بيروت أو جروح الضوء!

| 30 أغسطس 2020 |
كانت الهزّات التي عرفَها لبنان وعرفتْها، بوَجه خاصّ، مدينة بيروت، مُنذ الحرب الأهليّة مُنتصَف سبعينيّات القرن الماضي وما تلاها من اجتياحات إسرائيليّة سافرة، تُضاعفُ جُروحَ ذاكرة المدينة، وتُضاعفُ، في الآن ذاته، الحاجة الدائمة إلى ضَوء الثقافة الحُرّ والمُقاوم، الذي إليه انتسبَت بيروت في الزّمن الحديث، وأسْهمَت، بقوّة، في إشعاعه باعتبار ما اضطلعَت به المدينة، على هذا المستوى، عربيّاً. إنّه الضّوء الذي به تمكّنَت بيروت، لعواملَ عديدة، من أنْ تصيرَ، في خمسينيّات وستينيّات القرن الماضي، مدينةً ذات سُلطة ثقافيّة في مُحيطها العربيّ، أي أن تصيرَ مدينةً لإنتاج الأفكار والرُّؤى والتصوّرات الحداثية، وتأمين امتداد هذا الإنتاج وترسيخ تأثيره خارج لبنان. بهذا الضوء، أيضاً، تمكّنَت بيروت، لا من أنْ تُمدِّدَ إشعاعَها في المُحيط العربيّ وحسب، بل من أنْ تضطلعَ كذلك بمسؤوليّة الضيافة الثقافيّة، التي لم تتسنّ تاريخيّاً إلاّ لمُدُن مَحدودة في العالَم، أي أنْ تصيرَ فضاءً حرّاً، ووِجهةً للمُبدعين والكتّاب والمفكّرين العرب، بما جعلَ بيروت مدينةَ لقاء فكريٍّ وأدبيٍّ. إنّه لقاءُ الضيافة الذي أغنَى الأفكارَ والرؤى، واتّسعَ للاختلاف، ورَسّخَه في أفُق يَنشدُ الحُرّية، وساهمَ في تقويّة تنوُّع المدينة الثقافيّ وفي اكتسابها وَضعاً اعتباريّاً ظلَّ غيرَ مُنفصل عن كلِّ ما هَيّأها لاستحقاق ريادتها الثقافيّة. إلى جانب هذه الضيافة، التي تحتاجُ كلُّ مدينة مُهيَّأةٍ للاضطلاع بها إلى بنية ثقافيّة ومناخ حُرّ، نَهضَت بيروت، أيضاً، انطلاقاً من انتصارها لفكرة التصدّي والمُمانعة، بضيافةِ أصوات المُقاوَمة، وذلك باحتضانها للمنفيّين، وللفدائيّين الفلسطينيّين. وقد شكّلَ هذا الوجهُ الثاني للضيافة جانباً من وَجه المدينة المُشرق، الذي ترتّبت عليه، هو كذلك، تبعاتُ الانتصار للحرّيّة في مُحيط مشحون بالصّراعات.
