«النار ما تورِّث إلّا رماد»: هيمنة ثقافة المطابقة على المغايرة

| 06 أكتوبر 2021 |
«النارْ ما تورِّث إلّا رماد»، صيغة يمنية لمَثَل عربي يتمّ تدواله في العديد من البلدان العربية، تقريباً، بصيغ متقاربة، ويراد به وصم الأبناء الذين تنكَّبوا سيرة آبائهم، وسلكوا طريقاً خاصّاً، مبتعدين عمّا قد يُعتَبر ميراث الآباء في النباهة أو النجابة أو المجد. وكما يظهر، صيغة المثل مزدوجة ملحونة، فلا هي فصحى ولا هي عامِّيّة، إذ تحافظ مفرداته على بنيتها الصرفية الفصحى من غير قواعد إعراب، مع بساطة التركيب الذي تنطوي عليه الجملة في العامِّيّة؛ وهذا قد يدفع إلى الاعتقاد أن هذه الصيغة قد تكون مجرَّد تحوير لمثَل عربي قديم؛ لا بسبب صياغته اللغوية، فحسب، بل بالنظر إلى تعلُّق محتواه بموضوعات النسب والميراث التي كانت تلقى عناية كبيرة في المجتمعات العربية القديمة، أيضاً. لكننا حين عدنا إلى بعض مدوَّنات الأمثال العربية القديمة ككتاب «الأمثال» للضبي، و«مجمع الأمثال» للميداني و«جمهرة الأمثال» للعسكري، لم نظفر بما كنّا نعتقده أصلاً للمثَل أو مقارباً له في المعنى.
من السهولة ملاحظة ما ينطوي عليه المثَل من تعميم، ونزوع سلبي تجاه الأبناء، والتقليل من شأن كلّ خَلَف جديد يحيد عن الطريق المرسوم سلفاً، بشكل مطلق. ويبدو أن هذا المعنى لم يكن مستساغاً لدى العرب القدماء، ولا يصدرون عنه في أمثالهم، بل كانوا -على العكس من ذلك، تماماً- يظهرون اهتماماً بالغاً بالأبناء، وتوريثهم مكارم الأخلاق والسؤدد؛ لا على جهة المطابقة بل على جهة التفرُّد، ويتبدّى ذلك، بوضوح، فيما ضمّه الأدب العربي القديم من مقولات وأمثال ووصايا تعزِّز من ثقة الأبناء بأنفسهم وقدرتهم على الاهتداء إلى طريقتهم الخاصّة في العيش. ومن المقولات التي تُنسَب إلى عمر بن الخطاب، أوردها الجاحظ في إحدى رسائله: «الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم»، ويُفهَم منها الحضّ على تربية الأبناء وتهيئتهم لزمنٍ غير زمن الآباء، فهي مقولة مناقضة، تماماً، لمنطوق المثل العامّي المتأخِّر؛ لأنها تعكس وعياً عالياً بتغيُّر الشروط واختلاف الظروف التي يعيشها كلّ جيل، وينعكس أثرها على سلوكه ومسارات حياته.
