تصاريف الزمن الماكرة وفلسفة المصادفة

| 13 مايو 2020 |
منذ أن ألمّت جائحة (كرونا) الراهنة بالعالم، وبدأ تأثيرها يمتد إلى حياة الأفراد المحيطين بي، و إلى حياتي اليومية، شخصيًّا، بصورة غيَّرت إيقاعها ومساراتها تغييرًا جذريَّا، وأنا أفكر في تصاريف الزمن الماكرة، وقدرته على فرض منطقه وتغيراته علينا، حتى لو بصورة مؤقتة، وكيف تلتقي هذه التصاريف، أحيانًا، مع رغبات الأشخاص وتتعارض معها في أحيان أخرى. ولأنني لا أريد أن أنضم إلى جوقة المنظرين من رؤوسهم – فقد دفعت الجائحة كل من هبَّ ودبَّ للإدلاء بدلوه فيها. واتخذ البعض سمت علماء الفيروسات، دون أدنى معرفة بطبيعتها أو خصائصها؛ أو خبراء الطب الوقائي منه أو العلاجي؛ أو حتى علماء المستقبليات والتنبؤ بما سينتاب العالم من تغيرات بنيوية، لا وفق الإحصائيات والمعطيات العلمية الدقيقة؛ إنما بما هو أقرب إلى النظر في بلورات المستقبل الخرافية.. أقول: لأنني لا أريد الانضمام إلى تلك الجوقة المتنامية، فقد آثرت الاهتمام بموقع ما يدور في الزمن، وبتأمل قوانين المصادفات الماكرة وعلاقتها بما نحن فيه. ما دلالة حدوث هذه الجائحة في هذه اللحظة من تاريخ البشرية؟ أهي مجرد مصادفة أن تتكشف عمّا أسفرت عنه من عالم مختل؟ خاصة وأنني أنهيت ذكرياتي الشخصية عن طه حسين، في العدد الماضي، بالحديث عن بعض فعل تلك المصادفات الماكرة في حياتي الشخصية.
فما إن حان الموعد السنوي التالي، في خريف عام 1973، لانعقاد الجلسة السنوية في بيت طه حسين (رامتان)، وعملت سكرتيرًا لها لثلاث سنوات، حتى كنت في بريطانيا، وطلبت مني جامعة أكسفورد – التي كان لها الفضل في سفري إليها – الحديث عن طه حسين عقب وفاته في 28 أكتوبر، 1973. وقد أنهيت حديث ذكرياتي عن طه حسين بآخر كلماته لي: «وفقك الله، يا بُني!» قائلًا: «ويبدو أن الله استجاب لدعوته لي، رغم استحالة السفر إلى أوروبا لأمثالي في ذلك الوقت»، وهو أمر فيه شيء من الاستخفاف بفعل المصادفة التي دفعني تأمل دلالاتها، مع جائحة «كورونا» الراهنة، إلى العودة لكتاب محمود أمين العالم المهم عن (فلسفة المصادفة). فما أرجعته إلى المصادفة السعيدة، أو إلى استجابة الله لدعوة طه حسين لي، يدفعني، بعد قراءة بحث العالم المهم عن (فلسفة المصادفة)، إلى إعادة النظر فيما أنهيت به ذكرياتي عن طه حسين، قبل التفكير في دلالات وقوع جائحة «كرونا» على عالمنا في تلك اللحظة الراهنة، لأن التجربة الشخصية قد تكون أفضل مدخل لتناول أي قضية عامة.
تكشف لي قراءة بحث محمود أمين العالم عن (فلسفة المصادفة)، عن أمرين بالغَي الدلالة: أولهما: كيف كان مستوى البحث الجامعي في الإنسانيات في مصر في بداية خمسينيات القرن الماضي. لأن الكتاب – كما يخبرنا – هو رسالته التي تقدم بها للحصول على درجة الماجستير من قسم الفلسفة بجامعة القاهرة، عام 1954، وقد كان مدرسًا بها قبل أن يفصله نظام العسكر من وظيفته الجامعية فيها؛ لأن أي مراجعة لقائمة الكتب والمقالات التي استخدمها البحث، والتي تجاوز عدد المراجع الإنجليزية والمراجع الفرنسية فيها مئة مرجع، وهي مراجع تكشف قراءة الرسالة، بعناية، عن أن الباحث قد قرأها باستيعاب وتمحيص، واشتبك مع ما ورد فيها بالحوار العلمي قبولًا أو رفضًا، وردَّ ما ورد فيها لأصوله، في كثير من الأحيان. وهو أمر لا يكشف عن مقدرة الباحث، فحسب، ولكنه ينبئنا عن أن مستوى الجامعة المصرية العلمي، وقتها، يضاهي ما لمسته في أكبر جامعات العالم بعد أن أمضيت عمرًا في التدريس فيها. كما أن أي متابع مُخلِص لما يدور في الجامعات المصرية، اليوم، لا يمكنه أن يحلم بأن يجد ربع عدد هذه المراجع في رسالة للدكتوراه؛ لأن جلّ الحاصلين على درجة الدكتوراه من الجامعات المصرية لا يقرأون بأي لغة أجنبية، وكثيرين منهم لا يحسنون كتابة لغتهم العربية، ناهيك عن القراءة بطلاقة، بلغتَين، كما هو الحال في رسالة محمود العالم تلك.
