تاريخ التعب: من العصور الوسطى إلى حاضرنا

عبد الرحمان إكيدر  |  24 فبراير 2021  |  

شهد عصرنا الحالي امتداداً غير مسبوق للتعب، الذي بدا إمكان كبحه أو حتى تطويقه، صعب للغاية. يمتدّ هذا التعب من مكان العمل إلى المنزل، ومن أوقات الفراغ إلى السلوك اليومي. تعدَّدت أشكاله مع مرور الوقت، وتعدَّدت معها التفسيرات والتبريرات، متَّخذة مجموعة من المظاهر التي تعبِّر عن الكسل والإنهاك والإرهاق الذهني والإجهاد البدني والألم … وقد يزداد الأمر تفاقماً إلى درجة «متلازمة التعب المزمن».

شكَّل هذا الموضوع محور عمل «جورج فيجاريلو – Georges Vigarello»، الذي سلَّط فيه الضوء على التعب، من خلال تقديم عرض تاريخي وفلسفي وأنثروبولوجي وسيكولوجي في كتابه «تاريخ التعب: من العصور الوسطى إلى حاضرنا – Histoire de la fatigue : Du Moyen Âge à nos jours» الصادر، مؤخّراً، عن دار النشر «سوي». ويُعَدّ «فيجاريلو» مؤِّرخاً وأنثروبولوجيّاً متخصِّصاً في القضايا المتعلِّقة بالصحّة والجسد، وتأثيرهما على ثقافتنا عبر الزمن، كما يشغل منصب مدير مدرسة الدراسات العليا في العلوم  الاجتماعية (Ecole des Hautes Etudes en Sciences Sociales)، نشر العديد من الكتب، بتعاون مع «آلان كوربين – Alain Corbin» و«جان جاك كورتين – J – J Courtine»، أبرزها: «تاريخ الجسد» (2006)، و«تاريخ الرجولة» (2011)، و«تاريخ العواطف» (2016).

من الناسك المنهك إلى المسؤول التنفيذي المرهق

كيف اختبر الغرب موضوع التعب؟ وكيف وصفوه، وفكروا فيه؟ بأيّة وسائل حاولوا علاجه والتغلُّب عليه؟، وكيف أسهم الإقرار التدريجي بمفهوم التعب، في تشكيل حياتنا، وعلاقاتنا بالجهد، وتنظيم العمل؟

يتتبَّع «جورج فيجاريلو» كلّ ذلك، من العصور الوسطى إلى حاضرنا، ويستند، في تحقيقه هذا، إلى عدد من القصص الدينية، والعسكرية، والعلمية، والثّقافيّة، وقصص التقنيات، والحساسيات، والأفكار، والأدب، ومجموعة من الوثائق المعروفة والأرشيفات النادرة، في محاولة للإجابة عن أسئلة، ظلَّت تؤِّرق الجميع لقرون، ولنفض الغبار عن تاريخ للتعب، ما زال يلفّه الكثير من الغموض.

يشير الباحث إلى أن الشعور بالتعب والإرهاق يختلف من عصر إلى آخر؛ ففي العصور الوسطى، عُدَّ تعب الحاجّ المنهك الذي يشقّ طريقه بين الجبال، للوصول إلى الدير أو الخلوة، عبادة، كما عُدَّ تعب المقاتل في المعارك تعباً نبيلاً، في حين قُوبل تعب المزارع في الحقول بنوع من الازدراء، وقد تطلَّب الأمر تطوُّراً بطيئاً لتتغيَّر هذه النظرة. أمّا في القرن التاسع عشر، ومع ولادة المجتمع الصناعي، فقد عُدَّ إرهاق العمال موضوع تقييم ومحاولة تبرير، غير أنه، في نهاية هذا القرن، وبداية القرن العشرين، بدأ التفكير في التغلُّب على هذا الإرهاق ومقاومة التعب والإجهاد من خلال أنشطة جديدة متمثِّلة في الرياضة والاسترخاء والاستجمام. وخلال الحرب العالمية الثانية، سيتمّ تحدّي التعب من خلال إنتاج الأمفيتامينات، للسماح للجنود بالقتال دون نوم، وستمجِّد بعض الأنظمة، عبر دعايتها، العامل الذي لا يكلّ ولا يتعب؛ كما هو الحال بالنسبة إلى العامل المنجمي السوفياتي «أليكسي ستاخانوف» الملقَّب بـ«سيزيف الأحمر» (1906 – 1977)، الذي يمثِّل الأنموذج الأسطوري لـ «رجل جديد» أكثر صلابةً من أيّ وقت مضى. أمّا في العقود الأخيرة، فقد أصبح التعب سمة بارزة لا تقتصر على المحارب أو العامل أو الموظَّف، بل تشمل كلّ فئات المجتمع كافّةً، إذ غدا المسؤول التنفيذي لشركة أو مقاولة يدخل غمار منافسة مجمومة أكثر إرهاقاً وتعباً.

