بذْلة الغوّاص

| 15 يوليو 2020 |
فقدانُ القدرةِ على الاختيار هو الذي يصنع القيدَ والسجنَ. وهو الذي منحَ «الحَجْرَ» بسبب الكورونا مذاقَه القياميّ. لقد أُكْرِهْنا على لزومِ البيت فكدنا نكرهُ مَا لو كنّا مُخَيَّرينَ ما غادرناه. بل إنّي كنتُ قد فقدتُ شهِيّةَ السفر وأوشكتُ على الاعتكاف في بيتي، قبل أن يضطرّني الحَجْرُ الصحيّ إلى لزوم البيت والبلد، فإذا أنا أحنُّ إلى الشوارع والمطارات من جديد، ولا أفتقدُ شيئًا كما أفتقدُ حرّيّتي في التعامُل مع المكان.
خُيِّلَ إليّ للحظةٍ أنّنا جميعًا أبطال «بذلة الغوص والفراشة» لجون دومينيك بوبي. لَوْلاَ أنّ بذلة الغوص التي نرتطم بجنباتها ليست بحجم جسد، بل هي بحجم بلد، وربّما بحجم الكرة الأرضيّة. ولَوْلاَ أنّ اشتراكنا جميعًا في الرقص الهيستيريّ داخل البذلة نفسها، لا يُلغي شيئًا من البونِ الشاسع بين الراقص على الحرير والراقص على المسامير.
لم أنتظر هذا الكِتاب كي أكتشف استعارةَ بذلة الغوص، ولم أهْتَدِ إليها بفضل «الحَجْر»، فأنا مدينٌ بها إلى طفولتي الأولى، حين كان الوالد يُطيل التعزير والتوبيخ لأقلّ خطأ، فأتمنّى أن تبتلعني الأرضُ فيما هو يوبِّخ ويعزِّر. استعصت الأرضُ فشرعتُ أتدرَّب على حياكة نوعٍ مجازيّ من «طاقيّة الإخفاء» ألوذ بها وأنا في مكاني فلا أسمع ما أكره. أطلقت عليها في البداية اسم البئر، ثمّ سمّيتها الداموس قبل أن أختار لها اسم بذْلة الغوَّاص.
شيئًا فشيئًا أصبحت تلك البذلة سلاحي السريّ في وجه الزحمة والعزلة. أتفنّن في تأثيثها بما أريد وبمَنْ أريد، وأرتديها في كلّ فضاءاتِ الثرثرة الخرقاء والغباء المُتطاوس، كما أرتديها في لحظاتِ العُزلة، فإذا أنا في مكاني كيفما كان المكان ومهما كان الجليس. تعلّمتُ ذلك من المقاهي تحديدًا.
ليس من شكٍّ في أنّ «الحَصْرَ» مُنشِّطٌ للخيال. وليس من شكٍّ في أنّ أيّام الحَجْر كانت مؤاتيةً للسفر في الكُتب، والفضائيّات مُغرِيةً بالتواصل عبر الهواتف، والشاشات محفّزةً على السباحة في صفحات البحر الرقميّ الأزرق. لكن أين تلك الوسائط كلُّها من عَبَقِ الحقائب وهدير القطارات وأزيز الطائرات وحركة المسافرين والمارّة وروائح الأماكن الأليفة أو الجديدة، وأنت تلتقي أصدقاءك وصديقاتك وجهًا لوجه ويدًا في يدٍ وكتفًا إلى كتف ودفْئًا لدفء؟ بل أين تلك الوسائط كلّها من المقهى؟
لذلك لم أستسلم لإكراهات «الحَجْر» على الرغم من التزامي بها. كنت أرتدي بذلة الغوص في الوقت الذي أختار، وأقصد واحدة من مقاهيّ المُفضّلة، لا كمكانٍ، بل كحضنٍ شبيهٍ بذراعَيْ حبيبٍ، وصَدْرِ صديقٍ، ودفّتَيْ كتابٍ، وبابِ بيت. لا يهمّ أن يكون في قبلّي وقفصة، أو في باب الجديد، وباب سويقة. في قليبية، أو في المنستير. في القاهرة أو في باريس.
منذُ ثمانينيات القرن العشرين وأنا أجوب مدن تونس وقُراها من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب. منذ نهاية التسعينيات وأنا أسافر في القارّات الخمس ضيفًا على تظاهرات الشعر. لا أغادر مكانًا إلّا ولَدَيَّ فيه مقهى.