وهذا لا يعني أن المجتمع العربي القديم لم يكن يهتمّ بأن يَخْلِف الأبناء آباءهم من ذوي النباهة والفضل، فهذا جانب طبيعي يتوق إليه كلّ أب حقَّق قدراً من النجاح والشهرة. والعرب القدماء كانوا من أكثر الشعوب حضّاً على التمسُّك بتقاليد الشرف وميراث الآباء وأمجادهم، لكن لم يكن لديهم هذا الميل إلى التقليل من شأن الأبناء، وبث روح الإحباط في نفوسهم، على النحو الذي يكشف عنه هذا المثل المتأخِّر. فلكلِّ خَلَف ظروفه ولياقته النفسية، والفكرية ليكون هو نفسه لا مجرَّد تابع لسلفه أو صورة مشوَّهة منه، فإنْ (وَقَعَ الحَافرُ على الحافر)، وسلك الابن طريق أبيه اعتبروا المشابهة أمراً طبيعياً ونسبياً، ولم ينظروا إليه بصفته أمراً حتميّاً. ويتجلّى هذا النزوع المتحفِّظ تجاه المشابهة في المثل العربي الشهير: «مَنْ أَشْبَه أباه فما ظَلَم». وقد اختلف القدماء في تفسير هذا المثل ومدار الاختلاف حول الفعل «ظَلَم»، إذ يذكر الميداني في أحد الأقوال أنه يجوز: أن يُراد (فما ظَلَمَ الأبُ)، أي أن الأب لم يظْلِم حين وضع زرعه حيث أدَّى إليه الشبه، وهذا تفسير بعيد نوعاً ما عن مقتضى البناء اللغوي للمثل، وهذا البعد في التفسير ينطبق، أيضاً، على ما ذهب إليه آخرون أن مفعول الفعل «ظَلَمَ» محذوف، ويُفهم من السياق حيث الأصل في الكلام: من يشابه أباه فما ظَلَمَ أَمَّه. وواضح من التفسير الأخير أن أصحابه قد فهموا الشبه على أنه شبه الشكل واللون والملامح لا شبه المسلك والفعل، وهذا فهم غريب وغير مقبول؛ لا في العرف ولا في الشرع، فليس هناك من جعل شبه الابن لأبيه أو عدم المشابهة دليلاً على استقامة الأمّ أو عدم استقامتها، بل المقصود الشبه في السلوك والصفات الخُلُقية، ويرجِّح هذا القصد تضمين المثل في بيت شعر قديم في مديح عدي بن حاتم الطائي:
بأَبِهِ اقتدى عَدِيٌّ في الكَرَمْ
ومن يُشابه أَبَهُ فما ظَلَمْ
إن حصر هذا الاقتداء في خلّة الكرم دليل واضح على أن الشبه المقصود هو شبه في المسلك والفعل لا في الشكل والملامح، ومنطوق المثل يشير إلى أن حصول المشابهة واحتذاء الابن لخطوات والده ليس أمراً حتميّاً بل هو نسبي، وحين يأتي مسلك الابن مشابهاً لأبيه فهو بذلك لم يجاوز الحدّ بل وضع الشبه في موضعه الصحيح، فالظلم، كما يذكر أبو هلال العسكري، هو وضع الشيء في غير موضعه. وكأن هذا المثل القديم يقول لنا من طرف خفّي: إن التقليد نمط سيِّئ أو نوع من مجاوزة الحدّ، فالأصل في البشر التفرُّد، وأن كلّ فرد لا بدَّ أن يكون نسيجاً لوحده، وأن تقليد الابن لفعال والده هو ممّا يُغتفر، ولا يدخل في دائرة الظلم.
وبناءً على ما سبق، يظهر لنا أن المعنى الذي تضمَّنه مثلنا العامّيّ هو معنى مولّد أفرزته ثقافة المتأخّرين، ولم يعرفه العرب القدماء. وبحسب تتبُّعنا لصيغ هذا المثل، عثرنا على صيغة تعود إلى القرن الرابع الهجري، حيث يورد القاضي التنوخي في كتابه «نشوار المحاضرة» (الجزء3، ص73) حكايةً لأحد معاصريه النابهين، يُظهِر فيها تحسُّراً شديداً على تأخُّر ابنه في النباهة والعلم، فيقول:«خَلَفُ النَّار الرماد»، وهذه صيغة لا تظهر عليها طلاوة الكلام العربي الفصيح، إنما هي من كلام مثقَّفي القرن الرابع الذين داخَلَ لسانَهم الكثيرُ من الهجنة. في حين تطالعنا أحدث صيغة للمثَل في كتاب «الأمثال العامِّيّة» لأحمد تيمور باشا: «ولا تلد النارُ غيرَ الرماد» مضمَّنةً في بيتيَنْ من الشعر، مجهولَيّ النسبة. وبالمقارنة بين صيغة مثلنا العامّي، وما ورد في كتاب تيمور، نجد أن ليس ثمّة اختلاف كبير بينهما إلّا في تغيير تركيب جملة المثَل، فتحوَّلت، في العامِّيّة، إلى جملة اسمية بالإضافة إلى استبدال الفعل «تورّث» بالفعل «تلد»، وهو اختلاف ناتج عن ميل العامِّيّة إلى التخفُّف من قوّة المجاز في كلمة «الولادة»، والاكتفاء بمعنى الورث أي ما يبقى عن توهُّج النار.