كائنات متعبة!

يقول «فيجاريلو»: «عليك أن تتخيَّل «سيزيف»، وقد أنهكه التعب، وهو يتخلَّى عن دحرجة حجره؛ سنشعر، آنذاك، بأننا قريبون منه. لطالما حلمت البشرية بالأفعال الأكثر إسرافاً، والأكثر عظمةً، مهما كانت متعِبة». لقد أشار «أرسطو» إلى أن «كلّ الكائنات البشرية غير قادرة على أن تكون في نشاط مستمرّ»، فقد عرفنا، دائماً، أن المشي لساعات، دون راحة، وقضاء عدّة ليالٍ بلا نوم، وحتى القراءة والمراقبة، والاستغراق في التفكير، كلّها أمور ترهقنا، وهذا الإرهاق هو علامة على محدوديَّتنا، ومؤشِّر على شيخوختنا وموتنا، وجميع القيود المفروضة على قوَّتنا التي تفرضها مادِّيّة أجسادنا وعقولنا، فنحن كائنات متعبة. إنها ملاحظة أنثروبولوجية، لكنها ذات حمولة فلسفية،  أيضاً.

من التعب الجسدي إلى العبء النفسي:

يقول «فيجاريلو»: «لدينا شعور بأن التعب موجود دائماً. في الواقع، لقد مرَّ هذا الإحساس بالكثير من التغييرات؛ ففي الأزمنة السابقة، كان التعب جسديّاً: إنه تعب المسافر أو المقاتل أو رجل الدين، ثم -وبشكل غير محسوس- برز مظهر تكون فيه الذات محطّ استجواب، وذلك في سياق زيادة الوعي بأنفسنا، وهذا خلق شكلاً جديداً من التعب». لقد ازدادت أهمِّيّة الإرهاق النفسي، وتعدَّدت أسبابه، كاشفةً عن جوانب مختلفة من مجتمعنا: تغيَّرت ظروف العمل، وتحوَّل المجتمع الواحد إلى مجتمعات مركَّبة؛ الأمر الذي يفرض خلق علاقة مع الآخرين؛ ما يؤدّي إلى إرهاق نفسي بحت. يركز «فيجاريلو» على هذا النوع من الإرهاق الذي يصفه بـ«العبء النفسي»، الذي يؤثِّر، مثلاً، على النساء اللائي يقعن، دائماً، ضحايا التوزيع غير المتكافئ للأعمال المنزلية، وتعليم الأطفال، ومعاناة الولادة المتتالية.

لقد ركَّزت بعض الدراسات على ما يعانيه مقدِّمو الرعاية الصحِّيّة والاجتماعية، ذلك أنهم يتعرَّضون لعوامل إرهاق متعِّددة: عوامل جسدية، ونفسية، أيضاً. ومن بين الأسئلة التي وجَّهت الدراسة: «كيف يتمّ التفاعل مع حدث الموت الدائم؟ من وجهة النظر هذه، إن إجهادهم هو إجهاد مضاعف. إن هذه الرحلة الهائلة، من العصور الوسطى إلى يومنا هذا، لتخبرنا كيف أن العصر الحديث، بتقدَّمه التقني، أنتج -بشكل متناقض- رجلاً وامرأة متعبَيْن من تفاهة الأيّام، فمع التقدَّم ينمو «الشعور بالذات» والوعي الحيّ بالضعف البشري. يقول «فيجاريلو» في هذا الصدد: «لم يعد التعب الجسدي يغزو العقل إلى حَدٍّ يطارده، بل إن التعب النفسي يغزو الجسم إلى درجة تحطيمه».

لماذا نحن أكثر تعباً من فرسان العصور الوسطى؟

يجيب «جورج فيجاريلو» على هذا السؤال قائلاً: «لأن لدينا وعياً شديداً بالتعب. لم يُستنفد فارس العصور الوسطى بالطريقة نفسها التي استنفدت بها مدام دي مينتينون في بلاط لويس الرابع عشر، أو عامل الثورة الصناعية أو المدير التنفيذي المنهك اليوم. الأهمّ من ذلك، أنهم لا يتحدَّثون عنها بالطريقة نفسها». يلاحظ الباحث أنه، في الآونة الأخيرة، انتشرت العديد من الألفاظ والعبارات، بمعانيها الحقيقية، والمجازية التي تشير إلى الظهور البطيء للإرهاق الذي لا يؤثِّر في الجسد فحسب، بل يؤثِّر، أيضاً، في العقل، والروح، وفي نفسية الفرد، ومن أبرز معالم ذلك: «استنفاد للقوى» من خلال الإجهاد، وهو إجهاد عصبي يترتَّب عنه ظهور ما يُعرف بـ«الوهن العصبي».

