الملل.. كتلة من ظلام تعاند الحياة

| 01 يونيو 2020 |
يقود الإنسان العاقل حياته بوسائل عاقلة تقيه الأذى، ويتصرَّف العقل اللامسؤول بطرائق مغايرة تلحق به ما لا يريد. ويغدو استعمال العقل سؤالاً ضرورياً في أوقات الأزمات حال ما نعيشه اليوم، ويأخذ اسم: (كورونا).
يثير هذا المرض الذي يجبر الناس على ملازمة بيوتهم، سؤالاً فردياً وجماعياً واجتماعياً عنوانه: الملل سؤال قديم يمزّق الزمن، وقد يمزّق الإنسان الملول، ويرسل بشظايا قاتلة إلى اتجاهات متعدِّدة. ونقيض الزمن الممزّق زمن مرتّب، يشرف عليه عقل فاعل، يحسن استعمال الوقت، ويستولد منه نتائج بصيرة.
تعطي حكاية «حي بن يقظان» للأندلسي ابن طفيل، التي تُعتبر من بدايات القصّ العربي، درساً في الاستعمال الحكيم للعقل والزمن معاً. فقد وجد بطل الحكاية ذاته في جزيرة منعزلة، لا بشر فيها، ولا لغة إنسانية إلّا من عالم محدود معمور بالنبات والحيوان. ما جعل من تسرية الوقت سؤالاً باهظاً، يرتدّ على الإنسان المهجور ويمزّقه، أو يتوجه إلى الطبيعة ويسائل أسرارها، ويدرك، تالياً، عظمة الخالق وجمال المخلوق.
برهن «حي بن يقظان» الذي تأمل الطبيعة، وأدرك معنى الخالق بلا كتاب، عن نتائج ثلاث، تقول الأولى: يساوي الإنسان جملة الوقائع النافعة التي أنجزها، الموّحدة بين العقل والزمن ومعرفة متوالدة لا سبيل إلى استكمالها. ولكن قد نسأل: ماذا لو استسلم بطل الحكاية إلى الفراغ، أي الملل الممضْ؟ ينوس الجواب بين طرفين: تدمير الذات، إذ في الوحدة ما يفضي إلى الجنون، أو تدمير الطبيعة المحيطة به، ذلك أن الإنسان المستقيل من الفعل العاقل، ينجز أشياءً فاسدة.
وقد نذهب إلى سؤالنا مباشرة: ما الذي يمكن أن يفعله إنسان فقير المبادرات ألزمه مرض الكورونا بالبقاء في بيته مع آخرين؟ ينطوي الفقر في المبادرة على الاحتفاء بالغريزة، التي لا تستثير العقل ولا تتعامل معه، ذاهبة مباشرة إلى جملة من الأفعال العمياء مرجعها الأول: العنف الذي يلحق الأذى بالآخرين، فإنْ وسّع مجاله غدا عنفاً أسرياً، يقوض أسس الحوار والتكامل الاجتماعييْن. وبداهة فإن العنف الغريزي الذي يطرد الحوار، يفكك الجهود العاقلة التي يحتاجها الناس المحاصرون في زمن يثير الخوف والقلق. ففي زمن الأزمات يلجأ المأزومون إلى الخبرات المتراكمة، التي تتضمَّن الحوار والمسؤولية والتسامح والغفران، وكلّ ما يستعيض عن زمن ضيّق بآخر أكثر دفئاً واتساعاً. وبقدر ما أتاحت الإشارة إلى «حي بن يقظان» التمييز بين العقل الفاعل الذي يطرد الفراغ والعقل المستقيل المسكون بالسأم؛ فإن في العودة إلى اليوناني القديم «أفلاطون» ما يفصل بين أجزاء الروح غير العقلانية التي تُسلّم قيادة الحياة إلى غرائز مدمرة، وتلك المغايرة لها، المحتفية بحياة الإنسان والحفاظ عليها، وبذل الجهود الفردية والجماعية لحماية مجتمع يتهدّده الأذى. وهناك التمسك بالقوانين العقلانية، كما البحث العاقل المتناتج الذي يفصل بين الاستخفاف بالمرض، الذي هو امتهان لحياة الآخرين، ومواجهته بشكل إبداعي، فللإبداع مكان في الفنّ والأدب ومحاربة الأمراض، أيضاً.
تُحيل الملاحظات السابقة إلى فضيلة التضامن، النافية للملل والسأم، ومبدأ: «الواحد الأناني المكتفي بذاته»، ذلك أن الفردية الأخلاقية، في زمن الأزمات، ترى المجموع قبل الأفراد، والفعل قبل اللامبالاة والنجاة قبل الهلاك. فمن لا يرى إلّا ذاته يطلق النار، فعلياً أو مجازياً، على الآخرين، حال بطل «البير كامو» في رواية «الغريب»، الذي بدّده الملل في يوم قائظ، وأراد أن يبدّد الملل، ووجد الحل في إطلاق النار على إنسان عربي بريء، لا يعرفه ولم يلتقِ به.