والواقع أن قراءة الكتاب نفسه تكشف لنا عن جهد علمي وبحثي من طراز رفيع، يتتبع فيه الباحث موضوعه في تاريخ الفكر والفلسفة، بشمول ودقة، ثم في تاريخ الرياضيات والعلوم الطبيعية، بدأب معرفي لا مماراة فيه. وهو الأمر الذي يعدّ شهادة له، وهو ليس في حاجة لأي شهادة، وشهادة للجامعة التي درس فيها في الوقت نفسه – وهي أشدُّ ما تكون حاجةً لهذه الشهادة كي تدفع عن نفسها، ولو بماضيها، عار التردي البحثي والانهيار الأخلاقي معًا. فهذا الكتاب خير دليل على كيف كان الحال بجامعة القاهرة، حينما وفد العسكر لحكم مصر، لمن يعرف ما هو حالها – الآن – على جميع المستويات العلمية، والبحثية. ولو كان الأمر لا يزال بيد طه حسين وأمثال طه حسين، في الجامعة المصرية، لبعثوا بمحمود أمين العالم إلى أوروبا، يتعمق في دراسة الفلسفة فيها، ثم يعود لينهض بدوره في رفع مستوى الجامعة المصرية أدائيًّا وبحثيًّا، بدلًا من طرده من الجامعة، ثم الزجّ به في المعتقلات السياسية، لسنوات.
أما الأمر الثاني فهو أن هذا الكتاب المهم يصحب قارئه في رحلة معرفية من الحيرة، إلى مشارف اليقين الفكري والعلمي بالجدل الهيجيلي، عاشها الكاتب نفسه للخروج من التخبط بين الظلال الميتافيزيقية في قلب الفكر الفلسفي والعلوم الفيزيائية، إلى آفاق الوضوح العلمي بتعقيدات الرياضيات والفيزياء الحديثة. فقد كان يتحرك، في بداية بحثه، بإرادة نيتشه، ويتلمس طريقه بحدس بيرجسون، وطفرته الحيّة، ويرافقه لحن إليوت الجنائزي المفضل. وكانت تناوشه، طوال رحلته تلك، ظلال ميتافيزيقية في قلب الفيزياء الحديثة. ولكن مسيرة البحث المضني عن المعرفة، والمضي قدمًا في شعاب الاستقراء الفلسفي، قادته إلى بَلْورة المدلول الموضوعي للمصادفة، لأنها «تتعلق، من ناحية، بالمنهج الاحتمالي للعلم نفسه، ثم تتعلق، من ناحية أخرى، بظواهره وقوانينه مثل مبدأ عدم التحديد، وموجة الاحتمال، والمظهر التكميلي في الفيزياء»، ويقصد – هنا – المنهج الجدلي. (ص 15)
ولو أعدت تأمل ما دعوته بالمصادفة على وقع أحد التعريفات المتعددة لها، والتي ترد في صلب هذا البحث، وهي أنها «التقاء غير متوقع بين سلسلتين مستقلتين من الظواهر يولد حادثًا قد يبدو وكأنه مصادفة عشوائية»، لتكشف لي أن ما طرحه عليَّ طه حسين من أنهم كانوا يحرصون على إرسال النابهين من الخريجين في بعثات إلى أوروبا، هي تلك السلسلة التي تحققت، بسفري العجيب إلى أوروبا، وهي التي رسخت – أيضًا – نمطًا من التوقعات السليمة، بأن من يحرص على المعرفة، ويتفوق في تحصيلها ينفتح أمامه سبيل الحصول عليها حتى أعلى الدرجات، بصرف النظر عن إمكاناته المادية، وهو المنطق الصحي السليم الذي ترتقي به الأمم. برغم أن الواقع نفسه، بعد بداية حكم العسكر في مصر، عام 1952، وانفرادهم بالسلطة المطلقة فيها بعد أحداث 1954 التي عصفت بأي أمل في العودة إلى التبادل الديموقراطي الهش للسلطة، الذي أنجزه جيل طه حسين فيها، قد رسَّخ لسلسلة أخرى كانت هي التي سادت وقت حديثي الأخير معه.
