«اِرتدِ قناعَك» الحياة بنصف وجه!

| 02 أغسطس 2020 |
لا ينفصلُ الإنسانُ عن وَجْهه، إذ به يتميّزُ وبه تتحدّدُ هُويّتُه، وقد تهيّأ الوَجهُ، انطلاقًا من تركيبته، لأن يكون مُضاعَفًا، على نحو جعلَ الإنسانَ منذورًا مُنذ البدء لأن يَعيشَ بوَجهيْن، لا بالمعنى القدحيّ الذي اقترَن فيه الوَجهُ بالنفاق، وبإظهار المَرء غيرَ ما يُبطن، وبالتلوُّن والتحايُل. فالمعنى القدحيّ منحىً آخَرُ لتأوُّل الوَجه وَفق الامتدادات المُتشعِّبة التي يَشقّها هذا المنحى للتأويل، ووَفق فِعل الانتحال بتعدُّد صيَغه التي تنتظرُ دراسات عديدةً لاستجلاء تعقّد هذا الفِعل في مظاهره الأولى، ولاستجلاء حتّى غناه الأدبيّ قديمًا، قبْل أن يَغدوَ جُزءًا من الحيَاة ومظهرًا من مظاهر تقلّباتها وزيفها. المقصود، في هذا السياق، بالعَيش بوَجهيْن، غيرُ ما يُستفادُ من المَنحى القدحيّ السابق، إذ المُراد به أنّ الإنسانَ خُلقَ على صورةٍ ضدّيّة شكّلتْ أسَّ كينونته، وأنّ الوَجه، في تَركيبة الإنسان، كان أكثرَ أجزائها تجسيدًا لهذه الضدّيّة. فقدِ انطوَت ملامحُ الوَجه دومًا على هذا البُعد الضدّيّ، إذ عليها يَرتسمُ الشيءُ وضدُّه؛ يرتسمُ الحُزنُ والفرَح، الغضبُ والرضا، السكينةُ والقلق، وغيرها من الأضداد، لأنّ هذه الملامح قابلة لاحتضان كلِّ التقابُلات.
إنّ قابليّة الوَجه للتلوُّن تُوازيها أيضًا طاقتهُ على الإظهار والإخفاء، بل على إظهار الوجهِ غيرَ ما يُبطن، أي إظهار الشيء مقلوبًا إلى ضدّه، لأنّ تَركيبة الوجه قائمة، في الآن ذاته، على ما يُرى فيه وعلى ما لا يُرى، وهو، من ثمّ، ظاهرٌ وباطن. إنّ للوجه، في حقيقته، ظاهرًا يرتبط بما يَبدو منه، وباطنًا مَطويًّا في ما يُرى منه وفي ما لا يُرى، حتى إنّ لفظ الوجه في اللسان العربيّ يدلُّ، ممّا يدلُّ عليه، على القلب. لقد كان لظاهر الوَجه معنى لا حدَّ لتفرُّعاته وأبعاده، قبْل أن يَختلَّ هذا الأمرُ راهنًا بسبَب القناع الذي صارَ مُلازمًا للوَجه، بل غدا عُنصرًا دخيلًا عليه، ممّا حرَمَ الوجهَ مِنْ ظاهره الذي به وفيه يشتغلُ باطنُه أيضًا؛ فضاع الباطنُ بضَياع الظاهر. بهذا المعنى الضدّيّ الذي تستوعبُه دلالةُ الوجه، هيّأتْ ملامحُهُ دَومًا إمكانَ قراءته مِن ثلاث زوايا؛ زاوية الظاهر وزاوية الباطن، وهُما أساسًا زاويتان تُجسِّدان كلَّ التقابُلات التي يَقوى الوَجهُ على احتضانها، ثمّ زاوية ثالثة لا تقوم على التقابُل، بل على عُنصر ثالث يتأتّى من لقاءِ الضدّيْن في الوَجه، إذ ليس عبثًا أن يكونَ الوَجهُ بعَينيْن وأذنيْن وبلسانيْن، حتى وإنْ لم يُضاعَف اللسانُ عضويًّا في الوجه، إذ يبقى مُضمِرًا للمُضاعَفة انطلاقًا من طاقته اللانهائيّة على قول الشيء وضدِّه.