يستدعي العالم الانفعالي للإنسان المبدأ الأكثر فاعلية في الحياة الإنسانية: التحكم بالذّات، ما يعني طرد الأهواء والمشاعر النافرة والمنفرة، التي تلبي رغبات لا يعترف بها المجموع. تحدث الفيلسوف «سبينوزا»، وهو يهجو الطغيان، عن «التحصين العقلاني للإرادة»، التي تسيطر على الدوافع غير المشروعة، ومنها الملل، مؤكّداً أن «العقل أداة موائمة لصقل الأقوال والأفعال»، فطرد العقل هو طرد حياة الإنسان كما يجب أن تكون. كان أفلاطون في كتابه «الجمهورية» قد ذكر: «أن العواطف الكريمة تخضع إلى العقل، كما تخضع الكلاب إلى الرعاة».
لن يكون الملل، والحال هذه، الذي يقلق الإنسان الملول ومن حوله، إلّا «كلباً ضالاً»، يُلحق الضرر «بالقطيع كلّه»، يبدّد الزمن في مواضيع فاسدة ومفسدة. ذلك أن «الروح العاقلة» تأخذ بزمن متصاعد، ينتقل من خير إلى آخر، بينما زمن الملل تكراري، يومه كأمسه، وغده لا معنى له، ما يرمي بالإنسان إلى حلقة مفرغة جامدة الشكل ميتة المضمون. إن زمن الشدة، إن أُحسن استثماره، يجلو العقل بأسئلة جديدة، ويرتقي بالروح، ويفتح لها أبواباً لتأمل السماء والأرض، بل إن في غرابة وباء «كورونا» ومكره ما يحض على مساءلة أوضاع الإنسان والوجود، و«مواساتها» بالعودة إلى عالم الثقافة والفنون، وتعاليم الأديان.
تحرْض العزلة القسرية التي يفرضها «كورونا» على فعلين، أولهما: أن يمتحن الإنسان ذاته، وأن يستنطق عالمه الداخلي، وأن يروّض ذاته، وأن يوسّع حدود احتماله، وأن يمرّ على أحوال الروح المختلفة: الخوف، القلق، التشاؤم، التفاؤل، العزيمة…. وعلى جميع الأحوال التي لا تقبل «بالملل»، ولا يقبل بها، إذ في الخوف سؤال، وفي القلق هاجس، وفي التشاؤم والتفاؤل حوار مع الإرادة، وفي العزيمة استنهاض للعقل والروح والخبرة معاً. بهذا المعنى، يمكن الحديث عن: ثقافة الأزمة، وثقافة مواجهة الأزمة.
أمّا الفعل الثاني فعنوانه: الصبر، لا بمعنى الاستسلام بل القدرة على تحمّل ظرف صعب قابل للرحيل. نقرأ باللّغة العربيّة: «تجمّل بالصبر»، كما لو كان الصبر فعلاً جميلاً، ينقذ الصابر والصابرين، وهو ما لا يستطيع فعله إنسان ملول مسكون بالنقمة والتطلّب، لا يسأل الآخرين المعونة والصبر، إنما يقتل وقته بمسليّات مبتذلة.
أنتج السوق، كما هو الحال دائماً، بضاعة تعالج الملل، مثل: الأفلام الرديئة، والروايات الهابطة وما يشتق منها، تعيد إنتاج الملل بأكثر من شكل. فالملل لا علاج له، فهو أقرب إلى الموت، على خلاف «ثقافة الحياة» التي أدركت في الأزمنة جميعها، أن الإنسان يذهب إلى نجاته، ولا تأتي نجاته إليه، حتى لو كانت طرق النجاة صعبة وطويلة.
وسواء استقدم الملل ثقافة مبتذلة وعادات أكثر ابتذالاً، فإن معنى الإنسان يقوم في خياره، في التصرّف بكمْ الزمن المعطى له، أكان ذلك بحرية واسعة أو محدودة، ذلك أن القول بخيار حر أو منقوص الحرية؛ يتعيّن ببعد أكثر أهمِّية عنوانه: المسؤولية، فخيار حر رشيد يفضي إلى مصلحة الفرد والمجموع، أما خيار بائس فيعود على الطرفين ببؤس جديد.
من المحقق أن زمن «كورونا» بدّل دلالة التصورات القائمة والموروثة، فقد تغيّر مصدر الخوف، وقواعد العلاج والوقاية، وتراجع اليقين القائل بأن الإنسان يعرف كلّ شيء، وأنه قادر على ترويض ما يؤرق حياته. بيد أن من المحقق -أيضاً- أن «الإيمان» عنصر لازم لقيادة الحياة وتحملها، على اعتبار أن الأمل هو الوجه الآخر للإيمان.
في زمن غير هذا، كانت مقولة الملل، وهي تُحيل إلى مفردة أدبية وفلسفية ونفسية، على خلاف اليوم، حيث تبدو جزءاً، لا يقبل به المجموع المتفائل الذي يواجه الخوف وينشد الأمل.