لا يتحقّقُ الاضطلاع بالضيافة الثقافيّة، الذي تسنّى لبيروت، إلاّ للمُدن التي يَقترنُ اسمُها بما هو ثقافيّ، بل تكونُ الحياةُ في هذه المُدن قائمةً، أساساً، على البُعد الثقافيّ، بوَصفه حاجةً وُجوديّة تَسري في تفاصيل الفضاء اليَوميّ، وبوَصفه، أيضاً، حصانةَ العيش المُشترك، ودِعامةَ مفهوم الاجتماع الحُرّ والحداثيّ الذي ظلّت لبنان، دَوماً، تَنشده. إنّه المفهوم الذي استوعَبتْه بيروت بوُعُود الحُرّيّة التي كانت تترسّخ فيها، وبشرارات الضّوء الثقافي المُستقبليّة التي كانت تشعّ من فَضائها، وإنْ بقيَ مفهومُ الاجتماع الحُرّ، وصيَغُ تحقُّقه وترسُّخه في الحياة اليوميّة، مُحاصَراً، دوماً، في هذه المدينة، وفي لبنان، على نحو عامّ، بعتمة السياسة. ظلّ الاجتماع، الذي كانت بيروت ترسمُهُ لحياة حُرّة هَشّاً أمام صلابة السياسة، لأنّه بقيَ دوماً مُهَدَّداً بمُوجِّهات المُحدِّد الطائفي الذي تسلّل إلى النظام السياسيّ للبلد، ومُعطَّلاً بضيق الحسابات السياسيّة، وبالعوائق التي تعترضُ تأسيسَ مُواطَنة حداثيّة مُتحرِّرة من المُحدِّد الديني أو الطائفيّ؛ مواطَنة قائمة على مبادئ حُقوق الإنسان الكونيّة التي لا تتقيّدُ، لا بالعرقيّ ولا بالطائفيّ ولا بالدينيّ. إنّ جانباً من تاريخ بيروت الحديث يُمكنُ أنْ يُقرأَ انطلاقاً من مَسار عوائق السياسة لوُعُود الثقافة. كثيراً ما تأتّى لعَمَى السياسة وعتمتها أنْ يَحجُبا ضوءَ الآفاق التي تنشدُها الثقافة، وأنْ يُطفِئا شرارةَ الوُعود التي يرسُمها الفكرُ الحُرّ. لذلك لم يَتمكّن الضّوء الثقافي، الذي أشعّ في بيروت في خمسينيّات وستينيّات القرن الماضي، مِن أنْ يَمنعَ حُدوثَ الحرب الأهليّة التي أنْهكَت البلدَ في السبعينيّات لمدّةِ عَقد ونصف. كانت هذه الحَربُ شاهدةً على الإخفاق في إرساء المفهوم الحداثيّ للمُواطنة الذي كان مُضمَراً في الديناميّة الثقافيّة للعَقدَيْن السابقَيْن؛ أي المفهوم الذي يُحقّقُ العيشَ المُشترك القائمَ على استيعاب الاختلاف، بوصفه قوّةً وإغناءً لهذا العيش، لا بوصفه تأجيجاً للإقصاء وللصراعات الدمويَّة. فرغم أنّ الضّوءَ الثقافيّ يبقى، دوماً، أكثر شسوعاً من ضيق السياسة، بما تُتيحُه رَحابةُ الفنّ وسعةُ الخيال الأدبيّ وأسئلةُ الفكر، لهذا الضّوء، من إشعاع، فإنّ ضَيقها كثيراً ما حاصرَ هذا الشسوع، وقلّصَهُ، وعرقلَ امتداداته في الاجتماع، أي في الحياة اليَوميّة وتفاصيلها.
نادرةٌ هي المُدُن التي تَهيّأ لها، تاريخيّاً، أن تكونَ مَركزاً ثقافيّاً، وأن تكون فضاءً للضيافة الثقافيّة، أي فضاءً حُرّاً يَستقبلُ المفكّرين والكتّاب والمُبدعين من بُلدان مُختلفة، ويُهيِّئ لهُم المناخ الفكريَّ والاجتماعيَّ والسياسيّ المُحفِّز على الكتابة والإنتاج، ويُتيحُ لهُم الحرّيّة التي بها تحيَا الكتابة. فلبنان الذي عُرفَ، مُنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بهجرة مُثقّفيه إلى بقاع العالَم، وبإسْهامهم التاريخيّ في تأسيس ما عُرف بأدَب المهجر الذي أنتجَ مُبدعاً من قيمةِ جبران خليل جبران، هو عينُه لبنان الذي هيّأ بيروت، بناءً على ما تسنّى لها مِن عوامل، كي تكونَ فضاءً لاستقبال المُثقّفين من العالم العربيّ، ومكّنَها من الاضطلاع بمسؤوليّة الضيافة الثقافيّة الحُرّة. فكانت بيروت بمَوقعها المتوسّطي، وباحتضانها للثقافة المتوسّطيّة القائمة على أسُس العيش المُشترك، مُؤهَّلة حتى جغرافيّاً لأنْ تنفتحَ على الضفّتيْن، وأن تُهيِّئَ من هذا الانفتاح ما صنعَ وَضْعها الاعتباريّ، الذي تحقّق، من جهة، استناداً إلى تجاوُبها، ثقافيّاً، مع الزمن المعرفيّ للضّفة الأخرى، واستناداً إلى إسهامها، من جهة أخرى، في إرساءِ ثقافةِ التحديث في ضفّتها، أي داخل لبنان وفي البلدان العربيّة، بوَجه عامّ.