ما تَشكّلَ الوَجهُ على هذه الصورة المُضاعَفة إلّا ليتسنّى له أنْ يَرى باحتماليْن ويُرَى بهما أيضًا، ويُسْمَعَ بصيغتَيْن ويُسْمِعَ وَفقهُما كذلك. فالوجه، أيُّ وجه، مُضاعَفٌ بمَعنيَيْن؛ هو مُضاعَفٌ بما ينطوي عليه ويَجعلهُ قابلًا لأنْ يُتلقّى في ضَوئه، من جهة، وبما به يَتلقّى هو نفسُه الآخَرَ، أي ما به يَتلقّى خارجَه، من جهة أخرى، لأنّه يَرى بعَينيْن ويَسمَعُ بأذنَيْن. المُضاعَفة، في الحالتيْن، ذاتُ صبغة ضدّيّة. وحتّى اللسان، بما هو عضوٌ من أعضاء الوَجه، يَنطوي كما سبَقت الإشارة على هذه الضدّيّة، إذ يبقى، وإن لم يُضاعَف عضويًّا في الوَجه، الأقدرَ على تقديم الشيء الواحد في صورة ضدّيّة، لأنّه ائتُمِنَ، في الوَجه، على أخطر النِّعم بتعبير هيدغر، أي ائتُمِنَ على اللغة التي تحمّلَ لا عبئَها وحسب، بل اسمَها أيضًا. لذلك، ليس ثمّة ما هو أقدر على إنتاج الضدّية، وعلى جعْل الشيء يَظهرُ في صُورته وفي ضدِّها، مِنَ اللسان، أي اللغة. على هذا الأساس، يُستساغُ تصوُّر الوَجه بلسانيْن، حتى وإنْ كان تخيُّلُ هذه الصورة في الواقع أمرًا سرياليًّا. على كلٍّ، فنواةُ هذه الصورة مُضمَرةٌ في اللسان المشقوق، الذي تضمّنَ، مُنذ قصّة آدم، احتمالَ قابليّته للمُضاعَفة، أي احتمالَ أن يكونَ لسانيْن، وقد ظلّ تحقّقُ هذه الصورة مُمكنًا دومًا، انطلاقًا من اشتغالِ اللغة بوَجهيْن، على نحو حَدا بالقدماء إلى الحديث عن الكلام المُوَجّه، الذي لمْ يكُن، في دلالته، سوى كلامٍ بوَجهيْن.
لعلّ ما يتولّدُ ضدّيًّا في الوَجه مُرتبطٌ أساسًا بالصّورة التي عليها ظهرَ، وَفق ما ترسّخَ، من جهة، في التأويل الصوفي، ومُرتبطٌ، من جهة أخرى، بنسقيّته، أي بتلك الوشيجة الغامضة التي تجمَعُ أعضاءَ الوجه، وبها يتشكّلُ دون أن يتكرّرَ في الصّوَر التي بها يَظهر، وفيها تتفاعلُ ملامحهُ ضمن نسقيّة لا تُولِّدُ غيْر الاختلاف. لا يتشكّلُ الوَجهُ من عُنصر واحد بل من عناصرَ مُتفاعلة، ولكنّ هذه العناصر، التي هي نفسُها ما به يتشكّلُ كلُّ وَجه، لا تكفُّ، على قلّةِ عدَدها، عن تجديد صُورتها النسقيّة، بما يَمنعُ الوجهَ مِن أن يتكرَّرَ في أيِّ صورة من صُوَر ظهوره، إذ تكونُ صورةُ كلِّ وَجه مُنتجةً لتميُّزه ولِما يَفْصلهُ عن غيره من الوُجوه، وإن انبنَت أساسًا على العناصر ذاتها، أي على المُشترَك في الوُجوه. فالوجه لا محدود، وهي خصيصة يُحقِّقُها اعتمادًا على المحدود، لأنّ عددَ ما به يتشكّلُ قليلٌ للغاية، لكّن ما يتولّدُ من هذا القليل يَمتلكُ صفةَ اللانهائيّ. لذلك كان الوَجهُ شاهدًا على تعدُّد الواحد؛ إذ تأوَّلهُ الصوفية اعتمادًا على مرآةٍ مُكثِّرة؛ مرآة لا تعكسُ صورةَ وَجهٍ واحد، بل تُعدِّدُ الصّوَرَ بتعدُّد الأسماء التي يُمْكنُ أنْ تتجلّى بها الوُجوه. إنّ نسقيّة الوَجه والحكمة