جرجي زيدان بين الموقف الثّقافي والممارسة الإبداعية

ربيع ردمان  |  03 فبراير 2021  |  

في الكثير من كتابات القرن العشرين، التي أرَّخت للأدب العربي في مرحلة الإحياء، يغلب التركيز على تيّارَيْن كبيرَيْن أو مرجعيَّتَيْن ثقافيَّتَيْن، أسهم التفاعل العميق بينهما في تشكّل الأدب العربي الحديث، هما: بعث التراث الثّقافي العربي، والثّقافة الغربية الوافدة. وليس ثمّة شكّ في دور هذَيْن التيّارَيْن، لكن -في المقابل- يتمّ إغفال (أو التقليل من شأن) جدل كان يدور داخل أنساق ثقافة الإحياء بين التراث العربي الرسمي ومرويّات الثّقافة الشعبية، وقد أخذت ملامح هذا الجدل في التشكُّل، في الفترة التي سبقت مطلع النهضة، وتسارعت وتيرته بفضل ظهور الطباعة والصحافة لتشمل الكثير من جوانب اللّغة والأسلوب، من حيث استخدام المفردات ومستويات التعبير ومكوِّنات السرد وآليّاته وأشكاله، وكان لهذا الجدل الداخلي تأثير حاسم وعميق في تكوين الأدب العربي الحديث بشكل عامّ، والأنواع السردية بشكل خاصّ. وهذه زاوية مهمّة من البحث، تناولها -بإشباع- الأستاذان: صبري حافظ في كتابه «تكوين الخطاب السردي العربي الحديث» (2002)، وعبدالله إبراهيم في «السردية العربيّة الحديثة» (2003)، في إطار سعيهما إلى إعادة قراءة أدب المرحلة، وتفسير نشأة الأنواع الأدبيّة الحديثة، من خلال منظور يأخذ في اعتباره مختلف السياقات الفاعلة في حركة الأدب.

تكشف هاتان الدراستان أن تعاطي الكثير من مؤرِّخي الأدب مع مرحلة الإحياء، كان تعاطياً تجزيئيّاً، يتمّ التركيز فيه على جوانب من الظاهرة الأدبيّة، دون الوعي بالترابطات التي تصل بينها، واستبعاد فكرة التعدُّدية في المكوِّنات والمرجعيات التي تسهم في تشكُّل الظاهرة والتبادلات الفاعلة في عمليّات إنتاج الأدب، وتلقِّيه. ومن مظاهر هذه التجزيئية، الانتقائية في المصادر التي تؤرِّخ لأدب المرحلة، حيث كان يتمّ الاعتماد على المؤلَّفات والأعمال الأدبيّة المعترف بها من المؤسّسة النقدية الرسمية، وإغفال ما لم يكن يتَّفق مع التوجُّهات الثّقافيّة السائدة، بما في ذلك الصحف والمجلّات الصادرة في مرحلة الإحياء، والتي تُعَدّ مصدراً مهمّاً في توثيق إيقاعات المشهد الأدبي الإحيائي، بكلّ أطيافه وتفاعلاته.

تيّار التحديث الأدبي

ومع ذلك، فيبدو أن هجوم بعض زعماء الإصلاح ضدّ انتشار القصص والمرويّات الشعبية قد لعب دوراً في توجيه المؤرِّخين إلى عدم الاهتمام بهذا البعد المهمّ، وإغفال دوره في تشكُّل الأدب العربي الحديث. فقد كان أنصار الاتِّجاه المحافظ والتقليدي يتمتَّعون بحضور قويّ في الحياة الاجتماعية، والحياة الثّقافيّة في الشام ومصر، خاصّةً عند فجر النهضة العربيّة الحديثة، وتلقّف مؤرِّخو الأدب تلك المواقف، بوصفها التوجُّه الرئيسي للمرحلة أو الصوت الجامع لثقافة الإحياء، في حين كان هناك اتِّجاهات أخرى أخذت تتبلور منذ أواخر القرن التاسع عشر، بفعل ما أتاحته المدارس الحديثة من ظهور أجيال جديدة جمعت، في معارفها، بين التراث العربي والاتِّصال الوثيق بالثّقافة الأوربية عبر إتقان إحدى لغاتها، كما هو الحال مع يعقوب صنوع، وفرح أنطون، وجرجي زيدان، ويعقوب صروف، ولويس شيخو.

