تغريبةُ الإنسان المحتار

| 06 نوفمبر 2020 |
ليس من شكٍّ في أنّ ثلاثةَ أرباع حياتنا انتظار. أمّا الربع الباقي فلعلّه مُوزّعٌ بين الاستسلامِ للانتظار والاستعدادِ لهُ والضِّيقِ بهِ ومساءلةِ الإنسان نفسَهُ في المرآة:
ماذا تنتظر؟: نتيجةً؟ مفاجَأةً؟ نجاحاً؟ خيبةً؟ معجزةً؟ محنةً؟ خلاصاً؟، ومن تنتظر؟: ليلاك؟ قيسَك؟ بطلَكَ الضرورة؟ قائدَكَ المُلهَم؟ فردوسَكَ المفقود أو المنشود، أم كُلَّ ذلك وأكثر، بلا يقينٍ يُذكَر؛ لأنّ الانتظار موعدٌ مع ما قد يجيء وقد لا يجيء، مع ما قد يَفِي وقد يخون، سطوعٌ بين شهيق الرجاء وزفير اليأس، شبيهٌ بسطوع البرق بين شهيق العاصفة وزفيرها؟
وكيف تنتظر؟ تنتظر وحيداً، أم تنتظر كثيراً؟ مُختاراً أم مُرغَماً؟ لا مُبالياً أم متعجّلاً؟ ثبْتَ الجنان أم متلفّتاً مذعوراً؟ متصالحاً مع إيقاع الزمن أم في خصومةٍ معه؟ محروساً أم شبيهاً بعوليس في كفّ الإعصار، مُحاطاً بسيرينات اللهفة والرغبة؟ على قلقٍ، كأنّ الريح تحتكَ، أم مطمئنّاً كأنّك ترى المستقبل؟ مُؤجّلاً للفعل أم فاعلاً منفعلاً، كالصيّاد الذي لا يعرف بماذا تعود إليه شباكه؟
وأين تنتظر؟ في كلّ لحظة. في كلّ مكان. في كلّ هاجس. «لو أتيح لنا أن نبني للسعادة بيتاً لكانت أكبر غُرَفِه قاعة الانتظار». هكذا، كتب «جول رونار». لم ينتبه إلى أنّ الانتظار ترحالٌ، تحديداً، وليس محضَ إقامة. الانتظارُ يعني أن تسافر بعيداً، في كلّ اتّجاه، مستقلًّا خيالك، وقد يستنفد ذلك السفر الافتراضي قُواك، فإذا بك لا تملك القدرة على عملِ شيءٍ آخرَ بَعْدَه.
لو كان الزمنُ «عُمْلةً» لكانَ الانتظارُ طريقةً من طُرُقِ تصريفه في المكان، وجهاً من وجوه إنفاقه مقابل جرعةٍ من الوهم أو الأمل، شكلاً من أشكال إهداره عجزاً عن استثماره. في الحالة الأولى، أنتَ تحاول أن «تُلْغِيَ» به المسافة. في الحالة الثانية، أنت تعتقد أنّكَ «تشتري» به ما تريد أو ما تتوقّع. في الحالة الثالثة أنت «تقتله» لأنّك تراهُ شهوةً بلا أُفُق، وأُفُقاً لا يُطال.
هل نقترب، هنا، من الانتظار في «طبْعَتِه العربيّة»، نحن الذين كدنا نحترفه ونبدع فيه.. نحن الذين كدنا نخصّه بثلاثة أرباع الزمن الفاصل بين ابن خلدون، آخرِ عقلٍ كونيٍّ اقترحناه على العالم، ومعظم علامات تاريخنا الحديث؟ أيّ نوع من الانتظار هو انتظارنا؟ وفي أيّ النماذج «الانتظاريّة» الواقعيّة أو المُتَخيّلة نعثر لانتظارنا على شبيه؟
ثمّة الانتظار البنّاء، الذي يتيح لك أن تعمّق معارفك وتشحذ مواهبك. تعرف أنّكَ مخلوقٌ فانٍ أو أنّكَ لا تستطيع أن تلغي قانون الجاذبيّة. تعرف أنّك ذائق الموت أو عائدٌ إلى الأرض بعد كلّ قفزة، إلاّ أنّك لا تكتفي بانتظار الموت، ولا تكتفي بانتظار السقوط بعد القفز، بل تغتنم تلك الفسحة الزمنيّة لتقاوم الموت بالحياة، فتبدع ما يجوز معه قولُ درويش: «هَزمَتْكَ، يا موتُ، الفنون جميعُها»، أو تحلم ببساط الريح، ثمّ تترجم ذلك الحلم إلى معرفةٍ وإبداعٍ قادِرَيْنِ على ترويض الجاذبيّة بالمركبات الفضائيّة.