تستحضر الفصول الأخيرة من الكتاب الجوانب الحديثة للتعب، وسبل إدراكه. يقول الباحث: «لقد أصبح التعب، والضعف المنتشر، وعدم الرضا المبهم، والقصور العنيد، إحدى طرائق الوجود في عصرنا»، يكفي لإلقاء مزيد من الضوء على النقاشات المعاصرة، للغاية، حول تعريف صعوبة العمل في إصلاح المعاشات التقاعدية، أو «العبء النفسي» الذي يثقل كاهل النساء، أو احتمال أن الذكاء الاصطناعي ينير العقول والأجساد. فمع اشتداد الأزمة الصحِّيّة التي شهدها العالم بفعل جائحة «كورونا»، يشعر الكثير منّا بالتعب الشديد؛ إرهاق مقدِّمي الرعاية، والتعب المستمرّ للمرضى، وحتى أولئك الذين تعافوا من هذا الفيروس… إنها فرصة لإلقاء نظرة على تاريخ هذا الشعور.

في نهاية المطاف، يشكِّل التعب ظاهرة لا يستطيع تفسيرها سوى تحليل متكامل يقارب الموضوع من زوايا عدّة، وهذا ما يلمسه القارئ في هذه البانوراما التاريخية لمفهوم التعب والاكتئاب والمعاناة الأخلاقية ومختلف الأمراض الجسدية الناتجة عن التعب. لقد ربط المؤلِّف بين تطوُّر هذه المفاهيم وتطوُّر المجتمعات البشرية، في رحلة مثيرة تتقاطع مع تاريخ الجسد والحساسيات والبنى الاجتماعية والعمل والحرب والرياضة، وصولاً إلى علاقاتنا الحميمة. هي نظرة مغايرة لشعور وسَمَ حاضرنا في ظلِّ التحوُّلات التي شهدها العالم في العقود الأخيرة، والتي تجعلنا نكتشف إلى أيِّ مدى تطوَّر إدراك التعب من النفي إلى الإقرار. لقد عزَّز «جورج فيجاريلو» هذا التحقيق المليء بالتحوُّلات والمفاجآت والممتدّ على مدى عشرة قرون، بعدد من الأفكار والنظريات التي سعت لقياس درجة التعب وإمكانية مكافحته وتجاوزه. ولا يخلو هذا الكتاب من تقديم بعض الاقتراحات والحلول لمشكلة، عُدَّت، منذ فترة طويلة، مستعصية؛ كتغيير نمط الحياة، وتقبُّلها بإيجابية، ومداومة الأنشطة الرياضية، والتغذية الصحِّيّة، والخلود للراحة، وتنظيم الوقت، وتحسين إيقاعات العمل، والتخطيط، والإجازة، والاسترخاء، وتوطيد العلاقات الإنسانية، واستثمار ما توفِّره لنا التكنولوجيا..

مواضيع مرتبطة

بعُيونٍ عَرَبيّة
بنيونس عميروش 10 نوفمبر 2022
أجاثا كريستي والعائلة.. الحقيقة الصامتة
حسن المودن 02 يناير 2022
«الفردوس» لعبدالرزاق قُرنح.. أوجاع الحيوات المتروكة
صبري حافظ 02 يناير 2022
دون كيخوطي.. من مجهول الكُتب إلى مجهول العَالَم
خالد بلقاسم 06 أكتوبر 2021
«النار ما تورِّث إلّا رماد»: هيمنة ثقافة المطابقة على المغايرة
ربيع ردمان 06 أكتوبر 2021
شادي عبْد السَّلام.. سينِما المُهَندِس المِعْماري
بنيونس عميروش 07 يوليو 2021
في نقد العباراتُ المسكوكة.. تصلّبُ اللّغة إفقارٌ للحياة
خالد بلقاسم 07 يوليو 2021
التشخيص والتجريد في تجربة الراحل رفيق الكامل
إبراهيم الحَيْسن 26 مايو 2021
عز الدين المناصرة.. الشعر في استجلاء التاريخ البعيد
خالد بلقاسم 26 مايو 2021
جماليّة الخيبات في رواية «حبس قارة»
رشيد بنحدو 26 أبريل 2021

مقالات أخرى للكاتب

داني لافرير.. «المنفى يستحق السفر» 
03 يوليو 2020

شكل النفي، في معظم الأحيان، حدثاً قاسياً ومحنة شديدة الوطء على حياة المبدع، حيث يغدو المكان فضاءً لا يطاق، وجحيماً لا يُحتمل، وتظل فكرة العودة هاجساً مؤرقاً، بَيْد أن هناك العديد من التجارب التي تكشف لنا أثر هذا الحدث في بزوغ أعمال إبداعية نالت إعجاباً...

اقرا المزيد