وكانت سيادة تلك السلسلة في الواقع الذي سيطر فيه خلل المعايير، هي التي دفعتني للقول بأن من المستحيل على أمثالي السفر إلى أوروبا. فقد كان شعار تلك السلسلة المضادة، والذي صك مبرراتها النظرية محمد حسنين هيكل في كتابه الإشكالي الشهير، “أزمة المثقفين”(1)، هو الاعتماد على أهل الثقة بدلًا من أهل الخبرة؛ الأمر الذي نجم عنه العصف الممنهج بأهل الخبرة، وتهميشهم أو الحطّ من قيمتهم، وحتى التنكيل بهم. وقد تطورت آليات تلك السلسلة المضادة، وهي تكرس نفسها كقاعدة فاسدة بعدما كانت استثناءً؛ مما أدى، على مد أكثر من نصف قرن، إلى ما نحن فيه من تدهور وهوان.
فبعد مرحلة الاعتماد على العسكر في الكثير من المهام والمناصب غير المؤهلين لها، وخاصة في العقد الأول من حكمه، كي يتم للنظام الجديد التحكم الكامل في الواقع؛ أخذ النظام الاستبدادي في تخليق أجيال متتالية من أهل الثقة، تتخذ التفاني في الولاء سبيلًا للصعود حينما تعوزها الموهبة أو المعرفة. وكان من أيسر سبل اكتساب ثقة السلطة في كثير من المواقع، وخاصة في مؤسسات توليد الفكر والرأي العقلي المستقل، أي الجامعات، هي أن يصبح «المثقف» بين قوسين، عينًا للأمن على من ينتقدون النظام، وخصوصًا على من يعتصمون بالقيم الأخلاقية، ويحرصون بالمعرفة والموهبة على استقلال الرأي، والاعتصام بنزاهة القصد، ونقد قصور أهل الثقة في القيام بما ليسوا أهلًا له.
وحينما أعاود النظر الآن، في حديث الذكريات هذا، في تلك المصادفة التي نتج عنها سفري إلى أوروبا، أجد أنها بنت تلك السلسلة العقلانية النزيهة التي كرسها طه حسين وجيله في الواقع المصري؛ والتي كان السفر فيها إلى أوروبا لتحصيل العلم نتيجة منطقية للتفوق المعرفي. بل إن قيم تلك السلسلة، نفسها، هي التي دفعت شابًا مثلي إلى الحلم بالسفر إلى أوروبا، وتتبع خطى أعلام ثقافتنا فيها. مع أن حكم العسكر الجديد كان قد استأصل تلك السلسلة، كلية، من الواقع، وجعل السفر لمواصلة الدراسة في الخارج – وكانت وقتها قاصرة على منح من بلدان الكتلة الاشتراكية – مقتصرًا على أهل الثقة، وعيون النظام الأمني.
وما يربط هذه «المصادفة» بتلك السلسلة النزيهة، هي أن الفاعل الأساسي فيها، وهو الدكتور محمد مصطفى بدوي، كان، بحق، من تلاميذ مشروع طه حسين الفذ في جامعة الإسكندرية، ومن خريجي دفعتها الأولى التي بعث طه حسين بأوائلها، في جميع التخصصات، إلى أوروبا لمواصلة دراستهم فيها.(2) وكان قد ترك مصر عام 1962، وهو العام الذي أكملت فيه دراستي العليا، وبدأت النشر في المنابر العربية والمنابر المصرية، واستقر في بريطانيا، وعمل على تأسيس دراسة الأدب الحديث في جامعة أكسفورد. وقد قادته متابعته لموضوعه إلى قراءة بعض ما نشرته في لبنان ومصر، والاستشهاد به في بعض أبحاثه المنشورة بالإنجليزية، وإلى الاهتمام، بشكل خاص، بأول بيبليوجرافيا شاملة للرواية المصرية، كنت قد نشرتها في مجلة (الكتاب العربي) عام 1969، وكنت أنا – أيضًا – قد سمعت عنه، وقرأت، بل درست ترجمته المهمة لكتاب (مبادئ النقد الأدبي) الشهير لريتشاردز، والذي أصبح ركنًا أساسيًا في صرح مدرسة النقد الجديد الأمريكية.
