بصمات علي قنديل

| 14 يونيو 2020 |
رُبَّما كان قَدَر الشاعر المصري علي قنديل (1953 – 1975) أن يتموقع بين شوائب جيلَيْن: جيل ما قبل الخمسينيات، وجيل ما بعدها، وهو- في الحقيقة- جيل واحد، هناك مَنْ رأى أنه من المجحف وضعه داخل السّلة نفسها، وآخرون لم يجدوا، إلى اليوم، حرجاً في اتِّهامه بأنه جيل الانقلاب على نفسه، على نحو ما أَمْلته الظروف السياسية. في قلب هذا السياق، ظهر علي قنديل، متسلِّلاً بحزمة قصائد، عبر ترعة، من الراجح أن لا أحد من أنداده أدركَها في تلك الآونة، وكأنه أراد، بذلك، تهريبها نحو الحلم والمستقبل الغيبي.
في مقدَّمة آثاره الشعرية، التي جُمِعت بعد رحيله بفترة، نَحَت الشاعر عفيفي مطر شاهدة في حقّ رفيقه الملهَم، جاء فيها: «يكوِّن علي قنديل، بحياته، وموته، وكتاباته، ظاهرة خارقة للاستيعاب والفهم المبكِّرَيْن، وسؤالاً عظيماً، ما يزال مطروحاً بعد أن رحل…».
في بداية السبعينيات كان أفق القصيدة العربية الحديثة، بكلّ أنواعه، قد اكتمل أو في طور اكتماله، ولم يكن أمام الموجة الثالثة إلّا التمرد والخروج على السياق الذي تمّ تكريسه، فظهرت الخروجات حادّة وصريحة: في العراق، في «مدرسة كركوك»، و- بالأخصّ- في تجربة سرجون بولص وصلاح فائق، وفي لبنان في تجربة وديع سعاده وعباس بيضون، بينما ظلّ السياق الشعري، في مصر، على حالته، باستثناء الشاعر «محمد عفيفي مطر» الذي شكّل، وحَده، خروجاً حادّاً، وأسّس لنصّ جديد يتناقض كلّيّاً مع شعرية الروّاد.
أما السبعينيون فقد لعبوا على إعادة إنتاج نصّ الحداثة، بأنماطه المتعدّدة، فمنهم من أعاد إنتاج شعريّة «صلاح عبد الصبور»، مثل محمد سليمان، ومنهم من استلهم أداءات أدونيس الشعرية وقيمه الروحية، رغم ما بينهما من اختلافات، مثل «عبد المنعم رمضان»، أما الخروج الحقيقي فقد كان لعلي قنديل وحلمي سالم.
وعندما استطاعت الحركة الشعرية، في مصر، إنتاج نصّ جديد، يتقاطع ويتناقض، في الآن نفسه، مع الميراث الروحي ومع أشكال التعبير المتاحة مع الموجة الرابعة، في بداية الثمانينيات، شارك بعض السبعينيين في إنتاج هذا النصّ، مثل: محمد صالح، وأحمد طه، ومحمد آدم، وفريد أبو سعده، كلّ بحسب معرفته وتقنياته التي اكتسبها من الكتابة المتكرّرة.
وتميَّزت شعريّة «علي قنديل» الذي توفِّي مبكراً- عن اثنين وعشرين عاماً- بالرؤية النافذة، إذ أدرك حقيقة الصراع في المجتمع، وما يحدث فيه من كوارث، ليس عن طريق المعرفة فقط، بل بالحدس والمعايشة.
وقد تأثَّرت هذه الرؤية بموروث الجماعة الروحي أو الوعي الكلّي الذي يحكم سلوك الأفراد والجماعات، ويهيمن عليه، وهي غنائية ومثالية، في مجملها، وذات إيقاع ساحر، لا ينتمي إلى الإيقاع الخالص، كما لا ينتمي إلى النثر الخالص، وهي روح متألِّمة، لكنها ليست مأساوية، وهي أقرب إلى ما هو بدائي أو فطري لدى الإنسان. كما يظهر هذا التسامي في أخوّة الإنسان مع الحيوانات والجمادات أو مع الطبيعة، بشكل عامّ، إذ شكّلت الطبيعة، بمفرداتها الكثيرة، محوراً أساسياً لدى الشاعر، سواء في الخيال، وفي الدلالة، وفي المسمّيات التي تنتمي إليها.
