جان كالبيتسر: العالم غير آمِن وعلينا التكيُّف

| 07 أبريل 2020 |
كان لعام 2020 استهلالٌ غير مُبشِّر: ففي يناير/ كانون الثاني، دمَّرت الحرائق المروِّعة غابات أستراليا، والتهمت النيران آلاف الحيوانات البريّة، لتصبح أزمة «التغييرات المناخية» معضلةً أكثر واقعية من أي وقتٍ مضى، بينما تواصل مئات الآلاف زحفها هرباً من الحروب والصِّراعات، ليأتي فيروس «كورونا» المُستجَد المُنتشر في جميع أنحاء العالم، خالقاً حالة من القلق وعدم الاستقرار، فأصبح الكثيرون يعتكفون في المنازل ويتقوقعون على ذواتهم جرَّاء نوبات من الهلع الاستباقي خشية ما هو آتٍ وما تحمله الأيّام القادمة.
انطلاقاً من أهمِّية احتواء مخاوف البعض والتخفيف من تهويلات البعض الآخر، كان لموقع «دي تسايت» الألماني هذا الحوار مع الطبيب النفسي «جان كالبيتسر» الحاصل على دكتوراه الطب النفسيّ من جامعة كوبنهاغن، ورئيس وحدة العلاج النفسيّ في عيادة أوبيربرج النهارية Kurfürstendamm في برلين، الذي صدر له العام الماضي كتاب بعنوان «أن تكون مصاباً بالبارنويا الرَّقميّة/ Digitale Paranoia – bleiben»، إذ يفنِّد «كالبيتسر» في حواره أهمِّية التواصل مع الآخرين للحَدِّ من المخاوف التي تحيط بهم والتعاطي معها بصورةٍ أكثر إيجابية.
هل أصبح البشر أكثر تخوُّفاً من المُعتاد مقارنةً بالماضي؟
– نعم، بالتأكيد . لاحظت ذلك في مجال عملي سواء على الصعيد الجماعي أو الفردي، وعلى ما يبدو أن الأمر في تصاعد بحكم تزايد التهديدات العالمية التي صارت تؤثِّر حالياً على محيط حياتنا الشخصيّة. فعلى سبيل المثال، لدينا فيروس كورونا المُستجَد وما يثيره من حالة هلع لدى المواطنين، فبعض الأشخاص الذين يأتون إلينا في العيادة الخارجية والعيادة النهارية لم يعد بإمكانهم التفكير بمعزل عن هذه الأحداث، وذلك نظراً لحجم التهديدات المباشرة وتداول الأخبار السيئة، التي لم يعد بالإمكان إيقافها أو حجبها.
إذن أنت ترى أن الآلة الإعلامية تلعب دوراً حاسماً في مثل هذه الأحوال..
– بالطبع.. الصحف ووسائل الإعلام الاجتماعيّة تعد نافذة هامّة نُبصِر من خلالها العالم كلّه. كذلك هناك أهمِّية حثيثة لعنصري الصورة واللُّغة باعتبارهما عاملين حاسمين في رسم الصورة الذهنية للمُتلقِّي، ومن ثَمَّ وجب على هذه الوسائل الجماهيرية أن تنقل صورةً حقيقية تتماهى مع العالم على أرض الواقع، ولكن غالباً ما يتم ذلك بصورة يشوبها القصور. على سبيل المثال، نجد بعض التقارير التليفزيونية تتضمَّن صوراً لأشخاص من أصل آسيوي يرتدون أقنعة التنفس والسُترات الواقية، وهي صور لا تعبِّر عن واقع الحال في دولتنا الاتّحادية. المشكلة تكمن أيضاً في الإشارات الخاطئة التي تثير التحيُّزات والمخاوف.. لا يمكنني تأكيد حجم الميلودراما النفسيّة التي تخلقها مثل هذه الإيعازات غير الدقيقة في شوارع ألمانيا. ما نحتاجه بحقّ أن نعي حجم الخطر المُهدِّد للبشريّة ككلّ، ليكون بيننا نوعٌ من التراحم المطلوب تحديداً في أوقاتٍ كهذه، بحيث لا يفكِّر الجميع في خلاصهم فحسب، بل أيضاً يفكِّرون في الصورة الكبيرة للبشريّة.