لا يَستقيمُ التفكير في مُحاولات النهوض الثقافيّ الحداثيّ في العالم العربيّ، مُنذ النصف الثاني مِن القرن التاسع عشر إلى ستينيّات القرن العشرين، دون استحضار الدور الرياديّ لمدينة القاهرة، ولمدينة بيروت بَعدها، على نحو غدا معه التاريخُ الحديث لبيروت غيرَ مُنفصل، بجُروحه وآلامه، عن دَورها الثقافيّ. فقد اضطلعَت بيروت، في الزمن الحديث، بدَور رياديّ بيِّن على المُستوى الثقافيّ، إذ شكّلت، إلى جانب القاهرة، مَصدراً ثقافيّاً امتدّ أثرُه إلى مُختلف بلدان العالم العربيّ. وهي، بذلك، من المُدُن التي اضطلعَت تاريخيّاً بمهمّة التأثير الثقافيّ الذي لا يَستقيم إلاّ بتوفّر عوامل إحداثه، وفي مُقدِّمتها التوفّر على مُؤسَّسات ثقافيّة. تجسّدَت هذه المؤسَّسات، من بَين ما تجسَّدت فيه، في تطوّر صناعة الكتاب، وفي التوفّر على نخبة مثّقفة مؤهَّلة لإنتاج خطاب فكريّ وأدبيّ مُتجاوب مع زَمن المعرفة، على النّحو الذي أهّلَ المدينة، كما تقدّمَت الإشارة إلى ذلك، لأن تُشكّلَ فضاءَ لقاء فكريٍّ وأدبيٍّ، وأهّلها لأن تُشكّل، في الآن ذاته، منارةً ثقافيّة تمتدُّ خارجَ حُدودها. تبدَّت هذه القدرة على التأثير، الذي اضطلعَت به بيروت، من ديناميّة دُور النّشر في صناعة الكتاب، ومن احتضان هذه الدُّور لأسماء فكريّة وأدبيّة وازنة من داخل لبنان ومِن مُختلف الأقطار العربيّة، حتى لقد تحوّلَ نشرُ المؤلّفين لكتُبهم في لبنان، إلى تزكيّة معرفيّةً، بحُكم السلطة الثقافيّة التي اكتسبَتْها مدينة بيروت، وبحُكم السّمعة العلميّة التي حظيَت بها مُؤسَّساتُ دُور النشر فيها. بهذه المُؤسّسات التي اهتمّت بالطّبع والنشر، غدَت بيروت مصدراً للكتاب الثقافيّ المُنحاز للرّؤى الحداثيّة ورافداً للتصوّرات النازعة إلى التغيير، إذ اضطلعَت العديدُ من المؤلّفات، التي تكفّلت دُور النشر في بيروت بطبْعها وتوزيعها في بلدان العالم العربيّ، بإنجاز دالٍّ في تاريخ الثقافة العربيّة الحديثة، وبعَمل حَيويّ في التثقيف وإرساءِ فِعل القراءة، وفي ترسيخ رُؤى حداثية وتصوُّرات جديدة. عرَفت المؤلّفات المنشورة في بيروت، التي أنتجَها مفكّرون وأدباء من داخل لبنان وخارجه، امتدادَها الفكريّ والأدبيّ بتوزيعها في العالم العربيّ، وهو ما ترتّب عليه أثرٌ تثقيفيّ مُتشعِّب. فبقدر ما تسنّى لهذه المؤلّفات أنْ تخلقَ قُرّاء في مُختلف بلدان العالم العربيّ، تأتّى لها، أيضاً، أن تُحدثَ، في هذه البلدان، تفاعُلاً ثقافيّاً مع قضايا التحديث والتجديد، ومع أسئلة الفنّ والإبداع، وأسئلةِ الأجناس الأدبيّة والنقد الفكريّ والأدبيّ، فكان امتدادُ بيروت خارج لبنان ضَوءاً ثقافيّاً، وكرَماً فكريّاً أفادَت منه القراءةُ في مُختلف البلدان العربيّة، فكثيرٌ منَ المثقّفين، اليوم، يَعترفون بما تعلّموه مِنْ كرَم بيروت المعرفيّ وبما تحصّلَ لهُم مِن ضَوئها الثقافيّ.