وثمّة الانتظار الهدّام الذي ينتجه فكرُ الهزيمة، ولا يُنتِجُ، بدوره، إلاّ فكرَ الهزيمة؛ انتظارٌ لا ينفكُّ يؤجّل عمَلَ اليوم إلى الغد، ثمّ إلى ما بعدَ الغد، انتظارٌ مُفْرَغ من كلّ معنًى، مُعادٍ لكلّ رغبة في التغيير ولكلّ اعتقادٍ في إمكانيّة التغيير، انتظارٌ يُؤلّفه فقرُ الجيب والروح، وتُراجِعُهُ النقمة، ويطبَعُه الجهل والضجر والعدميّة، ويوزّعه الاحتقان واليأس والقنوط والإحساس بالقهر، يغلب عليك فإذا أنتَ جسد بلا روح، أو «عبوّة ناسفة» سرعان ما تنفجر بعنفٍ أعمى لتدمّر صاحبَها والعالَمَ.
وثمّة الانتظار الفعّال: مزيج من «الانتظارين» السابِقَيْنِ، أنت فيه سهمٌ يطلقه الماضي في اتّجاه المستقبل. لا يكفيكَ أن تَرغبَ في عدم السقوط قبل أن تُصيب المرمى، بل عليك، في انتظار بلوغ الهدف، أن تُؤثّث الانتظارَ بالعمل، وأن تُنصت- بمقدارٍ- إلى الجانب الهدّام فيه، بما يكفي كي تُسيطر على وساوسه، وكي لا تستسلم لها، وكي تُحوّلها إلى طاقةٍ محفّزة على الاستمرار.
الانتظارُ الفَعّال يعني تخصيص الوقت الضروريّ لبلوغ الغاية وتحقيق الرغبة أو لتكوين الذات وتمكينها من شروط الكفاءة والجدارة والاستحقاق؛ وهذا يعني الصبر على «المسافة» صبراً فاعلاً لا منفعلاً، صبراً لا يكتفي بتدخين عشبةٍ سحريّة والظهر مستند إلى جدار. لا يكتفي بالبحث عن مهرب وهميّ على متن أحد زوارق الموت. لا يكتفي بتدميرٍ عشوائيّ لمكتسبات خاصّة أو عموميّة. لا يكتفي بالنظر من ثقْب الباب إلى نهايةِ حَرْبٍ أو انزياح جائحة، بل يعمل ما عليه، يساهم بما يستطيع، ويواجه الآفاق المسدودة، ويظلّ يناطحها حتى تنفتح أمامه. الصبر هو الاسم الحركيّ لهذا الانتظار.
إنّ من شأن التنكّر لقيمة الانتظار (بهذا المعنى) أن يمهّد لترسيخ ذهنيّتين: ذهنيّة التسوّل أو التواكل، وذهنيّة الاستسلام أو الهزيمة. وهما وجهان لعملةٍ واحدةٍ، لا يمكن تصريفها إلاّ في بَنْكِ الانتظار الفاسد. ومن مفسدات الانتظار التعويل على «الأسرة» أو «الدولة» والتعويل على «الحَرْقة» أو «الهجرة» وصولاً إلى التعويل على «الصُّدْفَة» أو الغِشّ و«تدبير الرأس».
وضعٌ لا يُنتِجُ إلاّ مجتمعاتٍ «عالةً» وشعوباً «قاصرة» وأفراداً عاجزين عن «الفطام»، قد يبلغون سنّ الشباب والكهولة وحتى الشيخوخة، لكنّهم يظلّون رُضَّعاً مُزمنين، يستنفدون «وقتهم» في انتظار «الحلول السحريّة»، أو في إنتاج «الردود الانفعاليّة»، أو في ممارسة التحيّل والمُضاربات اللا أخلاقيّة، بحثاً عن خلاصٍ فرديّ أو جماعيٍّ موهوم؛ من ثمَّ يسهلُ «استغفالهم» وتنشئتهم على إدمان الفساد والتأبّد في مربّعه، عن طريق الوصفات المسمومة التي يتقن الترويج لها أحفادُ «بُوجَادْ».