فالتجربة كلّها تقوم على إدراك أهمّيّة الصراع في كلّ شيء: في العالم، وفي المجتمع، وفي الذات، إلّا أنها تأخذ، في كلّ نوع، شكلاً مميَّزاً؛ ففي إطار الصراع العامّ يقول:
«هنا الأرض صومعة، تتقلَّب في كفّ وحش البراري، وترقص للحلم فارغة. والنهاية تنداح في موجة من الجَزْر، والبحر جُروف وتفّاحة من عصير الخديعة».
فالعالم كلّه سجن صغير «صومعة»، وهذه الصومعة ليست للعـبادة، أو لتخزين الغلال، بل تتقلَّب في كفّ وحش من البراري، ولا يتحقّق أحلام الجماعة البشرية فيها، وهم بين الموت والخديعة.
أمّا الصراع الدائم في المجتمع، فإنه لا ينتهي، ولا حدود له، وقد كشفه الشاعر بطريقة مباشرة وجارحة- أيضاً- إذ يقول:
«أيّام الفقر زاعقة كالحريق، بطيئة كخيبة الأمل.
مجرم من يفتقر
مجرم من يغتني
لكنما الأشدّاء أولو البأس هم الصابرون على العوز، الحازمون على البطون، الحازمون على الشرف».
أمّا عذابات الذات وصراعها مع كلّ القوى التي تسيطر، وتدفع المصائر البشرية إلى الهاوية فإنها محور التجربة الأساسي، و إن أخذت أنماطاً في الأداء متنوِّعة، بحسب ما يمرّ به من اختبارات، فأحياناً يقول:
«لا أفق يبصرني
لا أسماء
مزروعة خطاي في تهدُّج الرثاء
غداً، تشقّني الرياح رافداً للدمع
خفق اللهيب بعضي،
وبعضي القريب»
هذه الذات الهشّة والضعيفة، والتي لا تحقّق وجودها الإنساني، تأتي كثيراً في النصوص إلّا أن الشاعر يحدّد، في نصّ آخر، ما يعانيه من الوحدة:
في الوحدة يعرف صدري أن يفتح ذاته، وتأمن كلّ القرون المخبوءة فيه، فتخرج لا تخشى الحديد الذي ينطلق في الشوارع، ولا العيون الخبيثة التي على اللحظة، ولا العكارة التي لا تستريح، وليس لها شاغل إلّا إفساد اشتهائي وإفساد دمعي.
بدأت تجربة علي قنديل متأثِّرة بالنصّ الشائع، وبالمعرفة السائدة، وهذا أمر ضروري حتى يتعرّف بالأنموذج الذي يختاره، ويظهر هذا في القسم الأوَّل من ديوان «الآثار الشعرية الكاملة» تحت عنوان «قصائد أولى» (1970 – 1973)، وكان من أكثر الاصوات المؤثِّرة فيه صلاح عبد الصبور وعفيفي مطر.و رغم ما بينهما من تناقضات، فقد تأثَّر بقدرة عبد الصبور على التأمُّل القريب والبناء النثري للجمله الشعرية، مثل:
يا ليل،
يا محيطنا المقدَّس النبيل،
الشمس خلف بابنا تكاد أن تبين،
ونحن في ظلامك الأمين
نخاف نورها وزهرها الجريء
أمّا معايشته لعفيفي مطر وصداقته الدائمة له، فقد أثَّرت في معرفته أوَّلاً، حتى أنه حدّد انحيازاته مبكِّراً، سواء الاجتماعية والشعرية، ومن أهمّها اهتمامه بالثقافة المصرية القديمة ورموزها الفاعلة، مثل:
حوريس يطلع بالشعير وبالغلال
بمواسم الأرزّ السخيّة
متعالياً مثل النخيل
حرّاً كأطراف البحيرات القصيّة،
لكنه عند الهضاب
ما زال ظلّاً واغتراب
وكذلك اهتمامه بالتصوُّف، وإن جاء أكثر شفافيةً وأكثر وصولاً للأشياء والحالات من عفيفي مطر؛ إذ إن لغة علي قنديل كانت واضحة وغير مركَّبة، وتعتمد على الدلالة القريبة، ولم يظهر ذلك إلّا في القسم الثاني من التجربة، وتأثَّر، كذلك، ببعض المفردات المركزية في تجربة عفيفي مطر الأولى، وكانت تلعب دوراً في توالد شعرية ما لديه، مثل:
كنت طفلاً، والظهيرة
استحمَّت في المطر
حين كان الظلّ يزرعني بعينيك يمامة،
ويجبرني على كفَّيك خطّاً لاهثاً
فرساً فخوراً بالوسامة
أمّا تجربته المهمّة، فائقة القيمة، فقد ظهرت في القسم الثاني من الديوان «قصائد متأخِّرة» (1974 – 1975)، إذ اكتشف ذاته مرّة أخرى، وبطريقة جديدة، ففي قصيدة «هوية» يقول:
أنا الشعر
والشعر ياقوتتي الأنثوية.