في رأيك، هل الخوف مسألة نسبيّة ترتبط بالفئة العمرية، أم أن الشبابّ والكبار يتخوَّفون بالقدر نفسه ممّا يشهده العالم حالياً؟
– الخوف شعور فطري لا إرادي يعتري جميع الفئات العمرية. وإنْ كنت أرى انتشار المخاوف غير المُبرَّرة والمُبالغ فيها بالأكثر لدى كبار السن، كالخوف من اعتداءات المهاجرين أو جرائم العصابات. هنا يلعب الإعلام أيضاً دوراً هامّاً للغاية، فقد أصبح من الممكن أن تشوِّه وسائل التواصل الاجتماعي فحوى الرسالة الجماهيرية وتجعلها على النقيض تماماً. أمّا فيما يخصُّ الشباب، فهم بالطبع قلقون من إيذاء المستقبل وما يحمله لهم. ومع ذلك، فإنهم غالباً ما ينجحون في إحالة الخوف إلى شعور إيجابي من خلال ممارسة نشاط سياسيّ أو توعويّ. هذا الشعور بالقدرة على فعل شيء يساعدهم على تجاوز السياج السلبي لمشاعر الخوف والقلق.. فلا غضاضة من تعامل شريحة الشباب مع تهديدات العالم، لأنهم يستطيعون بلورة واستنفار قدراتهم. ما يؤرِّقني حقّاً كمعالج نفسيّ «الأطفال»، إذ تنبغي حمايتهم من تسلل مخاوف الآباء إليهم، كما ينبغي أن يظلّوا بمعزل عن تهديدات العالم الصاخب قدر المستطاع.
في ظلّ التصدي للتغيُّرات المناخية، يشعر الغالبية بالارتباك والعجز وكونهم بمعزل عن واضعي السياسات، ما هي رؤيتك حيال ذلك؟
– لكي يصبح الخوف نشاطاً إيجابياً، من المهمّ أن تكون هناك مساحة للعمل المشترك. هذه هي أفضل طريقة لمواجهة مشاعر الخوف. فإذا كانت السياسات تُوضع في الأساس من أجل الأفراد، فيمكن تطويعها أيضاً لحماية الصحَّة العقلية للسكّان وتشجيع المشاركة. فعلى سبيل المثال، يمكن تيسير شروط ولوائح البناء، ممّا يسهِّل على سكّان المنازل تثبيت أنظمة الطاقة الشمسية أو إنشاء واجهات خضراء للمنازل. من حيث التأثير الملموس، قد لا يكون هذا الأمر ذا مردودٍ كبير، ولكن حتى نتمكَّن من استيعاب مثل هذه التحدّيات، يجب على الفرد أن يكون قادراً فعلياً على القيام بشيء لتحسين بيئته المعيشية إلى جانب جهود الدولة.
هناك مصطلح مستحدَث في اللُّغة الإنجليزية؛ يُعرَف بـ«الحزن الناشئ عن تغيُّر المناخ/ Solastalgia».. ترى أي المشاعر يعكسها هذا المصطلح؟
– من الطبيعي أن تهيمن مشاعر الحزن والخوف والعجز على البشريّة جرَّاء تمرُّد الطبيعة الذي بات يتوعَّد الإنسان بمخاطر هو المتسبِّب فيها جرَّاء تعامله غير المُنضبِط معها. لا شكّ أن الناس يشعرون بالارتباك تجاه العديد من الأحداث المُخيِّبة للآمال، ولكن في بعض الأحيان تتطوَّر مشاعر الارتباك بصورةٍ إيجابية يمكنها أن تُحدِث انفراجاً. الأخطر هو أن يصبح الاضطراب حالةً دائمة لا تزول، لكونها تلتهم طاقة الفرد كاملةً. ثم يمكن أن تتحوَّل هذه الحالة فيما بعد إلى اكتئاب. وهو ما يصيب البعض بعدم التوازن والعجز التام إيذاء ما يواجهون، وكأنهم يريدون فقط الاختباء وسحب الأغطية فوق رؤوسهم.. لابدّ من التعامل مع الأمر قبيل الوصول إلى مثل هذه النقطة اليائسة.
