برنار نويل.. رحيل كاتب مُلتَزِم

أسماء كريم  |  26 مايو 2021  |  

عن سنٍّ يناهز التِّسعين سنة، رحل في أبريل الماضي، الشاعر والكاتب الفرنسي «برنار نويل»، مُخلِّفاً أزيد من أربعين عملاً أدبيّاً، كان آخرها «لَمْسَة هوائيَّة». كان «برنار نويل» أحد المدافعين عن القضيَّة الفلسطينيَّة، كما كان شديد الحساسيَّة تجاه قضايا عصره، وقد اصطدم بالواقع المرير حتى توقَّف عن الكتابة، لكنَّه سرعان ما عاد لممارستها، فأصدر، عام (1967)، ديوانه «وجه الصَّمت» ليُواجه بسلاح الكتابة شراسة الواقع.

وُلد «برنار نويل – Bernard Noel» عام (1930)، في سان «جينيفييف سور أرجانس». ترعرع في بيت جدِّه وجدَّته. بعد تخرُّجه في المدرسة الثانويَّة في «روديز – Rodez»، ذهب إلى «باريس» والتحق بكُلِّية الدراسات العليا للصحافة، لكنه سرعان ما تخلَّى عن هذا المسار. حوالي عام (1953)، كان أحد الأعضاء النَّشطين في حلقة الدّراسات الميتافيزيقيَّة، واقترب من فِكْر «ريموند أبيليو – Rymond Abllio». يُعدُّ من أَهَمِّ الكُتَّاب الفرنسيّين في النصف الثاني من القرن العشرين؛ لهذا خَصَّتْه الأكاديميَّة الفرنسيَّة بالجائزة الكبرى للشعر عام (2016). توزَّعت أعماله بين الشِّعر، والرّواية، والنقد الأدبي، والنقد التشكيلي. صدر ديوانه الأوَّل «مستخلصات الجسد» سنة (1956)، وانتصر فيه للجسد من خلال تأثُّره بالعنف الذي عايشه في الحرب العالميَّة الثانية، والمعسكرات، والقنبلة الذريَّة، وحرب الجزائر، وحرب الهند الصينيَّة. هذا وقد عُرِف بدفاعه عن القضيَّة الفلسطينيَّة، ولم يشعر بالحرج وهو يعلن ذلك في حوار صحافي. وُصف شعره بأنَّه تأمُّلٌ فلسفي في معنى الوجود الإنساني في العالَم.

حديث «برنار نويل» عن كتاباته

في حوار، أجرته «صوفي نولو – Sophie Naulleau»، من مجلّة «ثقافة فرنسا – France culture»، بتاريخ العاشر من فبراير/شباط (2013)، يناقش «برنار نويل» علاقته بالأجيال القادمة، والقصيدة التي كان يعمل عليها لعدّة سنوات، فقال: «لقد تأثَّرتُ كثيراً عندما كرَّست لي مجلّة «أوروبا – Europe» عدداً خاصّاً، في يناير/كانون الثاني (2011)، فقد كانت الأبراج العاجيَّة تزعجني. العمل لا ينتهي حتى نموت. نقطة النهاية هي موت مَنْ كَتَب. لا توجد كلمة أخرى «نهاية». لمدّة خمس سنوات أو سِتّ، كنتُ أكتب قصيدة ليس لها نهاية أخرى غير نهايتي… بعد ذلك، أحببْتُ فكرة أنَّ كلماتي لم تعد بحاجة إِليَّ. إنها نوع من المناطق المكوَّنة من الكُتُب التي أتمنّى أنْ يُكمّل بعضها الآخر. كلّ واحد منَّا يصنع بلداً ثم، في يوم من الأيّام، في مرحلة معيَّنة، سيُصبح هذا البلد غير صالح للسَّكن بالنسبَة إلى الَّذي صنَعه. وكثيراً ما تساءلتُ عمّا إذا كانت أفضل نهاية هي الدُّخول في الصَّمت والتَّأمُّل».

وبمناسبة نشر كتابه «كتاب النسيان – Livre de l’oubli»، يستحضر «برنار نويل» الطريقة التي يتصوَّر بها وظيفة النسيان التي يضعها في صميم عمليَّته الإبداعيَّة، فيقول: «النسيان هو الذاكرة الحقيقيَّة بالنسبة إليَّ؛ إنَّه يشكّل هذا النَّوع من الذاكرة العالميَّة التي تتجسَّد في اللغات، لا في الأذهان…» وبربطه بين الإبداع والنسيان رسم «برنار نويل» مقاربته بشاعريَّة خاصَّة، تتراءى مُرصَّعة باليأس والأمل، في الآن ذاته، لهذا، يستحضر كتابه «كتاب النسيان» اللّغة والذكريات، أو الوعي بنسيانها. وفي ذلك الكتاب، يؤرِّخ «برنار نويل» للنسيان، ويُقرُّ أنَّ ما نعتقد نسيانه، هو، في الحقيقة، ما نتذكَّره، والذكريات تعود لتطفو في الكتابة، وتصبح «كلاماً لكُلِّ ما تمَّ فقدانه».