المُضمَرة فيه قائمتان على تولُّد اللانهائي من المحدود، فالوجهُ يَكشفُ، بحُكم العناصر القليلة التي منها يتشكّلُ، عن نسَبه إلى اللانهائيّ، لأنّ صورَتَه مُتمنّعة على التكرار حتى في أقصى تجلّياتِ المُشابَهة. الوجهُ، بهذا المعنى، سرٌّ، لأنّه يتكثّرُ بالعناصر المحدودة التي بها يتشكّل، ليغدوَ في حقيقته وُجوهًا قائمة دومًا على الاختلاف. يتولّدُ الاختلاف من النّسق الذي تأخذهُ عناصرُ الوجه وتجعلُهُ تجلّيًا للانهائيّ، على نحو يستحيلُ معه حصْرُ الوَجه، ويتمنّعُ معه استنفادُ سِحْر الوشيجة التي تظهرُ فيه دومًا من داخل العناصر نفسها، دون أن تتكرّرَ الصورة، ودون أن تفقدَ طاقتَها على أنْ تعودَ في كلِّ مرّة مُغايرةً لنَفْسِها. لعلّ هذا اللانهائيّ، الذي يَسِمُ صُوَرَ الوَجه، هو ما هيّأَهُ لأنْ يُسْنَدُ إلى المُطلق، مُقترنًا، في هذا الإسناد، بالكرَم والجَلال، وهو أيضًا ما هيّأَ الوَجهَ لأن يتحوّلَ إلى مفهوم خَصيب لدى الصوفية قديمًا، ولدى ليفيناس حديثًا، الذي تشعّبَ المفهومُ في فلسفته بَعد أنْ عوّلَ عليه في إعادة تأويل الذات، وتأويل علاقتها بالآخَر انطلاقًا من مُنطلق إيتيقيّ يَربطُ الوجهَ بالضيافة والمسؤولية.
اِستحضارُ دلالات الوَجه اليوم مُرتبطٌ بالانكماش الذي طاله، أي مُرتبطٌ بتغيُّرٍ مَسّهُ فغدا جُزءًا ممّا مسَّ اليَوميَّ بصورة عامّة في زَمن الجَائِحة، التي فرضَت إيقاعَها على تفاصيل العيش والتعايُش حتى امتدَّ أثرُها لا فقط إلى وَجه الحياة، على نحو صارَ فيه هذا الامتدادُ اكتساحًا لافتًا في كلّ القطاعات، بل امتدّ هذا الأثرُ، أبعدَ من ذلك، إلى وَجه الإنسان الذي صارَ مُلزَمًا بأن يَسيرَ في الأرض مُقنّعًا فعليًّا بَعد أن عرفَ كيف يُخفي أقنعَتَه على امتداد التاريخ ويجعلها خلفَ وَجهه لا فَوقه. فهل «كشَفَت» الجَائِحة عن حقيقة الإنسان؛ حقيقةِ قناعه، بأنْ ألزَمتْهُ ألّا يُخفيَ قناعَه، وأرغمتْهُ على أن يَضعَه فعليًّا على وجهه حتى لا يظلَّ مُتستّرًا على جوهر حقيقته؟ أيتعلّق الأمرُ، في تأويل بعيد، بقناعٍ كاشف، لأنّه يُظهرُ ما كان مستورًا؟ هل استنفدَ الإنسانُ كلَّ مظاهر إخفاء قناعه فانتهى إلى كشْف حقيقته بأنْ أُلزِمَ بوَضع القناع فعليًّا على وَجهه؟ ألا يكشفُ هذا القناع، إن تمَّ تأمُّله في ازدحام اليَوميِّ بوجوه مُقنّعَة،، عن الحُجُب التي تَبني سَيرَ الحياة وتجعلُ حقيقتها في التقلّب والتلوُّن؟ هل أجهزَ «التقدُّم» البَشريّ على لانهائيّة الوَجه؟ هل اكتسحَ هذا «التقدُّم» وجهَ الإنسان وأتى على حيِّز كبير منه؟ ما معنى أن يتحوّلَ مأوى اللانهائيّ إلى قناع؟ وما معنى أن تنكفئَ المُضاعَفة، التي بها تشكّلَ الوَجه، إلى الرّبع، أي إلى نِصف وَجه بَعد أن كان الوجهُ مُضاعفًا؟ هل تنحو المُضاعفة لأنْ تكون خَصيصة القناع لا خَصيصة الوَجه؟ ما الذي ضاعَ مِنْ وَجه اليوميّ، ومِنْ وجه الحياة بصورة عامّة، بَعد أن اختفَت الوُجوهُ ولم يَعُد يُرى منها غيْر أنصافها؟ لقد غدَت هذه الأسئلةَ وغيرُها بديلًا عن قراءة الملامح التي اختفَت فجأةً، إذ صارَت الأقنعة تُغطّي حيِّزًا من الوُجوه في الشارع وفي مُختلف مَرافق الحياة، وتسلّلت إلى الشاشات والقنوات التلفزيّة، واستأثرَت بالاهتمام وبالنقاش العموميّ، كما لو أنّ القناعَ زاحمَ الصُّورة المرئيّة في اكتساحها، ونافسَها الذيوعَ السّريع، وتمكّنَ، في وقت وَجيز، من مُجاوَرتها في كلّ ظهور لها، لأنّها أصْلًا من صُلبه، ذلك أنّ صلةَ الصّورة المَرئيّة بالقناع مَكينةٌ وَفق ما تنطوي عليه آلياتُ اشتغالها.
لعلّ ما ضاع مِن الوَجه، بَعد أن فقدَ ظاهرَهُ وتقلّصَ ما يَبدو منه، هو جمَالُ الاختلاف، وأسرارُ تركيبته، وسِحرُ اللانهائيّ الذي يجعلُ الوَجهَ تجلّيًا لا يكُفُّ عن التجدّد عبْر تكثُّر لا سَبيلَ إلى استنفادِ معناه، لأنّ لانهائيّة الوجه كانت دليلًا على لانهائيّة معناه. فالتأمّلَ في الوُجوه من زاوية اللانهائيّ، الذي تُضمرهُ، شكّلَ دَومًا غنىً للمعنى وعلامةً على مجهول مُتجدِّد. فالوجهُ فضاءُ أسرار لا حدَّ لها؛ أسرارٌ لا تنكشفُ أبدًا، ولكنّ ظاهرَ الوُجوه يُفصحُ دومًا أنّها مَطويّةٌ فيه، فهي، وإن لم تكُن تُرى، تَحتفظ بظلالها في الوجه. ظلالٌ تشهدُ، من داخل سِحْر المَلامح، أنّ الأسرار هناك في زاوية ما، وفي طيّة من طيّات ظاهر الوجه، قبل أن يختلّ هذا الظاهرُ ويكتسحَ القناعُ نصفَهُ. ما الذي يُمكنُ أن يَراه المرءُ، اليوم، في وَجهٍ لم يَعُد وَجهًا؟
بغَضِّ النظر عن دواعي ارتداء القناع الصحّيّة الضّروريّة، وبغَضّ النظر عن كونه أحَد الإمكانات المُتاحة اليوم للتصدّي جُزئيًّا للجَائِحة، فإنّه يبدو إفقارًا للوَجه بتجريده من نسقيّته، وإفقارًا، في العُمق، لتعدُّد الحياة الخصيب، وحَجْبًا لجُزء خُصَّ في جَسد الإنسان باحتضان الجَمال والكرَم والضيافة والصّفاء، فالعملُ على تصفيّة القلب وتخليص النفس مِن المُظلم فيها لا يتجلّى إلّا في الوَجه، الذي كان كلُّ ظفَر بانبثاق النّور فيه تجسيدًا لمُكابدة داخليّة في تجفيف ظلمة القلب وتمكينه مِن صفائه. إنّ ما حلّ بالوَجه اليوم أصابهُ بانكماش مُفقر، كما لو أنّ إجهازَ الإنسان على الطبيعة وعلى غنى الحياة قد انقلبَ عليه وتجسّدَ في انكماش أجهزَ على نِصف وَجهه، فصارَ الإنسانُ بنصف وَجه، والحال أنّ الوَجه لا يكون وجهًا إلّا بالتفاعُل الغامض بين أعضائه، وبالأسرار التي تُضمرُها تركيبةُ هذه الأعضاء ونسقيّتُها، وبالمجهول الذي يُقرأ في الوجه. وكلّها أمورٌ اختفَت بالقناع الذي حوّلَ الوجهَ إلى مجرّد عَينيْن مُتوَجِّستيْن، مفصولتيْن عن سياقهما الذي كان يَبني جَمالهُما ويَصونُ أسرارَهُما.