أين نعثر على شقيقِ انتظارنا أو «قرينِه»، في مجاهيل هذا البحر المتلاطم من «الانتظارات»؟
لدى «بيكيت» في «في انتظار غودو» الذي لن يجيء؟ لدى «بوتزاتي» في «صحراء التتار» حيث انتظارُ المستقبل ستارٌ يحجب الحاضر؟ لدى غيلان المسعدي الذي عاش حياتَه بين قوسين من الانتظار: انتظار بناء «السدّ» وانتظار انهياره؟ لدى نجيب محفوظ في «الحرافيش» حيث نقرأ: «الانتظار محنة… في الانتظار يموت الزمن وهو يعي موتَه»؟ في رواية كمال الزغباني، حيث نرى اليوميَّ يتجرّد من أقنعته وزيفه، فإذا الناس يعيشون ضُروباً من الموت المؤجّل «في انتظار الحياة»؟ في سُباتِ المجموعة التي هربت من الاضطهاد في قصّة «أهل الكهف» كأنّها نامت (أو أنِيمَت) في انتظار أن يتغيّر العالم؟ هل كان سُباتُ أهل الكهف انتظاراً أم إنظاراً؟ وهَبْ أنّه كان انتظاراً، هل ظلّت أمامنا مبرّرات معقولة بعد كلّ هذه القرون من المراوحة في المكان والزمان، كي نرضَى بالانتظار «مهرَّباً»؟
في وسعنا، من ناحيةٍ أخرى، أن ننظر إلى «الموقف من الانتظار» بوصفه علامةً محوريّة، فاصلة، تشير إلى انتقالنا، نظريّاً وعمَليّاً، من زمنٍ إلى آخر: من زمن البطء إلى زمن السرعة. من زمن التأمُّل إلى زمن التعجُّل. من زمن العمق إلى زمن السطح. من زمن التحصيل إلى زمن الخَطْف. من زمن الحرص على مواكبة «الخطوة الموسيقيّة» إلى زمن «الجري أسرع من الموسيقى»، حتى لو آل ذلك إلى نَشاز.

نحن، في هذا الزمن الجديد، محكومون بشروط الواقع الافتراضي وإيقاعه السيبراني. أوْهَمَتْنَا سماتُ هذا التحوّل بامِّحاء الفوارق بين الفضاء الواقعيّ ومخلوقاته، والفضاء الرقميّ وكائناته، حتى كاد يُخَيّلُ إلينا ألاَّ أحد يتحرّك، اليوم، إلاّ وفق «خوارزميّات»، وبات من الجائز الزعم، مع حفظ المقامات واحترام الاستثناءات، أنّنا انتقلنا من ثقافة الحفر في المعرفة والخبرة، إلى ثقافة النقر السطحيّ على العناوين أو الشذرات.
تأسّس «الزمن الأوّل» على منظومة قيميّة قريبةٍ من دعوةِ «سبينوزا» إلى أن «نحبّ الضرورة». منظومة محورُها «الإنتاج»، والإنتاج محكومٌ بمسافةٍ ضروريّة من الانتظار، ريثما يحصل ما لابدّ منه: هطول المطر بعد غياب. هدوء البحر بعد غضب. وفرة الحصاد بعد البذر. ثمرة التعلّم والعمل. تجلّي أمارات النضج واكتساب الخبرة. تأكيد ضمان الكفاءة والاستحقاق…
ثمّ انخرط «الزمن الثاني» في عقيدة «الاستهلاك السريع»، فلم يعد الانتظار قيمة، بل صار «حَجَرَ عثْرة» وعلامةً دالّة على «القدامة» وعلى (has been). شيئاً فشيئاً، تمّ تدمير قِيَم العمل، والتعلّم، والكفاءة، وحلّت محلّها «ذهنيّةُ الغنيمة» وشعاراتُ «الوثوب» و«الركوب» و«اغتنام الفرصة» و«الإغارة» و«حرْق المراحل» و«تَعلُّم الحِجامة في رؤوس اليتامى»!!.
تمّ إيهام الشباب بأنّ كلّ شيء ممكنٌ فوراً و«توّاً» في تأويل رديء لقول الشاعر: «وفاز باللذّة الجسور»!
ولماذا تنتظرُ أن تَعْلَمَ أو أن تتعلّمَ، ما دامت «المعلومة» متاحةً سهلة المنال؟! لماذا تنتظر أن تعرف أو أن تفكّر، ما دمتَ تستطيع- بفضل «نقرة واحدة» على لوح المفاتيح- أن تعثر على من يفكّرُ لكَ أو يعرف عوضاً عنك؟! لِمَ الانتظار، ما دام في وسعك أن «تفتح صندوقاً» في برنامج تلفزيونيّ كي «تغنم» سيّارةً أو منزلاً، و كي «تربح المليون»؟! ولماذا تنتظر، وفي وسعك- بمجرّد الصراخ و«الديغاجيزم» والعنف- أن تحصل، بسرعة، على كلّ ما ترغب في ابتزازه: الثروة، والشهرة، والمنصب، والاعتراف؟!
