باتريك موديانو: يمكن حذف عناوين رواياتي للحصول على كتاب واحد

| 07 سبتمبر 2022 |
أصدر باتريك موديانو، الكاتب الذي تحصَّلَ على جائزة «نوبل» للآداب، لعام (2014)، روايته الثلاثين الموسومة بـ «شيفروز – Chevreuse». ونجد فيها الظلال المتداخلة والملتبسة نفسها، والأماكن نفسها، والشابّ نفسه الذي يتطلَّع ليصير كاتباً، وهي العناصر نفسها التي نجدها في العديد من رواياته الأخرى. موديانو، المتحفِّظ الذي نادراً ما يتحدَّث إلى وسائل الإعلام، كان لطيفاً بما فيه الكفاية لإجراء هذه المقابلة معنا.
يستقبل باتريك موديانو زوّاره في بيته الذي هو شقّة مشرقة، ذات سقف عالٍ، بالقرب من حديقة لوكسمبورغ. وقد كانت الموظفة المسؤولة عن لقاءاته مع الصحافة قد حذَّرتنا قائلة: «سأكون حاضرة معكم في البداية، لأنه يفضَّل ذلك». اللقاءات الصحافية ليست بالممارسة الأثيرة لدى كاتبنا، لذلك هو لا يقبل عليها إلّا متردِّداً. ووجود شخص من معارفه يمنحه شيئاً من الطمأنينة. ثم إن الموظَّفة، في الحقيقة، انسحبت فور جلوسنا.
ها نحن، إذن، في مكتب موديانو: جدران مكسوّة بالكتب، وطاولة للكتابة، وأريكة حمراء واسعة؛ للحديث عن روايته الجديدة «شيفروز»، التي نلتقي فيها ببعض الشخصيات التي سبق أن صادفناها في بعض رواياته الأخرى، وبشوارع مألوفة، وبالمنزل الكائن في إحدى ضواحي باريس، المنزل نفسه الذي سبق للكاتب أن عاش فيه لبضع سنوات، عندما كان طفلاً، مع بالغين، تركه والداه عندهم.
عالم أصبح، الآن، معروفاً لدى قرّائه المخلصين. يقول موديانو: «أدركت أنني أكتب الكتاب نفسه في كلّ مرّة، تقريباً». «كلّ رواية من رواياتي تحمل عنواناً مختلفاً، ولكن يمكنك إزالة العناوين لتحصل في النهاية، على كتاب واحد. الأمر يشبه، نوعاً ما، موسيقى تتكرَّر فيها بعض الجمل لتشكِّل كلّاً متكاملاً».
«الماضي كتلة من النسيان تنفلت منها بعض الشظايا»
في رواية «شيفروز»، تتذكَّر الشخصية الرئيسية جان بوسمان، وبعض الأشخاص غير المألوفين، ومجموعة ملغزة من الأسماء (الموديانية) جدّاً (ميشيل دو غاما، مارتين هايوارد، روز ماري كراويل، رينيه ماركو هيريفورد، وغيرهم)، والتي كان يخالطها عندما كان شابّاً في الستِّينات. ما حقيقة هؤلاء الناس؟ لماذا يعطونه انطباعاً بأنهم يعرفون أشياء من ماضيه؟ لماذا يجرّونه، دون أن يدري، إلى الأماكن التي عاش طفولته فيها؟
يوجد لدى موديانو سمت زمني دُفِنت الذاكرة بين ثناياه: «لطالما اعتقدت أن الماضي، أو الزمن الذي يتوارى، هو كتلة من النسيان، تظهر، بين طيّاتها، بعض الشظايا الصغيرة. ما يهيمن على الذاكرة هو سحابة من النسيان. ومن الواضح أنه، من وقت إلى آخر، تظهر شظايا صغيرة، شظايا تطفو على السطح، على أن المادّة الرئيسية تظلّ هي النسيان، دائماً».