«اِرتدِ قناعَك». أمرٌ لا ينفكُّ يَسمَعهُ المرءُ، اليوم، في الشارع، وعند عتبات المَتاجر، ومداخل المصانع، ومحلّات العمل، وفي مُختلف فضاءات الحياة اليوميّة. وهو أمرٌ شديدُ الالتباس متى سمِعنا معناه من خارج الإلزام الصحّيّ ومن خارج مُقتضيات السلوك الذي تُطالبُ ظروفُ الجَائِحة بالتزامه. ما يُسْمَعُ في هذا الأمر يَمتدُّ إلى حقيقة الإنسان ويَنفذُ إلى جَوهره، كأنّ الحياةَ لم تَعُد تحتملُ أن يتستّرَ المرءُ على قناعه، لأنّ هذا التستّرَ غدا مفضوحًا ولم تَعُد حيَلهُ تنطلي على أحد. وهكذا، فالأمرُ بارتداء القناع مُرادفٌ للأمر بأن يُفصحَ المرءُ عن حقيقته. هكذا صارت مُعظم الوُجوه مُقنّعة، وحَرصَت السلطات على إلزام الفرد بارتداء قناعه. لا سبيل للمَرء، اليوم، إلى إخفاء قناعه، فقد صار مُلزمًا أنْ يَضعهُ على وجهه قبْل أن يَخرجَ ليؤدّي دورهُ في مسرحيّة انفلَتَ التحكّمُ في أطوارها حتّى مِنْ مُخرجيها. مِنَ القناع الخفيّ إلى القناع الماديّ الملموس مَنحى عجّلَتْ الجَائِحة بتبيُّن مساره. ولكن ألا يَعني ارتداءُ قناع مادّيٍّ فوق آخَرَ خفيٍّ أنّنا في الطريق نحو قناع مُضاعَفٍ بَعد أن كانت المُضاعفةُ خصيصةً تُميِّزُ الوَجه لا خصيصةَ قناع؟
«اِرتدِ قناعك». أمرٌ موجَّهٌ أيضًا إلى اللسان مادام الحيّزُ الأكبر الذي يُغطّيه القناع هو الفَم. فتغطية الفَم، وضِمْنه اللسان المُضطلع بمُهمَّة الكلام، ليْست دون دلالة، فقد بدا الناس وهُم يَضَعون أقنعة تغطّي أفواهَهُم كما لو أنّ قوّةً خفيّةً تدعوهم إلى الصّمت قليلًا بَعد أن امتلأ الكونُ بالكلام حتى «أُحْمِدَ الصّمَمُ» على حدّ تعبير المتنبّي. فالصمتُ من أجلِّ الأشياء التي افتقدَها الإنسانُ في الزمن الحديث أمام أمواج الكلام المُتدفّقة من كلّ مكان. فلو كان الكلامُ مادّةً صُلبة لَمَا وَجدَ الإنسانُ مكانًا على الأرض يعيشُ فيه. فلْيَضَعِ الإنسان غطاءً على لسانه ولْيَصْمُت وجهُ العالَم قليلًا حتى تستعيدَ الوُجوهُ حكمتها وأسرارَها واللانهائيَّ الذي ائتُمِنَتْ عليه.
حيَويٌّ أن نقرأ انكماشَ الوَجه اليوم، الذي فرضته الإجراءاتُ الصحيّة المُصاحِبة للجَائِحة، انطلاقًا ممّا يحتملهُ من دلالات وممّا يفتحهُ من تآويل. فسيرورةُ الحياة تبدو، من غير تهويل أو اطمئنان إلى المَنحى الفجائعيّ، كما لو أنّها تسلكُ طريقًا يقودُ لا إلى أنْ يعيش الإنسانُ بنِصف وجه، بل إلى أنْ يَعيش بلا وَجه.