التَّفاعل العربي مع كِتابات «برنار نويل»

اهتم الكُتَّاب العَرب بكتابات «برنار نويل»، وعملوا على ترجمتها. وكان الشاعر المغربي «محمَّد بنيس» أهمّ الذين نقلوا كتابات «برنار» إلى القارئ العربي. هكذا، بعد أن تبادل «بنيس» الزيارات مع هذا الكاتب الفرنسي؛ ما أسهم في تقوية الروابط بينهما؛ فقد كانت النتيجة هي ترجمة «بنيس» لأربعة كتب هي: «هسيس الهواء» عام (1998)، و«كتاب النسيان» عام (2013)، و«موجز الإهانة» عام (2017)، وكلُّها صادرة عن «دار توبقال»، بالمغرب. أمّا الكتاب الرابع «طريق المداد»، فقد صدر عن دار نشر فرنسيَّة، وهو عمل مُميَّز جمع بين نصوص «نويل» ولوحات الفنَّان «فرانسوا رووان»؛ ما جعل منه عملاً شعريّاً وتشكيليّاً ذا طابع خاصّ.

تفاعل «برنار» مع الاحتفاء بترجمته إلى اللسان العربي، فصار عضواً شرفيّاً في «بيت الشعر في المغرب»، وشارك في إقامة فنّيَّة بمدينة مراكش مع الشاعر «محمَّد بنيس» والفنَّان التشكيلي «محمَّد مرابطي» سنة (2017)، إلى جانب مشاركته في المهرجان العالمي للشعر بالدار البيضاء سنة (2002). هذا التفاعل الثقافي مع المشهد الإبداعي والفنّي العربي، من قِبَل «نويل»، أنتج ترجمات عربيَّة أخرى مثل: «لسان آنَّا»، ترجمة بشير السباعي، و«تناذر غرامشي»، ترجمة ميساء سيوفي.

«برنار نويل» في «مرآة» الكشف

وَرَدَ عن الكاتبة «شانتال كولومب غيوم – Chantal Colomb-Guillaume»، في العدد الخاصّ بـ«برنار نويل»، من مجلّة «Europe»، في مقدِّمة المجلّة قولها: «برنار نويل»، كاتب ذو أهميّة كبرى، وعددُ قُرَّائه يزداد، ليس في فرنسا، فقط، بل في الخارج أيضاً، من خلال قصائده وقصصه ومسرحيَّاته وكتبه التاريخيَّة، والسياسيَّة، ونصوصه عن الرَّسم. تعدُّ الكِتابة حياتَه (…)؛ فعطاؤه فيها لا ينضُب. وإذا كان إنتاجه يقع «خارج الأنواع»، وظلَّ غير قابل للتصنيف، فإنَّ أصالته تجعل كلّ صفحة من صفحاته موقَّعة، ويمكن التَّعرف إليها وتمييزها عن طريق الكتابة أو الصَّوت أو اللّغة.« برنار نويل» هو كذلك روح الثَّورة، وهو مستعدٌّ، دائماً، للوقوف في وجه الظّلم أو حين انتهاك السّلطة لحرِّيَّتنا. بدأ كلّ شيء في أعلى الطريق من قلعة العشاء الأخير (Château de Cène) عندما شارك الكاتب الشَّاب في مقاومة التعذيب في الجزائر. بعد أن خضع للرَّقابة، أدرك أنَّ هناك نوعاً غير ملحوظ من انتهاك الحرّيّة، يُمارَس دون علمنا. وأنشأ لفظة «sensure» (خلافاً للكلمة الأصل «censure»، حيث أبدل c بـ s) للإشارة إلى هذا الحرمان من المعنى الذي تحاول السلطة السياسيَّة حبس المواطن فيه. لايزال «برنار نويل» يُطالب باللّغة، التي تعني الجسد، والـمَلَكة اللُّغويَّة، والنَّظرة، التي تحيل على الجسد والإدراك، بوصفهما الأداتين اللَّتين يمكن -بواسطتهما – تحقيق علاقة أصيلة مع العالم ومع الآخرين ومع الذَّات. كتاباته لا تتوقَّف عن مساءلتنا، وصمتُه يمنعنا من التَّوقف عن التفكير، ويدعونا لمشاركة ما يُقال، وما لا يُوصَف».

وتستمرّ الكاتبة «شانتال كولومب غيوم» في مقال لها، بالمجلَّة نفسها، في تعداد ميزات هذا الكاتب: «يدحض «برنار نويل» صفة النَّاقد الفنّي، ومع ذلك تكشف النصوص المصاحِبَة لكتب الرَّسم أو الرُّسومات التي شارك فيها عن معرفة عميقة بالفنون الجميلة (…)، ومع ذلك، يجد «برنار نويل» في الرَّسم تعبيراً مكمِّلاً للكتابة؛ لذلك هو يعرف إيماءات الفنَّان أو الرّسَّام؛ ولهذا، يستطيع الكتابة -بسهولة – عن «ماغريت – Magritte»، وكذا عن أصدقائه؛ «أوليفيي – ديبري Olivier Debré»، و«جان فوس – Jan Voss»، وحتى عن تقنيَّة الرَّسم الصيني «لـِزاو-وُو-كي – Zao wou- ki». هو في مكانه الطَّبيعي، سواء في الرَّسم أم في الشِّعر».