كيف يمكن التعامل مع هذه المشاعر على أرض الواقع؟
– ردود الفعل هامّة للغاية. كثيرون يفضلون الانسحاب، نظراً لاحتياجهم المُلح إلى مساحات وفرص تجعلهم يشعرون أنهم على ما يرام. ولكن من المهمّ خلق توازن صحي بين الرجوع إلى المنطقة الآمنة وبين التحدّيات التي تهدّدنا بالخارج. يحتاج البعض أحياناً إلى الانزواء والابتعاد، ولكن عليهم ألّا يطيلوا أمد ذلك، فيسقطون من حسابات العالم ويصبحون معزولين عن الواقع المُعاش. الانسحاب لا يدرأ مخاطر الأشياء السلبية فحسب، بل يجعلهم يفقدون أيضاً أولئك الأشخاص المُعضدِين لهم واللحظات الجميلة التي تسعِدهم. وبذلك يصبحون بالفعل خارج العالم وخارج الحياة. فعندما ينحصر الإطار الذي يتحرَّك فيه الشخص أكثر وأكثر بسبب المخاوف والانسحابات، يُعرَف ذلك في علم النفس بـ«فقدان التعزيز الإيجابيّ»، وهو العامل الأساسيّ المسؤول عن تطوُّر مشاعر الاكتئاب.
كيف يمكن تجنُّب الوصول إلى ذلك المنعطف النفسيّ؟
– يجب التحدُّث أوّلاً مع الآخرين حول هذه المخاوف. وإخبار الأصدقاء أو العائلة أو زملاء العمل بالحاجة إلى الخروج تدريجياً من ذلك النفق المظلم. والأفضل، بالطبع، أن يكون ذلك بمرافقة أحد المُقرَّبين، للمساعدة وقت أن تخرج الأمور عن السيطرة.. أولى الخطوات تبدأ بكسر دائرة الخوف والاشتباك الحسي مع فعل مغاير كمشاهدة سلسلة دراما تليفزيونية جديدة تساعد على الانفصال اللحظي المؤقت عن دائرة الأفكار المشتعلة، وليكن ذلك المساء وكلّ مساء هو الموعد الذي يتمُّ اختياره للامتناع عن الحديث بشأن المخاوف أو حتى التفكير فيها، وكأنه تمرين يومي لكسر الدائرة المحترقة داخل العقل.
إذا لم تتح هذه الفرصة ولم تكن هناك بيئة اجتماعيّة ثابتة تساعد على ذلك، ما البدائل الأخرى؟
– هناك ضرورة، في هذه الحالة، لإيجاد مجموعة يتمُّ الشعور بالانتماء إليها. من المهمّ وجود حلفاء في مثل هذه المرحلة. يمكن الانضمام إلى جمعية أو الاشتراك في نشاط خدمي تطوعي سواء داخل العمل، أماكن العبادة، أو غيرها من الكيانات المجتمعيّة. لابدّ من خلق أهدافٍ مشتركة مع آخرين، فهو أمرٌ حيوي وضروي لاستمرارية المقاومة النفسيّة. يمكن الاستفادة أيضاً من تقنيات الواقع الرَّقميّ للحصول على فرص جديدة للتواصل مع أشخاصٍ متطابقين في طريقة التفكير، ما يجعل الأمر أكثر نجاحاً.