لعبت المقاهي الشعبيّة في البداية دور الملاذ أو الملجأ. احتميتُ بها مع أبناء جيلي لقِلّة ذات اليد وضيق الفضاءات وتحدّيًا للرقباء. هناك كُنّا نتدرَّب على توقّي الضربات. نكتشف طبقات مجتمعنا من القمّة إلى القاع. ننصت إلى ما يحتدم في باطنه. نُلقِي الشعر ونتحاور في السياسة. نتلقّى دروسنا الابتدائيّة في علم الاجتماع والاقتصاد. نُعِدُّ للتظاهراتِ والمُظاهرات.
ثمّ تطوَّرت علاقتنا بالمقاهي فإذا هي تلعب في حياتنا الدَّوْرَ الذي فرَّطت فيه المُؤسّسة التربويّة الرسميّة. دَوْر التربية عن طريق اللعب. صارت المقاهي ملاعِبنا المرحة ومكتباتنا المفتوحة على الجديد المُختلف. دُورَنا الثقافيّة الأكثر حيويّةً وحرّيّةً إلى جانب الفضاءات الجامعيّة والنقابيّة والحُقوقيّة. فيها عرفتُ أغلب أصدقائي. طالعتُ أجمل كُتبي. كتبتُ معظَمَ نصوصي. درَّبتُ عَضَلاتي الفكريّة الأولى على المُحادثة والجدل. خضتُ أولى معاركي النقابيّة والسياسيّة.
ثمّ سرعان ما منحتنا المقاهي رحابةَ صدرٍ افتقدناها في البيت أو في الأسرة. فيها حظيتُ بأذنٍ صاغية ساعدتني على مواجهة همومي العاطفيّة الأولى. فيها وجدتُ المكان الذي يستر الوجه حين احتجتُ إلى دعوة ضيوف تونس. وظللتُ حتى اليوم آخذ إليها كلَّ مَنْ لا أريد له أن يتوقّف عند «البطاقة البريديّة». وفيهم مَنْ هو معروف حتى لدى غير المعنيّين بالثقافة. لكنّ زبائن المقاهي الشعبيّة يعرفون قيمة «مسافة الأمان»، ويحفظونَ للمقاهى إيطيقاها وإستطيقاها.
شيئًا فشيئًا أصبح للمقهى دورٌ أكبر وأشمل. لم تعد مكانًا لقتل الوقت أو للبطالة. إنّها مكان للعمل أيضًا، أو لنقل إنّه مكانٌ يُعيد تعريف العمل، قريبًا ممّا ذهب إليه برتراند راسل سنة 1932 في كتابٍ نُقِلَ إلى العربيّة بعنوان «مديح البطالة» أو «مديح الفراغ»، وأُفضّل ترجمته إلى «مديح العطلة».
نصٌّ ظللتُ أستحضره عند كلِّ «أزمةٍ اجتماعيّة» منذ اطّلعتُ عليه في طبعته الفرنسيّة سنة 2002. وتتمثّل أطروحتُه الرئيسيّة في أنّ العمل المهووس بالمردوديّة والربح طريقٌ إلى العبوديّة، لذلك لابدّ من النظرِ إلى العطلة بوصفها «عملاً» متحرِّرًا من ثقافة الربح، يُعيد الاعتبار إلى ما هو «بلا فائدة» في نظر السيستام: الإبداع، التفكير، العدل، التسامح، إنصاف المرأة، حماية الطفل، احترام البيئة…
لم أعد أجد ضيرًا في الانتساب إلى المقاهي بهذا المعنى. لا كمكانٍ «أقتل فيه الوقت»، أو أهرب إليه من الشارع، أو أنعزل فيه عن النّاس، بل ككوّةٍ مفتوحة على التفاصيل. كمنصّةِ انطلاق إلى أعماقِ البلاد والعباد. كمنفذٍ إلى أعماقي.