ليس من شكٍّ، طبْعاً، في أنّ للكثير ممّا تحقّق في هذا الزمن الجديد منافع حقيقيّة وجوانب إيجابيّة. لقد أتاحت لنا التكنولوجيا الحديثة الكثير من أدوات اختزال المكان واختصار الزمن، وبات في وسعنا تسريع الإيقاع والتقليص من «مدّة الانتظار» في كلّ الاتّجاهات: عند السفر. عند التواصل. عند التعبير. عند البحث والتنقيب في مكتبات «بابل» المفتوحة.
لكن ليس من الهيّن إلغاء الانتظار من حياتنا، بشكل كامل، و- تحديداً- ذلك «الانتظار الفعّال» الذي لا تنضج من دونه ثمرة. ولعلّنا لا نبالغ حين نزعم أنّ كلّ محاولةٍ للالتفاف على هذا النوع من الانتظار، هي محاولة لإلغاء جزء جوهريّ من إنسانيّتنا، من خلال الرغبة في إرغام الحياة على «الاستجابة الفوريّة» لكلّ شهوة أو رغبة طارئة، وتلك سمة الأطفال الذين أفسدهم أولياؤهم، وأنشؤوهم على وضعيّة «العالَة المُدَلّل».
إنّ من شأن هذا النوع من الاستجابة أن يخرج بنا (غافلين أو متغافلين) من دائرة الوعي النقديّ والعقل المبدع إلى نوع من «الذهنيّة السحريّة» التي هي تنويعٌ على فكرة «عفريت المصباح» الذي يحقّق لك ما تتمنّى، ما إن تفرك نحاسه، بينما الزمن متجمّدٌ في المكان، فارغ مهما امتلأ، خالٍ في انتظار أن يعمّره «الشيء» أو «الشخص» أو «العفريت» المُنتَظر.
إنّ من شأن إلغاء الانتظار (بهذا المعنى) أن يقتُل فينا ما يُسمّيه برغسون «الديمومة الخلاّقة» (la durée créatrice)، تلك التي لا مناصَ منها إذا أردْنَا الإبداع. الانتظار هنا ليس «تأجيلاً»، بل هو عمل وإعداد، لابدّ منهما لتحقيق النجاح في كلّ مجال. نحن هنا أمام معادلةٍ خيميائيّة شديدة الدقّة، لأنّ من شأن كلّ انتظارٍ أطوَلَ ممّا يجب، وكلّ انتظارٍ أقلّ ممّا يجب، أن يؤدّيا إلى النتيجة نفسها: الفشل الذريع. وليس في وسعنا (أفراداً وجماعات) أن نصنع أيّ تغيير حقيقيّ على إثْر «ضغطة زرّ» أو وثبة خاطفة. علينا أن نتغيّر كي نغيّر. وهذا يتطلّب «إنضاجاً للذات» بالتوازي مع نضوج الظروف الموضوعيّة. ذاك هو «الانتظار الفعّال» الذي لا يحدثُ شيءٌ في غيابه، إلاّ كان «انفعالاً» غير محسوب العواقب، أو فقاعةً تاريخيّة، أي حدَثاً سطحيّاً عابراً سريعَ الزوال يسهلُ الانقلابُ عليه وتحويلُه إلى نقيضه.
لا نعدمُ صدًى لمثل هذا الإدراك في الوجدان الشعبيّ العامّ. تقول الحكمة الشعبيةُ التونسيّة، على سبيل المثال: «اللي يستنَّى خِيرْ من اللّي يتمنَّى»، في إشارة إلى تفضيل الانتظار على التمنّي. عبارةٌ دالّةٌ على أنّ العقل والوجدان «الشعبيَّيْن» يدركانِ أنّ الانتظار بناءً على جهْدٍ أو وَعْدٍ معلومٍ، خيرٌ من الانتظار بناءً على احتمالٍ مجهول، وأنّ المعلوم الممكن أقرب من المجهول المحتمل. إلاّ أنّ هذا «الإدراك» لم يتحوّل، بعدُ، إلى «براكسيس».
لقد جرّبنا، طويلاً وعبثاً، تأجيل عمل اليوم إلى ما بعد الغد، وانتظار ضربة الحظّ والفرَج بعد الشدّة، وانتظار عودة الابن الضالّ وانبعاث الفينيق من رماده، وانتظار المخلّص المُختار، وعبّرنا، مِراراً وتكراراً، في مختلف مراحل تاريخنا، عن إدراكِنَا ضرورةَ تأثيث الانتظار بالعمل. فماذا ننتظر، حتّى الآن، لكي نترجم ذاك الإدراك إلى قولٍ وفِعْل، وكي ننهض، حقّاً، وكي نجرّب الانتظار الفعّال؛ أي كي نضع حدّاً لرحلة «إنساننا» المحتار، بين غواية حَرْق المراحل وغواية تأثيث الانتظار بالانتظار؟