يقول الشاعر:
إذا ما رأيتَ فتى ماجدّاً
فكُن بابنه سيِّئ الاعتقاد
فلستَ ترى من نجِيبٍ نجيباً
ولا تلد النارُ غيرَ الرماد
ففي البيت الأوَّل منهما لم يقطع الشاعر، تماماً، بأنه لن يأتي من الماجد ماجدٌ بل ترك فسحة للنظر، ودعا إلى الشكّ والتحقَّق، وكأنه بذلك يوحي بأن توريث المجد مجرَّد احتمال ضئيل، وأمر نادر. لكنه في البيت الثاني ينتهي إلى انتفاء أن تقع على نجيب من نجيب كما هو شأن النار التي لا يتولَّد عنها سوى الرماد. فهل المجد مرادف للنجابة؟ هل ينظر الشاعر إلى المجد والنجابة كشيء واحد أم كمعنيَيْن مختلفَيْن؟ وهل إثبات وجود نسبة ضئيلة في توريث المجد، ونفي توريث النجابة في البيتين، يعنيان أن الشاعر يفرِّق بينهما؟ قد يستخدم النجيب مكان الماجد غير أن الكلمتَيْن لا تتردافان تماماً، فالمجد هو العزّ والرفعة، في حين تنصرف دلالة النجيب إلى النفيس في نوعه. يبدو أن الشاعر لا يعتبرهما شيئاً واحداً بل يفرِّق بينهما، فمن لوازم المجد الوصول إلى مرتبة عالية في الزعامة والمُلك أو في العلم والأدب، وتعني النجابةُ الشمائل أو الطاقات الخُلقُية والسلوكية، وبهذا يصحّ معه إثبات وجود نسبة ضئيلة في توريث المجد، وانتفاء توريث الشمائل لأن كلّ شخص يمثِّل نسخة وحيدة من السلوك والصفات الخُلقية التي لا يمكن أن تتكرَّر، في حين أن المجد قد يتمّ توارثه لمواضعات تتجاوز اختيارات الفرد. وهناك نماذج وافرة من هؤلاء الأبناء الذين كانوا ورثة لآبائهم في العلم والمعرفة، على نحو ما نجده في الكثير من الأسَر العلمية التي استمرَّ لأجيال عديدة في ثقافتنا العربية، وبعض هؤلاء فاقا والديهم علماً وشهرةً، كالمؤرِّخ والفقيه عبد الوهاب السُّبكي، ووالده تقي الدين السُّبكي، والكاتب محمَّد المويلحي، ووالده إبراهيم المويلحي، والشاعر اليمني عبد الله عبد الوهاب نعمان ووالده القاضي عبد الوهاب نعمان. وفي مجال الزعامة السياسية توجد الكثير من النماذج أمثال الخليفة العباسي المهدي وخليفتيه هارون الرشيد، وابنه المأمون وبعض أبناء السلالات الحاكمة كالأمويين في الأندلس والمماليك والعثمانيين، والشواهد كثيرة لدى مختلف الشعوب والأمم، أشهرها ملك مقدونيا «فيليب الثاني» وابنه «الإسكندر الكبير»، وكلّ هذه شواهد تقف على الضدّ من منطوق المثَل العامّيّ أو البيت الشعري.
يتمّ التركيز، في المثل، بصيغتيه: الفصحى، والعامِّيّة، على الخلَف لا على السلَف، فالفتى الماجد هو، في الأصل، خلف لأب خامل، ولا ضير أن يأتيَ خاملٌ من ماجد؛ لأن هذه سنّة الحياة ودورتها الطبيعية بما يكتنفها من مؤثِّرات وعوامل، يغدو بها المرء ماجدّاً أو خاملاً، فالمسألة، في نهاية الأمر، تخضع لمجموعة كبيرة من الظروف التي لا يستطيع الفرد التحكُّم فيها أحياناً. فلماذا يتمّ التركيز، فقط، على ابن الماجد لا على سَلَفه الخامل الذي انحدر منه؟ إن بزوغ فتًى ماجد من أب خامل هو ما يلفت الانتباه، لأن هذه الحالة تعني انتقالاً من السكون إلى الحركة، ومفارقة للمألوف المتمثِّل في أن يكون الابن خاملاً كأبيه، لكنه تَجَاوَزَ الشروطَ المحيطة به، فغدا شيئاً مختلفاً عن أبيه؛ من هنا يصبح الماجد معياراً ومقياساً لما يتلوه، ولذلك كان التركيز موجَّهاً إلى خَلَف الماجد لا إلى سَلَفه.
