا» بالتوازي والتزامُن مع توجّعي الجسديّ والعاطفيّ، في انتظار أنّ «أفكّر في الوجع» بتأنٍّ حين يصبح الوقت مُتاحًا. أحتاج إلى نوعٍ من التفكير غيْرِ المُفَكّر فيه. لعلّه نوعٌ من التفكير الفوريّ، العفويّ، الحدْسيّ، كدتُ أقول الغريزيّ لولا علمي بأنّ أساتذتي وأصدقائي من الفلاسفة قد ينكرون عليّ هذا الخلط. وليت أحدهم يسعفني بترجمةٍ أجمَل لعبارة «Pensée réflexe». ذلك الفضاء المُستثنى من «بروتوكولات» التفكير وفق القواعد العلميّة أو الفلسفيّة، حيث تنبثق اللمعةُ مثلما ترْمشُ العينُ لمرور نحلة. حيث تُومضُ الفكرة مثلما تندّ الصرخةُ جرّاءَ عضّةٍ أو طعنة. حيث لا أحد يُنكِرُ عليّ أن أتوجّع بأفكاري وأن أفكّر بآهاتي.
ذاك ما أفعل. وبين الآهة والآهة أَنفرِدُ بمدينتي ليلاً. أُنصِتُ إلى آهاتِ مَنْ أعرف فيها ولا أعرف. أجسّ نبضَها لأطمئنّ عليها وعليهم. أجوب شوارعها المنثورة في غابة النيون الذابلة. ألاحظ هنا وهناك بعض الأضواء الخافتة تنبعث من بعض النوافذ، تُرجِّحُ زُرْقَتُها الرماديّةُ أنّها أضواءُ تليفزيونات أو حواسيب مفتوحة على البحر الرَّقميّ، فأفرح لأنّ أحدهم ينتبه من جديد إلى «ظاهرةٍ إعلاميّة» بالمعنى الإيجابيّ للعبارة، أو «يبحث» عنها في هذه القناة أو تلك، في هذا الموقع أو ذاك. ثمّ تذكّرني جراحي الفاغرة بأنّ بعض التفاؤل سذاجة، فأستحضرُ بطلَ رواية جون إيرفينغ «العالمُ وفْقَ غَارْب»، وأستأنفُ تِيهِي مردّدًا عبارتَهُ التي حفظتُ عن ظهر قلبٍ منذ قرأتُ الروايةَ لأوّل مرّة: «حيثما لاحَ ضوءُ تليفزيون فثمّةَ سهرانٌ لا يَقرأ»