بشير مفتي: لا أكتب لأطلب مالاً أو شهرة

| 14 يناير 2021 |
بشير مفتي، كاتب وصحافي جزائري، وُلِد عام (1969)، في الجزائر العاصمة، متخرِّج في كلّية اللّغة والأدب العربي، جامعة الجزائر. نُشرت أوَّل أعماله في العام 1992، وأصدر العديد من الأعمال القصّصية، والأعمال الروائية من بينها: «المراسيم والجنائز»، «رخبيل الذباب»، «شاهد العتمة»، «بخور السراب»، «دمية النار»، «أشباح المدينة المقتولة»، «غرفة الذكريات»، «لعبة السعادة أو الحياة القصيرة لمراد زاهر»… كما أن له مساهمات عديدة في الصحافة الجزائرية، والإعلام الثّقافي الجزائري.
لو سألتك عن أهمّ المحطات المؤثِّرة في حياتك؛ كاتباً وإنساناً ومبدعاً، فكيف تقدِّمها للقراء؟
– أعتقد أن أهمّ محطّة مؤثِّرة هي الحرب الأهليّة في الجزائر، أو (العشرية السوداء)، أو حتى يمكن تسميتها بعنوان فيلم لخضر حمينة «وقائع سنوات الجمر»، رغم أن فيلمه يتحدَّث عن فترة ما قبل الاستقلال، تلك الفترة التي كانت مؤثِّرة؛ لأني بدأت فيها مشواري مع الكتابة الذي تزامن مع فترة العنف والقتل والتدمير والخوف، وقد تركت أثراً في كتاباتي كما في حياتي، فلا يمكن أن يمرّ العنف دون أن يُحدِث تأثيراً في حياتنا، وفي رؤيتنا للإنسان الذي نفقد فيه الثقّة، ومع ذلك هي مرحلة الزخم والحلم والأمل في الغد.. أراها أهمّ محطّة، وهي التي شكَّلت حتى هواجسي الأدبيّة، ورؤيتي للكتابة، حيث يأخذ العنف مركزية في موضوعاتي الروائية؛ كيف حدث؟ ولماذا حدث؟ وما نتائجه، لاحقاً؟ وهو، حتى عندما يتوقَّف، يترك بصمات وحتى تشوُّهات على جسد المجتمع، وسلوك الفرد.
في رواية «اختلاط المواسم»، لم تخرج عن السوداوية والقتل والعنف والمهمَّشين…؟
– ولماذا تريديني أن أخرج؟ أنا أشتغل على مواضيع معيَّنة، لها علاقة بالواقع الذي أعيش فيه، أو من عين الروائي الذي يلتقط التراجيديات لا الأشياء المفرحة والسعيدة؛ تلك الأشياء نحبّ عيشها لا كتابتها، ومن هذا الباب رؤيتي، بالفعل، سوداوية للعالم، لكنّ هذا لا يمنعني من أن أضع، في لوحة السواد تلك شخصيات تقاوم، أو حبّ يريد أن ينتصر، وآمال في الغد..إلى غير ذلك. أقصد أن الرواية هي جزء من عالم ينهار ، ونحن لا نعزف موسيقى انهياره، بل نريد أن نعرف: لماذا ينهار؟ ماذا يحدث للناس وهو ينهار أمامهم؟..
كان من المفروض أن أكتب رواية عن المرأة الحلم، المرأة التي نحلم بها، وتساءلت إن كان من الممكن أن توجد في الواقع، وافترضت أنها غير موجودة، أو أنها، إن وجدت، يجب أن تموت أو تقتَل. وعندما فكَّرت في مسـألة القتل هذه، قلت: يجب أن يكون القاتل هو بطل مهمّ في القصّة، ثَمَّ وجدت، في النهاية، أن قصّة القاتل هي التي استأثرت بالنصّ، بل أخذت المساحة الأكبر ، وأصبحت قصَّته هي الأهمّ في الرواية .
لا تختلف «اختلاط المواسم» كثيراً عن رواية «دمية النار»، من حيث انتقاد الواقع والتوظيف السياسي للأحداث..
– طبعاً، هي مختلفة لكنها متقاربة أيضاً.. شخصية القاتل، التي ستعبر فترة التسعينيات الأليمة، حيث ستجد مشروعية في القتل دون محاسبة القانون، ستجد نفسها مستمرّة في القتل، أيضاً، دون محاسبة القانون، لأن القانون يطبَّق، فقط، على الضعفاء، لقد تحدَّثت، في هذه الرواية، عن مرحلة ما بعد الإرهاب، حين توقّف الإرهاب، لكنّ الفساد جعل الحياة أكثر جحيماً من قبل؛ لهذا سيجد القاتل طريقة، حتى للارتزاق من القتل ..