هل الكون يعلم أني أغنّي لآخر ما
بعثرته جياد البرّيّة؟
هذا هو تكوين الإنسان الكامل، الذي يجمع الذكورة والأنوثة معاً، ويحمل رسالة روحية لكلّ المعذَّبين والمتألِّمين في الأرض. ورغم هذا الاكتمال، فإنه يعاني من قلق وجوديّ، أقرب أن يكون جزءاً من طبيعته، فهو يجمع بين المتناقضات في المعرفة والحياة: يجمع بين الحقيقي والأسطوري، يجمع بين المدنَّس والمقدَّس. وربّما، تكون قصيدة «العصاقير الطليقة» أوّل نصوصه الكبيرة، ومنها بدأ تميُّزه الشعري؛ إذ تقوم على فكرة تحرُّره من كلّ القيود والاحتياجات، والاقتراب من الرؤية الصوفية، التي تعتمد على الحدس والقدرة المذهلة على الفعل، وإن كان في اللّغة، فقط.
والنصّ كلّه قائم على الاستجابة الداخلية لما يحدث في الخارج، معتمداً على الفيوضات أو التداعي الحرّ للغة والدلالة معاً:
كلّ شيء سوف ينزل ساحه الإشراق
يجذب مغنطيس الدم مهجته،
فيصعد ساخناً لدناً، فلحظة بدئه دقّت،
ودقّ القوم رايتهم، وكان الرمل دفئاً
كانت الأشجار أكثف من مواعيد الهوى
وتصل هذه الرؤية ذروتها في قصيده «القاهرة»، وهي تمثِّل اللحظة الفارقة في تطوُّر شكل الكتابة الشعرية في مصر؛ إذ تقوم على البناء السردي الخالص في تتابع وحدات السرد، بدءاً من قريته، ثم الرحلة، ثم محطّة الوصول (القاهرة)، واكتشافها من جديد. كلّ ذلك تمّ من خلال خيال مدني حديث، يعتمد على ما هو مدرَك بالحواس، وعلى اللّغة الحيّة، ذات الدلالات المادّيّة، مثل:
شريط القطارات كان يوازي تفجُّر وردة،
وكان المساء خواتم ذهبية في الأصابع
تورد للقلب ما يعجز الصمت أن يحتويه.
ثم يصل إلى القاهرة:
انغرست لافتة أولى
القاهرة
دخان يقترب
سماء مدرجة في قائمة الأعمال.
وفيما بين الحلم ومائدة الإفطار
توابيت تتناسل
فطر يتناسل
والساعة، في عكس إيقاع القلب، تدقّ.
ثم القاهرة تؤذّن لصلاة العصر:
تشبّ المآذن فوقاً.. لماذا؟
يسائلني رأسه الكربلائي، وهو قطيع عن الجسد العربي،
أنظر حولي
لا طير حَيّ
لا طير مقتول.
كانت تجربة علي قنديل الخاطفة والعميقة مجرَّد إشارة قويّة على شيء كبير، لم يكتمل، و- ربَّما- لم يستطع أحد أن يطوّر هذه التجربة إلّا في الحدود الضيِّقة في بعض نصوص الشاعر الكبير «حلمي سالم».
إنها حالة خاصّة في مجملها، وإن تقاطعت، في تفاصيلها، مع المبدعين الكبار.