وكان قد أرسل أوائل عام 1972 تلميذًا له، يعدّ رسالة للدكتوراه عن الرواية المصرية في جامعة أوكسفورد، إلى مصر، وطلب منه أن يبحث عني، ويشرح لي موضوعه كي أحدد له الروايات التي يجب عليه دراستها في هذا الموضوع، وأن يحصل على كل هذه الروايات من القاهرة، ويعود بها ليكمل دراسته، وقد أرسل تلميذه ذاك إلى زميله وصديقه القديم في جامعة الإسكندرية، إدوار الخراط، كي يساعده في الوصول إليّ. وما إن وصل هذا التلميذ إلى القاهرة حتى أرسله إدوار الخراط لي، فأرشدته إلى كل الروايات التي عليه قراءتها لدراسته تلك، كما صحبته إلى أماكن بيع الكتب القديمة في القاهرة، وقتها، للحصول على كل تلك الروايات، وانتهت علاقتي به بعد حصوله على ما أراد.
وتشاء الصدف – وقد أخبرنا محمود العالم أن لها منطقها الموضوعي- أن أمرَّ بعدها، ذات مساء، بإدوار الخراط في بيته، فيخبرني بأنه يكتب رسالة إلى صديقه محمد مصطفى بدوي، سيأخذها له هذا الطالب الذي ساعدته، والذي سيعود إلى بريطانيا بعد يومين، ويسألني: هل تريد منه شيئًا؟ فقلت له: إنني لا أعرفه إلا قراءةً، فكيف أريد منه شيئًا!؟ كل ما أريده من بريطانيا هو أن أسافر أنا إليها، فقال إدوار: إذن، سأخبره بذلك.
وكانت تلك السطور القليلة التي كتبها إدوار الخراط في رسالته تلك لصديقه، هي التي قادتني إلى بريطانيا في غضون عام واحد من كتابتها.
وما جعل لهذه الواقعة دلالة موضوعية أعمق، تؤكد خلاصات (فلسفة المصادفة)، هو أنها جاءت كَردّ على غبن فادح ألمّ بي، وقتها؛ فقد كنت قد أكملت دبلوم الدراسات العليا الجديد في النقد والأدب المسرحي بأكاديمية الفنون «المعهد العالي للفنون المسرحية»، وجاء ترتيبي الأول على الدفعة الأولى لهذا النظام الجديد. وأعلنوا عن بعثة، أو – بالأحرى – منحة لدراسة الأدب المسرحي في الاتحاد السوفييتي وقتها، فتقدمت لها، وتقدم لها معي الأول على أحدث دفعة للبكالوريوس من المعهد نفسه، ولكني لم أفز بتلك المنحة، ولا فاز بها الأول على دفعة البكالوريوس، أيضًا، إنّما أُرسل فيها من كان ترتيبه الثاني على دفعة البكالوريوس، ولم يكن قد أكمل، بعد، دبلوم الدراسات العليا في نظام الدراسات العليا الجديد بالأكاديمية؛ لأنه كان من أهل الثقة، بالمعنى الذي توطد لأهل الثقة الجدد.
هوامش:
1 – لأن مؤلفه حرص على أن يمنع إعادة طبعه، رغم حرصه على إعادة طبع كل مؤلفاته بانتظام شديد. لأن نشر هذا الكتاب عام 1961، أولًا على شكل مقالات في (الأهرام) وقبل أن يظهر ككتاب، أثار الكثير من الجدل والنقاش؛. ليس فقط لأنه كتب موقف الدولة الناصرية من المثقفين ورغبتها في احتوائهم، وعدم ثقتها فيمن لا ينضوون تحت سلطتها منهم بطريقة فجّة إلى حد ما، ولكن أيضًا لأن الشريحة الكبيرة من المثقفين الذين تناولهم الكتاب، أي مثقفي اليسار خاصة، كانوا في المعتقلات الناصرية وقتها. وكانت ثمة رغبة من النظام في أن يتخلوا عن أجنداتهم الثقافية أو السياسية المستقلة وأن ينخرطوا كُلّيّةً في مشروع النظام. ولأن الكتاب وثيقة دامغة، تكشف عن عداء النظام العسكري، حتى في أفضل مراحله وطنية، وهي مرحلة عبدالناصر، للحرية وللمثقفين بشكل عام، فقد أصرّ محمد حسنين هيكل، فيما بعد، على ألا يعيد طبعه.
2 – كتبتُ في غير هذا المكان من قبل عن دور طه حسين اللامع في تأسيس جامعة الإسكندرية، وإدارته لها في سنواتها الأولى، وكان من بين أوائل دفعتها الأولى التي تخرجت، وطه حسين مديرًا لها، ومصطفى صفوان وسامي علي في علم النفس، وأصبح لكل منهم باع طويل فيه في فرنسا، وعبد الحميد صبرة في تاريخ العلوم عند العرب، والذي أصبح أستاذًا لهذا الموضوع في جامعة هارفارد، ومصطفى بدوي، نفسه، الذي أصبح أستاذًا للأدب الإنجليزي بجامعة الإسكندرية، ثمّ الأدب العربي الحديث في جامعة أوكسفورد.