المِسْترال والحَجْر

| 11 أغسطس 2020 |
إحساس غريب، مثير، يملؤني ويستحوذ على مشاعري وأنا أشاهد وألمس هوْجة المِسترال، تلك الريح الشمالية العنيفة الباردة، الجافّة، التي تهبّ على مناطق فرنسا القريبة من البحر الأبيض المتوسط. حين تهبّ، أجدني أتابع ما تفعله بالأشجار، إذْ تخضّها خضّاً وتنفضها من جذورها فتسري الرعشة في عروقها وأغصانها مُحدثةً ما يُشبهُ كورالاً يَعزفه حفيفُ الأشجار على اختلاف قاماتها وألوانها. هل تلك اللحظات التي يعصف خلالها المِسترال هي بمثابة تجذير لها في أعماق التربة ليجعلها تقاوم كلّ اقتلاع؟ آهٍ من الاقتلاع الذي يُلاحقني شبحُه في لحظاتِ الملالة والخمود فأتمنَّى، وأنا أسترجع مشهد الأشجار وهي ترجفُ في قبضة المِسترال، أنْ أغدوَ مثلها: تخضُّني الريح العاتية فتُشعل دواخلي وتُعرّيني من كلّ لبوس كي أقدر على التواصل مع ما يجعلني «حقيقياً» وسط هذا الكون المُلتبس، المُضطرب. لديّ إحساسٌ غامض، كلّما زار المِسترالُ هذا الفضاء المُحاط بالأشجار، الذي أسكنُه، أن النفض الذي يُمارسه على الأشجار هو في الآن نفسه نفْضٌ لجسدي وأفكاري وأحلامي المكرورة… عندئذ أبادر إلى إغماض العيْنيْن واستنشاق الريح الشمالية العنيفة بكُلّ جوارحي، مُستسلماً لِهُبوبها علّهُ ينقلني إلى تلك المنطقة المُتمنِّعة، حيث تكون الحياةُ أكثر من حياةٍ واحدة، أكثر من أحداثٍ ووقائع وطقوسٍ مُعتادة: حياة تشمل الجسد والنفس والذاكرة وتُحصنُ الكيان البشريّ من كلِّ تجزيء…
مع الأيام، غدوتُ أترقَّب زيارات المِسترال الذي يطردُ المطر والغمام والدّكنة التي ترينُ على الخاطر وتنشر الكآبة والخمولَ. والجميل في هذا اللقاء مع الريح الشمالية هو أن زمن نفْض الأشجار وتحريك العُشب يدوم ساعاتٍ وساعات فيغدو هذا الجزءُ من الطبيعة مكسُواً بدينامية تنفث الحركة وتنشر عالياً صوت الرياح وهي تخترق الأغصانَ والفجوات وتنفذ إلى كلِّ فضاءٍ غير مُحصّن. وعندما يتعب المِسترال أو يعود إلى مستقرّ لهُ مجهول لديّ، تكتسي الطبيعة، أرضاً وسماءً، حُلة الصّحو والإشراق والنصاعة الناطقة. عندئذٍ أغوص في النصاعة المُطمئِنة وأجدِّد تدريجاً، ما ينقصني من أوْهامٍ وتطلّعاتٍ لمُتابعة الأيام والليالي في انتظار ذلك المُستقبل الغامض علّهُ يُبدِّد الفسولة والكوابيس والقنوطَ… لكنْ، سرعان ما أجدُني تحت شجرة التوت الوارفة مُتطلِّعاً إلى هبوب المِسترال لينفضَ عني ما تراكمَ على الجسد والعقل والنفس من أدرانٍ ومن تساؤلاتٍ عن الصدفة الكامنة وراء وجودي نطفة حائرة أخذتْ تنمو وتواجه لُغزيّة الحياة من دون أن تدري شيئاً عن مآلِ صيرورتها.
مع الحَجْر الذي فرضه وباء كورونا، صرتُ أتوهَّمُ أن إحساسي زادَ بأنني أعيش مفصولاً عن أشياء كانت تمنحني طمأنينةَ الانتماء والانصهار والتآلف مع ما يُحيط بي. لم أعد أعرف مَنْ أنا، أو بتعبيرٍ أدقّ، العيشُ قريباً من بالوعة الجَائِحة هو ما أنساني مَنْ أكون؟
أقول مع نفسي: مَنْ يدري؟ لعَلّ المِسترال في مرّةٍ قادمة، وهو ينفض الأشجار، يتمكَّنُ من النفاذ إلى أوصالي الشائِخة، الناعسة، الخائِفة، فينفض عنها الخمول ويُحصِّنُها ضد الجَائِحة، ويزرع في جنباتها تلك البِذرة التي تجعل من حياتي أكثر من حياة؟
مارجريت ديراسْ والكتابة