الواقع أن أصحاب هذا التيّار كانوا أكثر انخراطاً في ممارسة الأدب؛ إبداعاً ونقداً، من التيّارات الأخرى، وحاز بعضهم شهرة وريادة في كتابة الأنواع الأدبيّة الحديثة كالرواية والمسرح. وقد عبَّر هؤلاء، في مقالاتهم وكتبهم، عن رؤى ومواقف جديدة تجاه الواقع والثّقافة الأدبيّة المعاصرة، وكذلك الأمر فيما يتعلّق بالتاريخ، وبالثّقافة العربيّة القديمة، فكيف نظر هؤلاء إلى هذا التراث السردي؟ وما المواقف التي اتَّخذوها تجاهه؟ تساؤلان، يمكن التوقُّف عندهما، من خلال الحديث عن واحد من أبرز كُتّاب الرواية في مرحلة الإحياء، هو جرجي زيدان، بصفته ممثِّلاً لتيّار التحديث المبكِّر في الأدب العربي الحديث، وبوصفه، أيضاً، أحد رموز الثّقافة الإحيائية ذات التوجُّه المنفتح على الثّقافات الحديثة.

جرجي زيدان (1861 – 1914)، صحافي وكاتب لبناني، من جيل روّاد النهضة العربيّة الحديثة، هاجر إلى مصر واستقرَّ بها، وأسَّس هناك مجلّة (الهلال) عام 1892. جاء معظم إنتاجه الأدبي والفكري على شكل مقالات متتابعة، وكان يعمد، بعد اكتمال كلّ موضوع، إلى جمع المقالات وتنقيحها وإخراجها في كتب. تسنَّمَ زيدان مكانته في الأدب العربي الحديث، من خلال إسهامه في كتابة عدد كبير من الروايات التاريخية التي جعلت منه رائد هذا النوع من الكتابة، وقد أراد بها – كما يذكر – تعليم التاريخ العربي للأجيال الصاعدة، من خلال قالب روائي يسرد فيه أحداث التاريخ، ويملأ فراغات أحداثه بقصّة غرامية متخيَّلة لشدّ انتباه المتلقّي.

في إطار هذا الدور التنويري، نشر زيدان الكثير من المقالات في مجلّة (الهلال) للتعريف بأعلام الأدب العربي القديم وتقريب أهمّ ذخائر هذا التراث لقرّائه المعاصرين، ومن تلك المقالات مقال بعنوان « الروايات: أصلها وتاريخها» (مجلّة الهلال، أكتوبر، 1902)، قدّم زيدان فيه لمحة عن فنّ القصص، وأصوله، وتاريخه.

أصول القصص العربي

يتناول زيدان أصول القصص العربي، ونماذجه، في إطار مقارنته بأصول القصص الغربي ممثَّلةً بملاحم اليونان والرومان، وأقاصيصهم، ويقسم القصص العربي إلى قسمَيْن: قصص موغلة في القدم، تروي مصاب عاد وثمود، وحادثة سيل العرم، وهذه القصص ليست من إنشاء العرب؛ لكونها لا تتضمَّن شيئاً من أخلاقهم وآدابهم المأثورة؛ لذا يرجِّح زيدان أنها من ابتداع يهود اليمن.  فيما يعدّ قصص القسم الثاني أحدث، زمنيّاً، من الأوَّل، فهي قصص تشكَّلت في إطار التمثيل الرمزي للقيم، وفي فضاء اجتماعي، تتأسَّس أصول العلاقة بين أفراده على منظومة الفضائل، وأساسها الذي نشأت عنه هو اشتهار «أحد الناس بخِلَّة من الخلال المحمودة عندهم، فينسبون إليه كلّ ما يؤيِّد ذلك من النوادر التي قد تكون وقعت لغيره أو أنهم اختلقوها ترغيباً في تلك الفضيلة… فإذا اشتهر أحدهم بالشجاعة فلا يسمعون حادثة من هذا القبيل إلّا نسبوها إليه، وزادوا فيها، ووسَّعوها».

