جدل البيو.. حماية للصحة أم انتهازية تجارية؟

| 02 يناير 2022 |
دفعت جائِحة كورونا الناس إلى إعادة النظر في مجموعة من العادات اليومية بما في ذلك استهلاكهم من الأغذية. فتوجَّهوا، بحثاً عن تقوية مناعتهم، نحو منتوجات الفلاحة البيولوجية الخالية نظرياً من المواد الكيماوية التي تؤثِّر على الصحة. وساهم الحَجْرُ الذي تمَّ فرضه خلال سنة 2020 على كلِّ سكّان العَالَم تقريباً في تغذية هذا التوجُّه، عبر تخصيص جزء من نفقات التغذية التي كانت تتمُّ في المطاعم لشراء المنتوجات البيولوجية ذات الأسعار المُرتفعة عادةً وإدخالها في وجباتهم.
لماذا تشجّع عدد من الدول التحوُّل الفلاحي إلى المنتوجات البيولوجية التي تخلق نوعاً جديداً من الاستهلاك في الوقت الذي يصارع فيه العَالَم لإنتاج ما يكفي من الغذاء لإطعام الأعداد المُتزايدة من السكّان؟ ففي ظرفية عالمية تشهد تغيُّرات مناخية لا تخفَى، ونمواً ديموغرافياً متسارعاً، يبدو أن هناك حركةً عكسية تسعى إلى تقليص حجم المواد المُستعمَلة في الفلاحة لتضخيم المنتوج الفلاحي من أسمدة ومبيدات، وأيضاً من مكمِّلات غذائية لتسمين الحيوانات. ولقد عمَّقت الأزمة الصحيّة، نتيجة انتشار فيروس كورونا، هذا التوجُّه وأصبح المُستهلكون أكثر ميلاً للمنتوجات البيولوجية، باعتبارها الأفضل صحيّاً. ذلك أنه منذ بداية الجَائِحة لم يتوقَّف الحديث عن أنه في غياب دواء ناجِع تبقى التغذية الصحية وسيلةً لزيادة المناعة الطبيعية للوقاية من الإصابة، إلى جانب الإجراءات الاحترازية المعروفة.
تشير الإحصائيات إلى أن نحو (186) بلداً تشهد ارتفاعاً مطرداً للفلاحة البيولوجية. وضاعف ارتفاعُ عدد البلدان، في هذا السياق، من المساحات المُخصَّصة لهذا النوع من الفلاحة إلى أكثر من (71 مليون هكتار) مخصَّصة بالكامل للمنتوجات الخالية من المواد الكيماوية التي تؤثِّر على النظام البيئي في الأماكن التي تستعمل فيها، وقد تكون لها، على المدى البعيد، آثارٌ سيئة على صحة المُستهلكين وعلى جودة التربة. كما سجّل هذا القطاع النامي بوتيرة متسارعة، في ظلّ الاهتمام الذي يحظى به على مستوى المُواكبة والدعم تشريعياً ومالياً، رقم معاملات يناهز (100 مليار دولار) على مستوى العَالَم في عام 2018 .
لكن، ما المُثير في موضوعٍ كهذا من المُمكن التعامل معه باعتباره تنويعاً في النشاط الفلاحي، يوفِّر موارد غذائية إضافية، ويساهم في امتصاص البطالة ويوسِّع الاستهلاك؟ إن اعتباره كذلك ما هو إلّا ظاهر الأمر فقط، لأن هناك أسئلةً مبعثُها عدد من المُفارقات التي ينطوي عليها. ومن هذه المُفارقات، أن مواطني الدول «الشبعانة» هم الأكثر إقبالاً على استهلاك مواد الفلاحة البيولوجية، سواء في البيوت أو في المطاعم العامة. ففي فرنسا، مثلاً، تشكل هذه المواد (6.5) في المئة من النفقات الغذائية للأسر، وما يقارب (188 يورو) لكلّ فرد في السنة، وحقَّقت تجارة هذا القطاع سنة 2018 أكثر من (9 مليارات دولار) مقابل نحو (11 ملياراً) في ألمانيا، وأكثر من (40 ملياراً) في الولايات المُتحدة. إن هذه الدول تعيش ما يسمِّيه بعض المُهتمّين بالموضوع مرحلة انتقال غذائي أو فلاحي، انطلاقاً من وعيها أولاً بالتغيُّرات المناخية وتأثيرها السيئ على وفرة المياه، وبضرورة الحفاظ على المياه الجوفية من التلوُّث وعلى صحة مواطنيها أيضاً، عبر التقليل من المواد الملوّثة، خاصة المبيدات والأسمدة الكيماوية، أو في حالات أخرى عبر منع المنتوجات الفلاحية المعدَّلة وراثياً درءاً لأضرارها المُحتمَلة.