يمكن أن تأتي شظايا الذاكرة هذه في شكل أشياء (ساعة، مذكِّرة، بوصلة) أو نبرة اسم معيَّن، أو أماكن محدَّدة. ورغم أن الراوي يقف على حافّة الواقع والحلم، كمن «يسير في نومه»، كما جاء على لسان موديانو في الرواية، إلا أن تحرِّيه للدقّة لا ينقص، مع ذلك: «الأماكن التي أستحضرها، عرفتها كلّها: وادي شيفروز، وهي قرية ليست بعيدة عن باريس، وشقّة كائنة بحيّ بورت دوتويل. ولكن مع مرور السنين، يتحوَّل كلّ ذلك إلى ما يشبه بلداً شاهدته في الأحلام. لطالما اعتقدت أن المرء إذا أراد أن ينقل إلى قرّائه الإحساس بأجواء روائية معيَّنة، تكاد تكون خيالية، لا بدَّ له من الارتكاز على تفاصيل دقيقة جدّاً. كما هو الحال في بعض اللوحات السريالية. نحن نأخذ شارعاً قد يبدو عاديّاً، ومن خلال الإمعان في النظر إليه، يصبح سريالياً، تقريباً».
«أردت أن أترجم ما يعتمل داخل شخص يقوم بالكتابة»
عادةً، تظهر الشخصيات والوضعيات، لدى موديانو، بمظهر مألوف في البداية، ولكنها سرعان ما تصير محاطة بالغموض، بل تتَّخذ صبغة مقلقة. في كثير من الأحيان، هذا الضيق العائم، وهذا الخوف، يعودان بنا إلى سنوات الطفولة: «أردت أن أترجم ما يحدث في نفس شخص يكتب، ويستلهم من شخصيات، ربَّما، خالطها في الماضي، وكلّ الناس الذين تسبَّبوا له في الشعور بالقلق أو الخوف في طفولته، فالكاتب يُحيِّدهم عندما يستخدمهم كشخصيات في رواية، حيث يتحوَّلون إلى مجرَّد أشباح، كما لو أنهم انتقلوا إلى عالم موازٍ».
ولكن، هناك، أيضاً، موديانو مبتهج، يستمتع بالكتابة، وبدأ، منذ بضع سنوات، يسكب في رواياته جرعة سخرية من الذات. فرواية «شيفروز» تأخذ، في بعض الأحيان، طابع روايات الجريمة بحثاً عن ذاكرة من الطفولة تَمَّ نسيانها، إلى درجة أن الكاتب يسترسل في ارتجال سلسلة من العناوين المحتملة للرواية التي يحملها القارئ بين يديه: «مواعيد سان لازار»، «أسرار فندق شاتام»، «الحياة السرِّيّة لرويني-ماركو هيريفورد»… «أحياناً، تسخر من نفسك قليلاً، مثل شخص لديه وجهة نظر ساخرة حول فعل الكتابة».
هل كان سينزلق إلى مصير سيِّئ لو لم يصبح كاتباً؟ يفكِّر، للحظة، قبل أن يجيب: «بما أنني لم أكن أتابع دراسات محدَّدة جدّاً، ولم يكن لديَّ بيئة عائلية محدَّدة، فقد كنت في حالة من عدم اليقين. شعرت بأنني لا بدّ من أن أبدأ شيئاً، وإلا ظلَّت تتقاذفني الأمواج. ولكن، في الوقت نفسه، كان أمراً ساذجاً جدّاً، لأننا نكتب، ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحدّ. إذ من الضروري أن يجد الكتاب الرضا لدى القرّاء، ويجد طريقه للنشر. إنها لعبة حظّ».
في رواية «شيفروز»، كما هو الحال في رواية «حبر ودود»، يُدخِل موديانو القارئ إلى ورشة الكتابة الخاصّة به. ويضع بين صفحاتها -وهذا ليس بالأمر المفاجئ- مديحاً للصمت: «لقد كنت دائما منجذباً إلى حذف أشياء عديدة من كتاباتي، لأترك، بعد ذلك نوعاً من ثقوب الصمت. قد يكون لدى بعض الكتاب أسلوب مزخرف. أمّا أنا فميولي الطبيعي ينحو نحو إزالة الكثير من الأشياء، باعتماد تقنية الحذف. في الأدب، يجب على الكاتب أن يترك فجوات من الصمت؛ فعندما تكون هناك الكثير من الأشياء، قد يشعر القارئ بالاختناق. لا بدَّ من ترك مساحة أمامه؛ لأنه هو من يكمل الكتاب، في الواقع».