إلى جانب ما اضطلعَت به دورُ النشر البيروتيّة في التثقيف والتحديث، أسهمَت، أيضاً،المؤسَّسات الصِّحافيّة التي شهدَتها هذه المدينة في إغناء البُعد الثقافيّ وتقويّة حيَويّته. وهي الحيَويّة التي كان لها دَورُها، أيضاً، في إكساب المدينة وَضْعَها الاعتباريّ، إذ شكّلت التجربة الصِّحافيّة، في بيروت، لحظةً رئيسَة في تاريخ الصِّحافة العربيّة، حتّى ليتعذّرُ الحديث عن الصِّحافة في الزّمن الحديث بالعالم العربيّ، وبوَجه خاصّ الصِّحافة الثقافيّة، دُون استحضار مُنجَزَها وديناميّتها في مدينة القاهرة، أوّلاً، وفي مدينة بيروت بَعدها، التي تميّزَ نشاطُها الصِّحافيّ بإسهام المُثقفين وبحرصهم النقديّ على إغناء هذا النشاط وجَعْل الصّوت الإعلاميّ مُحَصَّناً بالمَعرفة. إنّهُ ملمحٌ آخَر من مَلامح الضّوء الثقافيّ في بيروت، الذي اخترقَ التجربةَ الصِّحافيّة وحصّنَ الإعلامَ، في فترة تاريخيّة، من آفةِ تحويل الكلام إلى كتابة، ومن كارثةِ الاستخفاف بالمَعرفة، ذلك أنّ الانحدار الذي عرفَته، فيما بَعد، الصِّحافةُ المكتوبة، بوَجه خاصّ، والإعلام، بوَجه عامّ، في كلّ الأقطار العربيّة، راجعٌ، إلى جانب عواملَ أخرى، إلى تَحَلُّل الإعلام من الثقافة ومن المعرفة، وإلى التجرُّؤ، في الآن ذاته، على الحديث باسْمهما، بما أتاحَ ظهورَ نَمط من الصّحافيّين لا ثقافةَ لهُم، بل ما يُوجِّههم، أساساً، هو مُمارَسة الإعلام بمُعاداةِ الثقافة. كما لو أنّ المسارَ التاريخيّ للصِّحافة العربيّة كان يَتحقّق، متى استحْضَرنا ضَوءَ القاهرة وضَوء بيروت المُشعَّيْن، وهو يَرسمُ مَنحى انحداريّاً بالانفصال التدريجيّ عن الثقافة. فبانقضاء كلِّ عَقد زَمنيّ، كان يتعمّقُ الانحدارُ أكثر، بإصرار غريب على الابتعاد، تدريجيّاً، عن الثقافة، حتى غدا الإعلامُ المكتوب والإعلام المَرئيّ مُضادّيْن للثقافة، وحَريصَيْن على تَسفيهها وهَدمها باسْم الثقافة نفسِها.