من بين ما كُتب في رحيل «برنار نويل»؛ مقال نشرته جريدة «Le Monde»، في 14 أبريل/نيسان (2021)، حيث يستحضر «بتريك كيششيان – Patrick Kechichian»: ما كتب عنه صديقه «جورج بيروس – Georges Perros» في عام (1977): «كان برنار نويل الذي أعرفه يكتنفه صمتٌ يُقطع بسكّين». وستنشر مراسلاتهما في عام (1998)، (منشورات Unes). بهذه الصورة القويَّة، يسلّط «بيروس» الضوء على مفارقة تأسيسيَّة: العملُ الوفير، الـمُلهِم والمدروس على حدٍّ سواء، الذي قام به «برنار نويل» في إطار هذه العلاقة العنيفة مع السَّريرة الصامتة. العنفُ الذي تشكِّل اللغةُ أداتَه وسلاحَه. ففي حوار مع «كلود أوليير – Claude Ollier» عام (1995)، أعلن: «لم يكن هناك شيء خارج اللّغة بالنسبة إليَّ. فليس هناك شيء غير قابل للوَصْف إلَّا لوجود ما هو موصوف». تشير هذه الملاحظة إلى الإنسان الذي عاش زمانه مثلما تشير إلى الكاتب والشاعر الذي كان عليه).

كما كتب أستاذ الأدب في جامعة «بال – Bâle»، «هوغز مارشال – Hugues Marchal»، في مجلّة «France culture» عدد (15) أبريل/نيسان (2021)، يستعرض عمل «برنار نويل»، ومحاولته إعادة القوّة النشطة إلى الكلمات، فقال: «إن تطوُّر التفكير في الرقابة كان مبكّراً جدّاً في عمل «برنار نويل»، خاصّة أنَّ الشاعر كان جزءاً من جيل تميَّز بالحرب الجزائريَّة، وآثار تشويه وسائل الإعلام، وسيطرتها التي- ربَّما- كانت موجودة خلال هذه الفترة. بالإضافة إلى ذلك، كان من آخر الـكُتَّاب الذين حُكم عليهم بإهانة الأخلاق؛ وذلك بسبب روايته «قلعة العشاء الأخير/ Le château de Cène»، التي نُشرت باسم مجهول عام (1969)، وقد اعتبر «برنار نويل» هذا النصّ شكلاً من أشكال الانتحار لأسلوبه وكتابته الخاصَّيْن».

تستحضر هذه الأقوال خصائص كتابة «برنار نويل»، وتقف عند سماتها الدَّقيقة؛ وبذلك تحقَّقت نبوءة هذا الشّاعر الفرنسي، حينما كتب في قصيدة «الاسم نفسه»: «حلمتُ أنّي كنتُ ميّتاً. أناسٌ كانوا ينطقون باسمي. حركة شفاهِهم كنتُ أشاهدُ. واسمي من شفة لأخرى كان يطير. لم يكن اسمي يعرفُ من أنا، لم يكن يعرف أنَّه اسمي. بيضاء كانت الشِّفاه». هكذا، رحل «برنار»، وترك إرثاً ثقافيّاً غنيّاً سيجعل كلَّ الشِّفاه تتناقل اسمه، على مرِّ العصور، لأنَّه كاتِبٌ استثنائي؛ كاتبٌ قد حمل همَّ قضايا عصره، والتزم بالكتابة عنها.

مواضيع مرتبطة

فنّ لعب كرة القدم
ترجمة: عبدالله بن محمد 10 نوفمبر 2022
نسخة استثنائية في رحاب ثقافتنا
مجلة الدوحة 10 نوفمبر 2022
دموع الفوتبول
دموع الفوتبول 09 نوفمبر 2022
جابر عصفور.. التراث من منظور الوعي بالحاضر
حسن مخافي 07 سبتمبر 2022
القاضي والمتشرِّد لأحمد الصفريوي.. حين لا تكون الإثنوغرافيا سُبّة
رشيد بنحدو 02 يناير 2022
فيليب باربو: اللّغة، غريزة المعنى؟
ترجمة: مروى بن مسعود 02 يناير 2022
رسالة إلى محمد شكري: الكتابة بيْن الصمت والثرثرة
محمد برادة 02 يناير 2022
إشكاليةُ اللّغةِ العربيّةِ عندَ بعضِ الأُدباءِ والإعلاميين
د. أحمد عبدالملك 15 ديسمبر 2021
محمد إبراهيم الشوش.. في ظِلّ الذّاكرة
محسن العتيقي 01 نوفمبر 2021
بورخيس خَلَفًا للمعرّي
جوخة الحارثي 06 أكتوبر 2021