تكمن المُفارقة هنا في المُقارنة مع الدول الأخرى «الجائِعة»، التي لا تجد المجال للتفكير إلّا في ضرورة توفير الطعام للأعداد المُتزايدة من سكّانها، وبالتالي تخرج حماية الصحة والمُحافظة على البيئة من الأولويات في برامجها الاقتصادية والاجتماعية، والتنموية بشكلٍ عام. فإذا كانت المجموعة الأولى تعتبر الفلاحة البيولوجية أحد العناصر الأساسية للسيادة الغذائية، فإنّ المجموعة الثانية تظلّ بلا سيادة بشكلٍ مطلق نتيجة ارتهانها إلى أساليب الفلاحة التي تستنزف الأرض وتلوِّث المياه، وتلجأ إلى الأسمدة الكيماوية لتكثير المحصول، وإلى المُساعدات التي تجود بها الدول الأخرى الغنية التي تحقِّق فائضاً.
ليس هذا فحسب، بل إن هذه الدول، إذ تعاني الأمرَّين في الاستجابة للحاجيات الغذائية لسكّانها، يعمل بعضها على تسريع وتيرة الفلاحة البيولوجية لتلبية طلبات أسواق الدول الغنية المُستورِدة. ذلك أن هذه الأسواق ما فتئت تتوسَّع وتعبِّر عن نهمها، كما هو الشأن بالنسبة للولايات الأميركية التي تمثِّل هذه المنتوجات نحو (16) في المئة من مجموع وارداتها الفلاحية، وأيضاً بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي التي استوردت أكثر من (3.2 مليون طن) سنة 2018، والصين التي أنفقت أزيد من (52 مليار يورو) على وارداتها من المنتوجات البيولوجية المُوجَّهة في أغلبها للأطفال.
لكن حتى هذا الطموح يواجَه بمُنافسة شرسة من الدول الكبرى المُصدِّرة ممثَّلةً في الدول المُستورِدة نفسها، فالولايات المُتحدة تحتلُّ الصدارة في هذا المجال، وأيضاً دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة، بينما تأتي دول مثل الهند في رتبٍ لاحقة. وهذا يعني أن الفجوة القائمة بين الدول الفقيرة والغنية في مجال التغذية لا يمكنها إلّا أن تتعمَّق أكثر، خاصة مع تداعيات التدابير التي اتُّخذت لمُواجهة جائِحة كورونا التي فاقمت أعداد الفقراء في العالَم بأكثر من (100) مليون شخصٍ إضافي، أغلبهم بالتأكيد في الدول الفقيرة (البنك الدولي يتحدَّث عن جنوب آسيا وإفريقيا جنوب الصحراء خاصة).
المُفارقة الأخرى المُرتبطة بموضوع الفلاحة البيولوجية، هي أن التوجُّه المُتزايد لاستهلاك منتوجاتها، يطرح سؤالاً بقطبين متنافرين. هل يتعلَّق الأمر بالصحة أم بالتجارة؟ وهو تقريباً السؤال ذاته الذي رافق، في سياقٍ آخر، منتوجات علامة «حلال» التي بدأت باللحوم قبل أن تمتدَّ لتشمل منتوجات فلاحية أخرى لا تطرح أي إشكال، فقد كان النقاش دينياً قبل أن تتحوَّل العلامة إلى ماركة تجارية محض. في ظلّ هذه الثنائية، هناك أصواتٌ تنظر إلى الفلاحة البيولوجية باعتبارها قطاعاً للاستثمار والاستهلاك، وبالتالي تنويعاً في النشاط الاقتصادي قد تكون له تأثيرات إيجابية على الصحة العامة. قد يكون هذا صحيحاً، بيد أن أسعار هذه المنتوجات مرتفعة جدّاً بالمُقارنة مع الفلاحة التقليدية، أي أنها في متناول فئة قليلة من ذوي القدرة الشرائية العالية، لذلك تبقى مسألة المُحافظة على الصحة كهدفٍ فيه نظر، لأنه، عملياً، لا يشمل كلّ السكّان.