غير أن استخدام المثَل في بيئتنا المحلِّيّة، كثيراً ما يأتي كردَّة فعل تجاه المسار الذي يسلكه بعض الأبناء، مبتعدين عن مسالك آبائهم، وغالباً ما يكون الغرض من ترديد المثَل محاولة النَّيْل من هؤلاء الأبناء، وذمِّهم، والحدّ من سلوكهم المغاير، بغضّ النظر عن طبيعته، سواء أكان إيجابياً أو كان سلبياً. ولا شكَّ في أن تداول المثَل في مثل هذه المواقف لا يعني سوى حشر الابن داخل إطار صورة الأب التي ترسَّخت في محيطه الاجتماعي، وعُرف بها، فتتحوَّل هذه الصورة إلى معيار يتمّ، من خلاله، قياس سلوك الابن، وردّه إليها، فالابن يُنظَر إليه، دوماً، بوصفه امتداداً لوالده، وليس شخصية مستقلّة بذاتها، لها طموحها الخاصّ وتصوُّرها المختلف للحياة، وللدور الذي ينبغي تقوم به. وهذا الموقف الذي يتَّخذه المجتمع تجاه الابن يعبِّر، بشكل واضح، عن ميل إلى التنميط واعتبار كلّ خَلَف مجرَّد تابع للسلَف، كما يعبر، أيضاً، عن نزوع جماعي إلى قمع كلّ سلوك جديد أو مغاير يسعى إلى معاكسة ما قد تعتبره الجماعة من الثوابت التي استقرّت عليها، حتى وإن كان هذا الثابت ممثَّلاً في صورة فرد واحد هو الأب. وقد يكون موقف الجماعة الرافض لتوجُّه الابن نابعاً من الشعور بالتهديد من مسلك الابن، للمكتسبات التي راكمها والده ضمن محيطه، أو ضياع للمصالح التي كانت تجنى من خلال الأب.
إذاً، إن تداول المثَل كثيراً ما يتحوّل إلى سوط يُجلَد به الأبناء كلّما صدر عنهم تصرُّف أو اختيار طريق مغاير لسلوك آبائهم، وفي الغالب لا يكون الباعث على تداوله مراعاة الصالح العامّ، بل شعور الأفراد أو الجماعة المحيطة بأن مسلك الابن يتعارض معها، ولا يحقِّق رغباتها، فتلجأ -بوعي أو بغير وعي- إلى التباكي على صورة الأب وميراثه؛ ذمّاً للابن، وتقليلاً من شأنه، واستصغاراً لمسلكه. وقد يسفر هذا التوجُّه الجماعي عن واحدة من ثلاث نتائج؛ فإمّا أن يتمّ تحويل الابن إلى مسخ مشوَّه من والده، وقد يفقد الابن بوصلة الطريق ويتحطَّم. وهناك قلّة، فقط، من هؤلاء الأبناء، ينجحون في الوقوف في وجه والديهم والجماعة المحيطة، وفرض شخصياتهم وخياراتهم التي تتجاوب مع طموحاتهم، وتطلُّعاتهم الفريدة. ولا شكّ في أن هذا المثَل يحتاج إلى مزيد من التحليل لاكتناه الأبعاد الاجتماعية والأبعاد السياسية التي تشكَّلَ فيها، والكشف عن ترسُّبات المنظومة الثقافية في العصور الإسلامية المتأخِّرة، التي ما تزال تلقي بأثرها على مجتمعنا، وتتحكَّم في الكثير من ممارساتنا ومسالكنا في التفكير والحياة.