وقف تغيُّر المناخ، أو منع الجرائم الفظيعة، أو تعطيل زحف فيروس قاتل، كلّها أهداف تبدو ضخمة ويصعب تحقيقها. كيف يمكن إذن خلق هدف مَرِن وإدارته…؟
– يجب أوّلاً تحديد الشيء أو الهدف المرجو الحفاظ عليه. بالطبع إنقاذ البشريّة هدف نبيل، لكنه غير واقعي. لا يمكن لأحد أن يفعل ذلك بمفرده، حتى الشخصيات البارزة مثل غريتا ثونبرغ، المهاتما غاندي، روزا باركس، نيلسون مانديلا… لم يتمكّنوا من إحداث تأثيرٍ كبير، لكنهم بدأوا خطواتهم أيضاً على نطاقٍ فرديّ. وهذه هي نواة أي فعل عظيم أن نبدأ بأنفسنا أوّلاً.. فقط ينبغي أن يعمل كلّ فرد في بيئته للحفاظ على الإنسانيّة ككلّ. فالأمر يتعلَّق بإبقاء مسيرة الحياة رغم كلّ المخاوف والتهديدات الحقيقيّة. بهذه الطريقة، يمكن الحفاظ على مساحتنا الصغيرة داخل المنظومة الأكبر.
ألمانيا من الدول الأَقلّ تأثُّراً بتغيُّرات المناخ مقارنةً بالبلدان الأخرى. معدَّلات الإصابة بفيروس كورونا قليلة نسبيّاً في ألمانيا. تنعم دولتنا الاتّحادية بالسلام، على عكس أجزاء أخرى من العالم، تُرى.. هل تبدو مشاعر الخوف التي تعتري كثيراً من الناس في ألمانيا أمراً غير منطقي في رأيك؟
– إن المخاوف من التأثُّر المباشر بالكوارث الشديدة لتغيُّر المناخ في ألمانيا، هي أمر غير منطقي، على الأَقلّ في الوقت الحالي. كذلك لا يؤثِّر تفشي فيروس كورونا علينا بصورة مقلقة مثل البلدان الأخرى: لدينا حالاتٌ أَقلّ ونظامٌ صحي أفضل وسياسة أكثر فاعلية وشفافية ووسائل إعلام مجانية. لكن الخوف غير المُبرَّر قد يكون له معنى أيضاً. أننا نحاكي مفهوم الإدراك الجمعي لكلمة «مخاطر» حتى وإنْ لم تؤثِّر علينا شخصيّاً، فهي في النهاية تهمّنا باعتبارنا جزءاً من سكّان هذا الكوكب. والواقع أن هذا يقودنا إلى التفكير بصورةٍ أعمق في القضايا ذات البعد العالمي.
هل الخوف لدى أفراد في أجزاءٍ أخرى من العالم يختلف عن مخاوف البعض في ألمانيا؟
– هناك أشكال متطرِّفة من الخوف يمكن أن تشل حياة البشر، ونادراً ما يكون ذلك في الدول الغنيّة. ومع ذلك، نجد في مخيمات اللاجئين اليونانية، الأطفال يعيشون في حالةٍ من اليأس التام، حيث تنتاب بعضهم حالة من اللامبالاة، ويلتزمون الصمت، ولا يكادون يأكلون، فقط يحدِّقون في الفضاء. نحن جزء من الإنسانيّة التي ينتمون إليها أيضاً. ومن المهمّ أن يكون لدينا وعيٌ بأن هذه الكوارث الإنسانيّة تحدث، حتى لو لم نتمكَّن من رؤيتها مباشرة. فالأمر يتعلَّق دائماً بضرورة الانفصال عن وهم «المدينة الفاضلة». نحن نعلم أن العالم ليس آمناً. وعلينا أن نتكيَّف مع هذه الحقيقة، فدائماً ما نواجه التحدّيات. ولكن ربَّما الأحرى بنا في التعامل مع تحدّي فيروس كورونا أن نلتقط الدرس المُستفاد عندما تبدأ مشاعر الخوف والقلق في الانحسار.
حوار: ماريا ماست
المصدر: موقع «Die Zeit/ دى تسايت» الألماني 2020/3/1.