حول هؤلاء الذين يسعون إلى ردّ الاعتبار للمارشال بيتان – Pétain، يقول: «إنهم لا يعرفون عن أيّ شيء هم يتحدَّثون»
الوقت يتقدَّم، وقد تحدَّث إلينا لمدّة أربعين دقيقة، وبدأنا نخشى أن نشقّ عليه؛ لذا خطر لنا أن نطرح عليه سؤالاً حول القضايا الراهنة، ننهي به المقابلة: كيف يمكن لمؤلِّف رواية «دورا برودر»، الذي كافأته لجنة تحكيم جائزة «نوبل» عن امتلاكه «لفنّ الذاكرة الذي مكَّنَه من تناول أكثر مصائر الإنسان مراوغةً، وكشف النقاب عن عالم الاحتلال»، أن يتفاعل مع محاولات إعادة الاعتبار لنظام فيشي – Vichy، ولو جزئياً، على الأقلّ؟، ففي رواية «دورا برودر»، أدرج مقتطفات من رسائل بعث بها، إلى السلطات، بعض أقاربه يعبِّرون فيها عن قلقهم بعدما عاينوا أشخاصاً يُعتَقلون لأنهم يهود. «كانت رسائل مفجعة»، يعلِّق موديانو، برصانة.
«بُعثت هذه الرسائل إلى مقاطعة الشرطة، وإلى المارشال بيتان نفسه، ولم يتلقَّ أصحابها أيّ ردّ. لقد أدرجت بعضاً منها، ولكن إذا ضممنا الرسائل كلّها، بعضها إلى بعض، فسنرى…». يصمت، ثم يقول: «إنهم لا يعرفون عن أيّ شيء هم يتحدَّثون. لا بدَّ أنهم لا يعرفون جيّداً تاريخ سنوات الاحتلال، أو أنهم سياسيون، يفعلون ذلك بخلفيّات سياسية، ولكن يكفي أن نقرأ الوثائق، لأن الأرشيف مفتوح الآن. سيرون ما كان عليه الأمر حقّاً، فلم يعد هناك أيّ غموض في هذا الشأن».
قبل إغلاق الميكروفون، أشرنا إليه بملاحظتنا غياب أيّة معطيات حول سيرته على ظهر الغلاف، فلا تاريخ ميلاد، ولا إشارة إلى نيله جائزة «نوبل»؛ كما لو كان يميل، مثل بعض شخصياته، إلى الانمحاء والاختفاء، وكما لو أن كلّ جوائزه، وأوسمته، تشكِّل عبئاً ثقيلاً جدّاً بالنسبة إليه. يضحك. يوافقني الرأي: «هذا صحيح!»، ثم يردّ مبتهجاً: «صحيح ما تقوله! كلَّما كبرت في السنّ، يصبح هذا الأمر أثقل وأثقل. هذا (يشير إلى حذف عناصر السيرة الذاتية) يزوِّد المرء بقليل من الشجاعة، لكي يستمرّ، بشيء من الخفّة».
في حقيقة الأمر، باتريك موديانو ليس هو ذلك الكاتب البالغ من العمر ستَّة وسبعين عاماً، والذي يمتلئ سجلُّه بجوائز تقديرية لا حصر لها، بل هو هذا الشابّ الوسيم في العشرينات من عمره، الذي يهيم في شوارع باريس. وسيبقى كذلك…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حوار: إيلانا ماريوسف
العنوان الأصلي، والمصدر:
Mes romans changent de titres, mais on pourrait les supprimer et cela ferait un seul livre.
https://www.franceinter.fr/livres/patrick-modiano-mes-romans-changent-de-titre-mais-on-pourrait-les-supprimer-et-cela-ferait-un-seul-livre.