ثم يقسم زيدان قصص القسم الأخير إلى نوعين؛ بناءً على علاقة القصص بالمرجع، فالنوع الأوَّل يقوم على التخييل الخالص، وإن تظاهر بمرجعيّة للتاريخ، ويمثِّل لهذا النوع بـ «قصّة «سَيْر الإمام علي بن أبي طالب إلى الهضام بن الجحاف، وقطعه الحصون السبعة حتى وصل إليه»…، وسيرة الملك الظاهر، وسيرة الملك سيف، والزير، وعنترة، وغيرها. بينما تأتي قصص النوع الثاني في صورة أقرب إلى الكتابة التاريخية، ومنها «ما وضعوه من القصص في وصف أخلاق هارون الرشيد، وتمثيل عصره وآداب الهيئة الاجتماعية في أيّامه. وأكثر هذه القصص داخل في قصّة (ألف ليلة وليلة) الشهيرة».

السِّيَر الشعبية والتاريخ

بصرف النظر عن اختلاف التسميات والأوصاف التي يطلقها زيدان على كتب التراث، وعناوينها، في مرحلة لم يكن التحقيق العلمي قد أخذ مكانه، إن تمييزه بين هذَيْن النوعيين الأخيرين يكشف عن ميل زيدان إلى القصص ذات الصبغة التاريخية؛ والباعث على هذا الميل هو مشاكلتها للكتابة التاريخية التي يعنى فيها الراوي بوصف شخصيات ذات مرجعية تاريخية، ووصف أخلاق العصر، وعلاقات الناس، بصورة لا تفارق الواقع التاريخي كثيراً، حتى حين يسرد الراوي أحداثاً ووقائع غريبة.

والتمييز بين السِّيَر الشعبية والمرويّات التاريخية ليس تمييزاً نوعيّاً بل كمِّيّاً، فالاثنان يصدران عن أصل واحد هو التاريخ. والسير الشعبية، بصورتها التي وصلت إلينا، لا تختلف في موضوعها عن تلك المرويّات؛ لأنها تقوم على حواداث وشخصيات لها سند في الواقع التاريخي. يرى محمد رجب النجار أن السير الشعبية «تنشأ، في الأصل، «نواة» ذات أصل تاريخي من قصص الفروسية، تكون بمثابة الجنين، ما إن يولد حتى ينفصل عن مبدعه الأوَّل»،ثمّ تعاد صياغتها، وإضافة المزيد من الحوادث والشخصيات، من خلال منظور شعبي يلبّي تصوُّرات الشعب، ويعبِّر عن أفقه الجمالي وخصوصية السياق الحضاري التي تجري فيه عمليّات إعادة الصياغة والحذف والإضافة. وإلى هذا المعنى، يشير أستاذ التاريخ قاسم عبده قاسم، حين يعتبر السير الشعبية مجرَّد قراءة شعبية للتاريخ العربي، فهي تجسيد لرؤيتها، ولماضيها، ولإرثها الحضاري كما تراه، أو كما تحبّ أن تراه. وبالطبع، هذه الرؤية تتلون بالواقع السياسي، والواقع الاجتماعي اللذين تعيشه ما طبقات الشعب، وتعكس تصوُّراتها التي تنشأ من الفطرة، ومن الشعور بالقهر، وفق تعبير الشاعر عبدالله البردوني، فتشكِّل بطلاً معجزاً يعمل ما يراه الإنسان العادي مستحيلاً. ومن هنا، تكتسب شخصيات السير وحوادثها أبعاداً خوارقية وعجائبية؛ انسجاماً مع تلك التصوُّرات.