مِن تجلّيات الديناميّة الثقافيّة المُتعدِّدة في بيروت، ما شهدَتهُ هذه المدينة، أيضاً، من تجمُّعات وحركات فكريّة وأدبيّة راهنَت على التحديث في الفكر والأدب، وشكّلَ تأسيسُها، وامتداداتُها عبر منشوراتها، لحظات رَئيسة في بناءِ ذاكرة الثقافة العربيّة الحديثة، إذ يتعذّرُ التأريخُ للأفكار الحديثة، في العالم العربيّ، دون استحضار هذه الحركات والتجمّعات، وما اضطلعَت به من أدوار. من النماذج القويّة لهذه الحركات، يُمْكن استحضار مجلّة «الآداب» التي أسّسها سهيل إدريس في النصف الأوّل من خمسينيّات القرن الماضي، ومجلّة «شعر» التي أسّسَها يوسف الخال بمعيّة أدونيس في النصف الثاني من هذا العَقد نفسه. وقد نهضَت المجلّتان بدور تحديثيّ في إذكاء ضَوء بيروت الثقافيّ؛ ارتبطَت الأولى منهُما بالأدب، بوَجه عامّ، فيما توَجّهت المجلّة الثانية إلى الشعر، وظلّتا معاً، من داخل الاختلاف الذي تولّدَ بينهما فيما بعد، مُنشغلتيْن بقضايا تحديث الرّؤية إلى الإنسان والاجتماع، ومُنشغلتيْن بقضايا اللغة والأدَب والشعر، بل يُمكنُ النظر حتى إلى السّجال الذي حكمَ العلاقة بين المجلّتيْن بوصفه مظهراً من مظاهر الاختلاف الثقافيّ. كان تأسيسُ مجلة الآداب، زَمَنئذ، مُستجيباً للزمن المعرفي الذي به تأثرَ سُهيل إدريس في أثناء إقامته بباريس، ولا سيَّما تأثره بمجلّة «الأزمنة الحديثة» التي كان يُصدرُها «سارتر». هكذا، كانت حمولة المذهب الوُجوديّ واضحة في مفهوم المجلّة، عن «الالتزام» في الكتابة كما كانت حمولة المفهوم مشدودة، أيضاً، إلى التَوجُّه القَوميّ الذي ارتضتْه المجلّة ودافعَت عنه. أمّا مجلّة «شعر» فقد جسَّدَت تفاعُلاً قويّاً مع زَمنها المعرفيّ، وفتحَت لتحديث القصيدة، الذي انطلقَ من العراق، مسالكَ حاسمة في ما عرَفتْه الكتابة الشعريّة، لا في لبنان وحسب، بل في العالم العربيّ بصورة عامّة.
إنّ ضوء بيروت الثقافي، الذي تمّ الإلماح إلى بَعض المظاهر التي جسّدَتْه في القرن الماضي، كان مُهيَّأً، بحُكم التنوّع والتعدّد اللذيْن يُميّزان تركيبة لبنان، لأنْ يقودَ إلى بناء مُجتمع حداثيّ يَستثمرُ تعدُّدَه في إرساء مُواطَنة قائمة على القيَم الكونيّة لا على اعتبارات دينيّة وطائفيّة، أي أنّ ضوءَ الثقافة والفكر الحُرّ كان مُؤهّلاً لأنْ يُسهمَ في ترسيخ نظام سياسيّ لا يرتهنُ إلى التوازنات الدينيّة والطائفيّة. فكلّما كانت تركيبة مُجتمع من المُجتمعات مُتنوِّعة ومُتعدِّدة، كان أفقه مُشرعاً على احتماليْن؛ إما أنْ يتحوّلَ هذا التعدّد والتنوّع إلى إمكان خَصيب لبناء مجتمع حداثيّ مُستند إلى قيَم العَيش المُشترك الكونيّة، وإمّا أن يغدوَ هذا التعدّد والتنوّع عائقاً أمام كلّ بناء حداثيّ. والحال أنّ جُروح بيروت، مُنذ القرن الماضي، لا تنفكُّ تكشفُ أنّ ضوءَها ظلّ يَصطدمُ، دوماً، بعتمة النظام السياسيّ الذي احتكمَ إلى بنية التوازنات، بما جعلَ بيروت رهينةَ، لا توازُنات سياسيّة داخليّة وحسب، بل رهينةَ حسابات خارجيّة، أيضاً.
عندما تغدو ذاكرةُ المدينة، أيِّ مدينة، مُثقلةً بالجراح أكثر من علامات الضّوء الصادر من صَوتها الحُرّ، فذلك معناه أنّ المدينة تحتاجُ لأنْ تخرُج من نَفسها، وتتحرّرَ ممّا يَحجبُها عن ذاتها. لقد كان مشهدُ بيروت المأسوي، في الرابع من غشت/ أغسطس، 2020 وهي تحترق بَعد الانفجار المُهول، دالّاً، بمعنى من المعاني، على استفحال عوامل تجفيف ضَوئها، الذي كان، دوماً، وَعداً مستقبليّاً. مُفجعٌ أن تقترنَ بيروت، هذه الأيّام، في شاشات العالَم، بالخراب والدمار، هي المدينة التي كان ضوؤُها الثقافيّ ينتصرُ للحياة، ويُنيرُ المسالكَ التي تُقوّي الأملَ في المُستقبل.