كيف ترى تطوُّر كتاباتك ما بين «المراسيم والجنائز»، وحتى «مواسم الاختلاط»؟
– هل تتطوَّر الكتابة أم لا؟ هو سؤال مهمّ حقّاً. مع أني لا اعرف الإجابة عنه. وهنا، يتدخَّل دور الناقد الذي يتابع ويقرأ ويتأمَّل ويدلي بدلوه ..بالنسبة إليَّ، أكتب لأني أشعر أن الكتابة تسكنني من الداخل، ولا أستطيع العيش من دون ممارستها. أنا لا أكتب لأطلب مالاً أو شهرة أو جائزة، بل لأني مرتبط بها كما يرتبط الجذع بالشجرة، فهو الذي يغذِّيها، ويحفظ توازنها وتماسكها من الداخل.
من الملاحظ أن شخصيات رواياتك ترتكز ، في الغالب، على قصص حقيقية.
– لا أدري إن كانت حقيقية؛ أي حدثت، بالفعل، في الواقع ..هي، بالفعل، قد تكون حدثت أو يمكنها أن تحدث ..أنا أتخيَّل معظم الوقت، ولكن هذا التخيُّل غير بريء؛ لأني -كما قلت لك- أطالع مذكِّرات سياسيِّين..فنّانين ..وأطالع الجرائد، وأهتمّ بالأحداث اليومية، وأستمع إلى قصص ناس أعرفهم، وناس لا أعرفهم، وكلّ هذا هو، بالنسبة إليَّ، مصدر مهمّ للخيال كي يدخل في عمل روائي .
لم تتأثَّر بالمدرسة التي تكتب بالفرنسية، والتي تصدَّرت المشهد الجزائري السردي. هل هذا موقف من لغة المستعمر ؟
– يجب أن نفرِّق بين الثّقافة والاستعمار. صحيح أن الاستعمار الفرنسي همَّشَ اللّغة العربيّة في الجزائر، أو -لنقل- حاربها حرباً عنيفة حتى يفصل الجزائري عن الثّقافة التي ينتمي إليها، لكن النخبة القليلة التي تكوَّنت باللّغة الفرنسية، وكتبت بالفرنسية، كانت من بين الأوائل الذين حاربوا الاستعمار بلغته ..نتذكَّر جميعاً مقولة كاتب ياسين الشهيرة: « أكتب بالفرنسية، لأقول لكم إني لست فرنسياً».
بالنسبة إليَّ، نشأت في عائلة معرّبة؛ ولهذا كانت الكتب التي وجدتها في محيطي الأوَّل هي كتب بالعربيّة، وكان لها تأثيرها في بداية تكويني الثّقافي؛ من القرآن الكريم إلى الشعر العربي القديم إلى قصص التراث الإسلامي.. واستمرَّ هذا المنحى على هذه الوتيرة حتى الثانوية، حيث تعلَّمت الفرنسية للدراسة، وبعدها بدأت اقرأ الروايات بهذه اللّغة، والتي أعتبرها لغة ثقافية، وليست مرجعاً هوياتيّاً، أو حياتيّاً، وأتعامل معها كلغة يمكن أن أطَّلع، من خلالها، على جزء من الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية، والكثير من الأعمال التي يكتبها فرنسيون، أو المترجمة إلى لغتهم.. صحيح أن الفرنسية حاضرة، بقوّة، في المشهد الجزائري، لكنه -للأسف- ليس حضوراً يغني، بل يقسم الجزائريِّين إلى فئتَيْن وأدبَيْن، لا يتقاطعان كثيراً؛ فكلٌّ يكتب ضمن خريطته الثّقافيّة وجغرافيَّته الأدبيّة.. أقصد أننا لا نملك تعدُّداً لغوياً ثريّاً، بل انقساماً لغويّاً عند الغالبية، ولأن قلّة هم من يملكون الازدواجية اللّغوية عندنا.
هل تتعبك الكتابة؟ هل هي -فعلاً، كما يصفها البعض- كجَلْد الذات؟
– أعتقد ذلك. هي متعبة، بالفعل. الكثير من الناس ينظرون إلى الكُتّاب بنوع من الإعجاب الساحر، وكأنهم يحسدوننا على هذه «اللعنة» التي تخفي وراءها شقاءً وجوديّاً كبيراً؛ وهذا لا يعني أنه لا توجد نشوة في الكتابة، بل توجد لحظات تسعدك فيها الكتابة، لكنك تشعر بأن ثمن ذلك كبير جدّاً.
