تدريبٌ من الماضي

عدنية شبلي  |  13 مايو 2020  |  

هنالك بيتنا على أطراف البلدة، أول بيوتها، يقف وحيداً بعيداً عن بقية البيوت. وأن يكون بيتك أبعد البيوت يحكم مسبقاً بأنك ستكون أبعد ما يمكن عن قاطنيها، وأقلّ ارتباطاً ومعرفة بما يحدث داخلها، ما سيجعل إمكانية العيش في نطاق البيوت وبينها أقرب إلى الاستحالة، مقارنةً مع إمكانية العيش في البرية التي تحيط بك من كلِّ صوب، في رحاب التلال وحول الوادي الهزيل. كنت أتجه إلى البلدة فقط للذهاب إلى المدرسة، حيث أستمر في الجلوس فوق المقعد ذاته طيلة النهار، يومياً بانتظار الاستراحات بين الحصص، ثم وأخيراً نهاية اليوم الدراسي، لأتجه عائدةً فوق طريق ستتلاشى البيوت منه تدريجيّاً وحياة البلدة التي يسودها النظام والإرغام، إلى أن أصل بيتي على جهة اليسار، وعلى اليمين البرية وكلّ ما تحوي من عزلةٍ وحرّيّة. بالتحديد أسفل التلة، حيث يجري الوادي، على ضفته الأخرى، هنالك قطعة أرض صغيرة، تقع في شكل أشبه بالمثلث وتضمّ أكثر اللحظات حميمية وسعادة التي عرفتها في طفولتي، قبل أن تختفي فجأةً وبالكامل.

في ذلك المثلث الصغير، شهدت أوّل تعبير للحبّ بين والديّ. والداي يقلبان أرضه معاً، ليزرعا بعض الخضار التي سيتمكنان من ريها من مياه الوادي، وأنا قريباً منهما أقفز مع الضفادع التي انتشرت على طول ضفاف الوادي. ثم بعد فترة وجيزة سيتمُّ طرد والديّ من هذا المثلث الصغير. الطرد يبدو أقلّ وضوحاً، ولا أعرف إنْ كنت قد شهدته فعلاً، أو إنني سمعت به فحسب، أو إنني كنت قد تخيّلته ولم يحدث بالمرّة. دوريات حماية الطبيعة ستظهر فجأة وتقلع ما زرع والداي من خضار، ثم ستدفعهما خارج المثلث بالقوة. سيقاوم والداي، وسيقولان بأن هذه أرضنا أباً عن جد، لكن أفراد الدورية سيستمرون بدفعهما، ولن يعودا إلى ذلك المثلث الصغير للعناية به، ولا سننعم بالحميمية والسكينة التي أغدقها على ثلاثتنا آنذاك، لأسبابٍ ربَّما لها كلّ العلاقة بذلك الطرد، أو ربَّما لا علاقة لها به. 

أنا بدوري لن أوافق، ولن أنصاع إلى الأوامر. سأعود يوميّاً إلى ذلك المثلث الصغير، محاولةً جني ثمار خضار اقتُلِعت منذ فترةٍ طويلة، وأخرى وهميّة سأزرعها بقدرة خيالي. كما وسأخدم أعشاب برية عديدة وأتأمَّلها، ثم سأرتب حجارة كثيرة، كلّ يوم من جديد، في خطوط وأشكال هندسيّة مختلفة، تقسم أرض المثلث إلى غرف في بيتي في البرية، حيث سأجلس داخله وحيدة، وأنظر إلى بيت والديّ والبيوت الأخرى حتى المدرسة، تقف جميعها في خطٍ طويل على خاصرة الجبل المنتصب قريباً جدّاً مني، يماثل خطوط بيتي المُكوَّنة من الحجارة. 

من هناك، من داخل مثلث العُزلة الصغير ذاك، ستنمو علاقتي ببقية الأماكن التي سأسكنها، والناس الذين سأحيا بينهم وقلما معهم، على أسسٍ يحكمها الخيال، وإن حدث وتسرَّب إليها ما هو واقعي، سأعمل جاهدةً على تحريفه ولو قليلاً، فلا يمكن لأحد طردك ممّا هو خيالي وليس خاضعاً لشروط الواقع.

مواضيع مرتبطة

استاد خليفة الدوليّ.. عراقة، حداثة واستدامة
شربل بكاسيني 07 أكتوبر 2022
استاد المدينة التعليمية.. حيث تلتقي كرة القدم بالعلم والمعرفة
وائل السمهوري 07 أكتوبر 2022
استاد الثمامة.. يغطّي ضيوف «كأس العَالَم» بطاقيّة عربيّة
إبراهيم السواعير 07 أكتوبر 2022
استاد الجنوب.. بوابة بين الماضي والمُستقبل
فراس السيد 07 أكتوبر 2022
استاد أحمد بن علي.. بوابة الصحراء
محمد أدهم السيد 07 أكتوبر 2022
استاد لوسيل.. سحر الكرة أم سحر المكان؟
محمد أدهم السيد 07 أكتوبر 2022
استاد البيت.. خيمة ليست كباقي الخيام
ليال المحمد 07 أكتوبر 2022
«والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي».. اِرتيابُ الحكاية في حدَثها ونِسبَتها
خالد بلقاسم 02 يناير 2022
عبد الفتاح كيليطو في «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي»: أحداث الرواية تنتهي في أغلب الأحيان بالفشل، باضمحلال الأماني وتبخُّر الأوهام
حوار: خالد بلقاسم 15 ديسمبر 2021
عبد الرّحمن بدوي.. وجه الرّوائي
محمّد صلاح بوشتلّة 06 أكتوبر 2021