أقرأ هذه الأيام كتاب «الصديقة «(L’Amie) الذي كتبتْه الراحلة «ميشيل مونسو» سنة 1997، مستفيدةً من صداقتها الحميمة مع الكاتِبة المُتميِّزة «مارجريت ديراسْ» التي كانت تسكن أيضاً بالقرب منها في بلدة «نوفل-لوشاتو». والكتاب عبارة عن حوار طويل تتناول أسئلتُه الحياة الخاصّة والتجارب الحميمة للكاتِبة وأيضاً بعض القضايا المُجتمعية. لكن المحور الجوهريّ ينصبّ على علاقة «مارجريتْ» بالأدب والكتابة. وتوضِّح «ميشيل» أنها أعطت الأسبقية في هذا الحوار لما كانت «مارجريتْ» تتفوَّهُ به خلال لقاءاتهما العديدة بحكم الجوار وألفة الصداقة. واللافت في تلك الأقوال والتعليقات أنها تشتمل على نفوذ البصيرة وسداد الرأي؛ ومن ثَمَّ حرصتْ على تسجيلها وإيرادها كما هي. وبالنسبة لي، أثار انتباهي المكانة الخاصّة التي احتلتْها الكتابة في حياة «ديراسْ» وجعلتْها تكرِّس كلَّ أوقاتها لمُمارستها؛ بلْ أصبحتْ أداةَ علاج لمُشكلات حياتها العاطفيّة. تقول «مارجريت» عن أهمِّية الكتابة بالنسبة إليها: «ميّتة، أستطيعُ بَعْدُ أن أكتب». هذا منتهى الشغف بالكتابة. وهي تشرحه على النحو التالي: «اكتشفتُ أن الكِتاب هو أنا. وموضوعُ الكِتاب هو الكِتابة، والكِتابة هي أنا». وخلال الحوار تؤكِّد «مارجريت» على أن الكِتابة هي أساس المُقارنة والتمييز بين الكُتَّاب، مُلاحظة أن «جان بولْ سارتر»، مثلاً، ليس كاتِباً في نظرها. وهذا رأي سبق أن سمعتُه من «جانْ جونيه» في الرباط حين سألتُه عن رأيه في الكتاب الضخم الذي نشره «سارتر» عن «فلوبير» بعنوان «عبيط العائلة»، فقال لي ما معناه: «سارتر» ليس كاتِباً ولذلك هو يحقد على «فلوبير» ويريد أن يحطِّمه من خلال التأويل الأيديولوجيّ! ونظراً للأهمِّية التي تُوليها «مارجريت» للكتابة، حاولتْ مؤلِّفة الكتاب/ الحوار أن تتساءل عن العنصر الذي يجعل النُقَّاد في فرنسا يعتبرون صديقتها كاتِبةً متميِّزة: هل هو استيحاؤها للذات في تقلُّباتها وحميميّتها؟ أم يعود ذلك إلى لغتها المُتدفِّقة النابعة من مشاعر دفينة وطاقة عاطفية لا تنضب؟
خلال تأمُّلي في خواطر هذا الحوار الخصب، وجدتُ بالفعل، أنه في عالمنا الضّاجّ بالمعلومات والإحصائيات المُتناسلة والأكاذيب المُجاورة للحقائق، يصبح الأهمّ بالنسبة للكاتِب والروائي والشاعر، هو أن يقدِّم شيئاً خاصّاً، حميمياً يُلامس جوانب مهملة لكنها تستثير انفعالات إنسانية تتخطَّى الظاهر لتغوص في اللامرئي، وتعبُر من الخاص إلى شيءٍ أشمل، دون أن تفرِّط في الجانب الحميمي الذي يفسح المجال لخصوصية اللّغة وفرادة صور الذاكرة… لكنْ، عندما تجعل «مارجريت» الكتابة مُعادلاً لـ«الأنا»، يحقّ لنا أن نتساءل كيف تحدِّد هي الأنا وكيف تستخلصها ممّا ليستْ هي؟ إنها تجعل المقياس هو الاحتكام إلى الإحساس الذاتي في مواجهة العَالَم الخارجيّ لالتقاطِ ما يترسَّبُ في نفوسنا وذاكرتنا من تجارب الحياة وتفاصيل العلاقات مع الآخرين.. غير أن «الأنا»، مع جميع الافتراضات، ليست كتلة منفصلة عمّا حولها ولها كيانٌ يسهل التعرُّف عليه من لدُنِ الآخرين. مع ذلك، أرى أنه عندما يقول المُبدع: الكتابة هي أنا، على غرار ما قالته «ديراس»، فإنه يكون محقّاً على رغم أن العبارة يكسوها التعميم والالتباس ولا تحيلنا على شيءٍ ملموس. ذلك أن «الأنا» هي مربط الفرَس، لأنّ الإبداع عموماً يتمايَزُ من خلال تمايُز الأنوات المُبدعة، انطلاقاً من مُكوِّناتها الجينيّة والبيئيّة ووصولاً إلى جماع تفاعلاتها مع العصر الذي عاشت فيه، والسياق الذي أثَّر في تكوين رؤية الأنا إلى نفسها وإلى الكوْن والآخرين ضمن شروط لا تخلو من جِدالٍ وصراع… لذلك، إذا قال الكاتِب: الكتابة هي أنا، علينا ألّا نسلِّم بأنّ تلك الأنا قائمة من دون امتدادات وتشابكات مع الآخر ومع المُحيط المُتشابك مع مجرى العَالَم. من الصعب أن نسلِّم بأنّ الأنا كيانٌ ذاتيُ الوجود يجسِّد العَالَم ويختصره، وكأنه يستمدّ هذه التمثيلية من سرّ ربّانيّ أو سليقة موروثة. لا مناص، إذن، من أن نتخذ ما تعبِّر عنه «أنا» الكاتب مِقفزاً يسعفنا على تبيُّنِ تفاعلاتها مع الموروث والمُكتسب، مع المعيش والمُلقن… وفي جميع الحالات، يظلّ القارئ والناقِد في حيْرة عند تقييمهما لكتابات المُبدعين، إذْ ليس من السهل تحديد دور «قواعد الفَنّ» ودور عبقرية «أنا» الكاتِب أو موهبته في احتواء الكتابة لتصبح معادلاً لأناه.