أمسك بمعمارها وأصواتها وروائحها كأنّي أمسك بمعصم أجسّ فيه نبض بلادي ونبضَ العَالَم. أغطس في دخانها وعرَقِها كأنّي أغتسل في موسيقى أوجاع الناس ومسرَّاتهم. مبتهجًا باكتسابي الحقّ في الاستماع يوميًّا إلى أوركستراها العفويّة. أوركسترا من كلِّ الطبقات والمشارب، تجتمع لتعزف بلا قائدٍ سولوهات، تُبدع تناغُمَها من تنافُرِها، فتصنع طربًا ساحرًا يترجم الغُربةَ إلى ألفة، والبردَ إلى دفء.
شيئًا فشيئًا تعلّمتُ فنّ «الغوص» في الضجّة والكثرة. قد يقترب منّي النادل يكاد يلصق فمه بأذني ليسأل إنْ كنتُ أريد شيئًا آخرَ بينما أنا «في عالمي» بعيدَ القرب قريبَ البُعد. وقد تشتدُّ النشوة بلاعبي الورق فيضرب أحدهم على الطاولة بقدمه، ويقابله الآخر بالشتيمة المقذعة، ويعلو الصراخ، ويمسك كلٌّ بخناقِ صاحبه، وأنا على بُعد مترٍ لا أشعر بشيء. حتّى إذا أفرغ المُتخاصمون ما في جعبتهم، وعادوا إلى اللعب وضع أحدهم يده على كتفي يعتذر، وما أكثر ما يفعلون، فإذا أنا أهتزّ للمسته، وما كنتُ قد شعرتُ بشيءٍ ممّا حدث.
تلك السنواتُ، بل العقودُ منحت المقاهي مكانةً محوريّة في حياتي. انسلختُ من بذلة الغوص الأولى، وارتميتُ في «عجقتها» ودخانها وحكايات زبائنها وموسيقى حياتها المُثخنة بالجراح والأحلام. ألفتُ زحْمتها ولم يعد في وسعي «التركيز» بعيدًا عن صخبها. فما العمل بعد أن أصبحتُ زوجًا وأبًا «مسؤولاً»؟! ما العمل كي أزرع صخب المقهى في البيت؟!
قد يبدو الأمر غريبًا على مَنْ يحتاج إلى الصمت والهدوء كي يكتب أو يقرأ، فهو لم يعش ما عشت، ولم يدمن ما أدمنت. أمّا أنا فالصمتُ والهدوء يصرخان في داخلي بما لا يسمح لي بالإنصات إلى العالم، وإلى نفسي، وإلى الكلمات وهي تناديني أو تستجيب إلى ندائي.
لذلك دأبْتُ منذ سنواتٍ طويلة على فتح الراديو والتليفزيون في البيت طلبًا للضجّة. كانت تلك طريقتي الوحيدة لزراعة المقهى في البيت كي أستطيع القراءة والكتابة. فأنا في حاجةٍ إلى إعادة إنتاج وقْعِ المقاهي وإيقاعها، بعْدَ أن تحوَّلَ صخبُها إلى «سترة أمان» لا غِنًى لي عنها في حربي مع الكلمات.
ولعَلّي لم أفتقد شيئًا خلال هذا الحَجْر مثلما افتقدتُ مقاهيّ وجلسائي. حتّى حين كنّا لا نتبادل كلمةً واحدةً، بل يجلس كلٌّ إلى كتابِه أو أوراقِه. بينما يمتلئ الهواء من حولنا بحوارٍ من نوعٍ خاصّ لا يفكُّ شفرته إلّا المُختارون.
هكذا عرَفَتْ المقاهي نقلتها الأخيرة في حياتي. أصبحتْ هي بذلة الغوّاص التي تمكّنني من الغطس دون أن أغرَق. تفصلني عمّا حولى دون أن تقطع صلتي بأحد. تتيح لى أن أكونَ منفردًا في العدد، وحيدًا مع الجميع، منعزلاً في الزحمة.
شيئًا فشيئًا تحوَّلتُ إلى فراشة حديقتُها المقهى، كدتُ أقولُ شَرْنَقَتُها المقهى. فأنا هناك داخل شرْنقةٍ حقًّا. شفَّافة ومتحرِّكة. تحيط بي كالقماط. كالقوقعة. كبذلة الغوّاص، بل هي بذلة غوّاصٍ بكلّ ما تملك العبارةُ من دلالةٍ بالنسبة إلى كَاتِب.
هل الكَاتِبُ إلّا غوّاصٌ؟ هل الكِتابَة إلّا فنّ الغوص في الذات بوصفها شرخًا في المكان والزمان؟