مَنْ من الروائيين الجزائريين يصنع الاستثناء، بالنسبة إليك؟
– نعاني من مشاكل كثيرة تؤثِّر في نجاح الكُتّاب، وفرض أنفسهم في الواقع، رغم أن المواهب كثيرة. في ظلّ هذه الظروف، البعض سيستمرّون، والبعض سيفشلون، والبعض سيتحوَّلون إلى مزاولة مهن أخرى.
ما الذي ينقص الرواية العربيّة لتصبح منافساً عالمياً؟
– من فرط ما نردِّد أن العالمية تبدأ من المحلِّيّة كما هو الحال مع مبدعنا الكبير نجيب محفوظ، أو الطيِّب صالح، لم نعرف، بعد، كيف نستثمر في هذه المحلِّيّة، أو كيف نقدِّمها للعالم؛ ولهذا تجد، عند البعض، ميلاً، الآن، للكتابة حسب الموضة، وتقليد الكُتّاب العالميِّين الكبار مثل «موراكامي»، أو «بول أوستر»… اليوم، يوجد هاجس الشهرة والنجاح، ومع ذلك لم يحقِّق هؤلاء ما يريدونه؛ أي الوصول إلى عالمية موهومة لأنهم ينطلقون -أصلاً- من التقليد، والإبداع عدوّ التقليد.
كيف تقرأ ملامح المشهد الروائي العربي، اليوم؟
– أصبح معقَّداً جدّاً، ولم يعد سهلاً معرفة ماذا يُكتَب فيه. اليوم، صعب على الكاتب العربي أن يتابع كلّ ما يكتب في هذا المشهد المترامي الأطراف. ربَّما تفيدنا الصداقات بعض الشيء، وتجعلنا نعرف واحداً أو اثنين من كلّ بلد عربي، لكن حتى هذا كثير، ويصعب متابعة كلّ شيء. طبعاً، ما يزال القديم في السنّ يحتلّ واجهة المقدّمة، وليس كلّ قديم يعني إبداعاً كبيراً، وليس كلّ جديد يعني إبداعاً جديداً، أو أظنّ هذا.
حصلت على جوائز أدبية رفيعة. ماذا تعني الجائزة للمبدع؟ كيف تنظر إلى الجوائز الأدبية؟ وهل تراها رافعة للإنتاج الأدبي العربي؟
بوصفها تقييماً، أنا لا أعتقد ذلك. لكن للجوائز فوائدها طبعاً، وكلّ كاتب يحلم بالجائزة التي تلقي عليه الضوء، وتخرجه من الهامش إلى المتن. وأنا مدين، بشهرتي العربيّة، لرواية «دمية النار»، فقط، التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة «بوكر»، وهذا العام وصلت روايتي «مواسم الاختلاف» إلى القائمة الطويلة الجائزة نفسها، فقبل ذلك تعرَّف إليَّ الأصدقاء الكُتّاب العرب من خلال مقالات بعض النقّاد المعروفين كمحمد برادة، لكن الشهرة بدأت مع «دمية النار». والحقّ، كما يعرفني المقرَّبون، أنا لاأهتمّ بالجوائز، فإن جاءت فمرحباً بها، وهي شيء مشجِّع مادِّيّاً ومعنويّاً، وإذا لم أحصل عليها فلن يزعجني الأمر..
بعد (11) رواية، وعدّة مجموعات قصصية، هل كتبت روايتك التي تريد؟
– لا أظنّ ..كلّ كاتب يحلم بالرواية النهائية ..الرواية التي لو نكتبها سنتوقَّف، حتماً، عن الكتابة لاحقاً ..ربَّما، هذه الأمنية هي التي تدفع إلى مزيد من الكتابة لمطاردة مثل هذا الحلم.
هل من مشاريع قادمة على أرض الكتابة؟
– حاليّاً، عندي هواجس، وأفكار، وتأمُّلات، وشخصيات عالقة، وأحلام، وكوابيس..وكلّها عناصر صالحة لبدء رواية جديدة.
يعيش العالم، حاليّاً، حالة من الخوف والقلق بسبب «فيروس كورونا».. لو أردنا أن نوظّف الأدب والإبداع في مواجهة مثل هكذا مصائب، فكيف سيكون دور الأديب والمبدع هنا؟
– الشيء الوحيد الذي ربَّما يستطيع الأدب أن يساعد فيه، في ظلّ الحجر الصحّي، هو أن يدعم وعي الناس الذين يطالعونه بأهمِّيّة الحياة والصمود ومعرفة ما يجول في النفس البشرية من شرور وخير ، وطريقة للهروب من هذه اللحظة الأليمة، وهذا المصاب الشديد.