تؤكِّد دراسة فرنسية نُشرت سنة 2020، أن أسعار المنتوجات «البيو» أعلى في المُعدّل بـ (75) في المئة مقارنةً مع المنتوجات الأخرى، علماً أن دراسة مماثلة نُشرت سنة 2017 خلصت إلى أن هذا الفارق كان في حدود (64) في المئة. ولَعَلّ هذا التطوُّر يؤشر إلى أن القطاع يتجه أكثر ليشكِّل أحد مظاهر الفوارق الاجتماعية، ويكرِّس الفجوة بين الأغنياء والفقراء داخل المُجتمع الواحد، كما بين الدول. وعندما أثارت إحدى الجمعيات المُهتمَّة بالمُستهلكين الانتباه إلى أن المُوزِّعين الكبار يساهمون في ارتفاع الأسعار بـ(46) في المئة مطالبةً بإعادة النظر في طريقة بناء السعر الذي يؤدِّيه المُستهلك النهائي وواصفةً هذه الطريقة بالانتهازية، لم تقم الوكالة الفرنسية المُكلّفة بمُواكبة القطاع بردِّ فعلٍ إيجابي للبحث في الموضوع، على العكس من ذلك، قالت إن هذا النوع من الفلاحة مكلّف، ومردوده ضعيف ومتطلّباته أكثر في ما يخص اليد العاملة، يُضاف إلى ذلك أن مصاريف المُراقَبة والإشهاد على المنتوجات يؤدِّيها المُنتِج. بشكلٍ ما دافعت الوكالة عن فيدرالية التجار والمُوزِّعين التي اعتبرت الدراسة المذكورة (2017) منحازة وغير موضوعية!
بعيداً عن جدل الفقر والغنى، والصحة والتجارة، هناك جدلٌ من نوعٍ آخر. جدلٌ أخلاقي محوره السؤال التالي: إلى أي حدّ هذه المنتوجات بيولوجية فعلاً؟ هناك حديث عن المنتوجات البيولوجية، والشبه بيولوجية والبيولوجية المُزيَّفة. بمعنى آخر هناك احتمالات واسعة للغش في ما يتمُّ تسويقه تحت علامة «بيو» الخضراء نتيجة صعوبة مراقبة جميع مواقع الإنتاج وجميع المنتوجات. لذلك، تحوم شكوك وشائعات بشأن استعمال موادّ في العناية بالنباتات والماشية تتضمَّن عناصر ضارة كالتي تستعمل في الفلاحة الأخرى. ولهذا فإذا كانت الدول التي انخرطت في التوجُّه نحو الفلاحة البيولوجية تجتهد في إقرار قوانين واعتماد برامج وخلق مؤسَّسات لتحصين القطاع وتقدِّم الدعم للمُنتجين لتشجيعهم، فإنها من جانبٍ آخر، لا تمضي إلى النهاية لحماية المُستهلكين من خلال تشديد المُراقَبة على ما يدخل إلى أجسامهم من جهة، ومن جهةٍ أخرى من خلال إجراءات تروم تأمين وصول الفئات ذات القدرة الشرائية المُتدنية إلى المنتوجات البيولوجية بشكلٍ ينسجم مع الخطاب المُبشِّر بفضائل الفلاحة البيولوجية في ما يتعلَّق بالسلامة الصحية على المدى البعيد.
من جانبٍ آخر، على سبيل الخاتمة، هناك طلبٌ متزايدٌ، وهناك عرض غير كافٍ. ولن يتأتَّى حلّ هذه المُعادلة إلّا بزيادة الأراضي المُخصَّصة للفلاحة البيولوجية، وأيضاً بضخ أموال إضافية لدعم المُنتجين، ولكن أيضاً يبدو التوجُّه نحو البلدان الفقيرة للاستثمار في هذا القطاع ضرورياً، لأسبابٍ كثيرة منها مساعدة هذه الدول على الانخراط في الحفاظ على ثرواتها المائية، وعلى المُساهَمة في المجهود الدولي لمُواجهة التغيُّرات المناخية، وكذلك على توفير موارد إضافية متأتّية من صادرات القطاع، وأيضاً المُساهمة، من خلال نقل الاستثمارات إليها، في تنشيط سوق الشغل وتخفيف وطأة الفقر فيها.