يتَّضح مما سبق أن زيدان ينظر إلى التاريخ بوصفه منبعاً للسرد العربي، وهذا رأي متقدِّم يتَّفق معه معظم الدارسين اليوم، فالتاريخ كان بمنزلة النهر الذي تشكَّلت فيه جداول السرد العربي القديم، فاستمدَّ منه آليّاته وتقنيّاته، وانتخب مادَّته من أخباره. غير أن زيدان يعمِّم هذا الرأي على التراث السردي كلِّه، فيجعل الوقائع التاريخية أساساً لكلّ القصص العربي الموروث؛ بينما هناك الكثير من نصوص السرد العربي القديم لم تُبْنَ على أصل تاريخي، بل قامت على أساس عنصر الخيال، كالمقامات والرسائل القصصية، مثل رسالة «التربيع والتدوير»، و«التوابع والزوابع»، و«رسالة الغفران»، و«حي بن يقظان»…وغيرها.

يضفي زيدان على السِّيَر الشعبية قيمة إيجابية من جهة الأصل الذي تطوَّرت عنه، وهو التاريخ، فهي تنتمي إلى زمنها التاريخي الذي تولَّدت فيها والأفق الجمالي الذي عبَّرت عنه، لكن امتدادها في الزمن المعاصر، يجرِّدها من تلك القيمة لعدم مناسبتها للعصر، بالإضافة إلى ما تتضمَّنه عوالمها من مفارقة للواقع، واعتمادها على المبالغة في رسم شخصياتها، ووصف حوادثها، وهذا ما يؤثِّر – بحسب رأيه – سلباً في أخلاق مطالعيها الذين يميلون، غالباً، إلى «تكييف أخلاقهم حتى تطابق أخلاق بطل الرواية التي يطالعونها؛ فإذا كان رجلاً محارباً مالوا إلى الاقتداء به، حتى أنهم يحاولون أن يعملوا مثل عمله..».

بين الرواية والسِّيَر الشعبية

يلاحَظ أن معظم النماذج التي أشار إليها زيدان تنتمي إلى المرويّات الشعبية، غير أنه لم يتطرَّق، في حديثه، إلى خصائص هذه الأنواع السردية، وآليّاتها، ومكوِّناتها، أو يثير مسألة علاقة النصوص الروائية الحديثة التي كان يكتبها، هو ومجايلوه، بالتراث السردي العربي وإمكانيّة الاتِّكاء عليه، واستلهامه، بل اكتفى بالإشارة إلى اختلاف المضامين بين الرواية الحديثة والسِّيَر الشعبية، وأثر كلّ منهما في المتلقّي، وكأنه يسعى، بذلك، إلى إزاحة تلك الذخيرة السردية، وإفساح المجال للرواية الحديثة لكي تتسلَّم دفّة القيادة؛ بوصفها أداة تعبيرية جديدة يناط بها تعليمُ الأجيال الجديدة التاريخ الذي صنع حضارة أسلافها، والتعريف بالأفكار الحديثة حول التمدُّن والتقدُّم.

وإذا تأمَّلنا هذا الموقف، في ضوء النظرة المقارنة بين كلّ من السِّيَر الشعبية وروايات جرجي زيدان التاريخية، سيتبيَّن لنا أن موقفه الفكري بدا متأخِّراً عن ممارسته الفعلية في كتابة الرواية؛ ذلك أن الصلة بين روايات زيدان والسِّيَر الشعبية تحمل من القوّة والوضوح ما لا تخطئه العين، إلى حدّ أنها دفعت أحد الدراسين إلى الشطط في القول إن محاولة زيدان لتعليم التاريخ أشبه بإعادة إنتاج لتلك المرويّات الشعبية التي سعت هي، أيضاً، إلى قراءة التاريخ من منظور شعبي.

يتبدّى أثر المرويّات الشعبية واضحاً في معظم روايات زيدان؛ فالبناء العامّ في رواياته يقوم على أساس المنطق الشفاهي المميِّز للحكايات الشعبية، حيث يغلب على البناء القصصي أسلوب الاسترسال في سرد الأحداث، ويأتي الانتقال من حكاية أو حادثة إلى أخرى بلا رابط، أحياناً، إذ يتمّ من خلال الاستطراد فتكثر المصادفات في تقدُّم مسار الأحداث وتقلب مصائر الشخصيات. كما يظهر ميل الراوي إلى استخدام صيغ المبالغة، بهدف شدّ انتباه المتلقّي، وإدهاشه بسرد ما هو غريب من الأحداث.

ويمكننا، هنا، الإشارة إلى روايته التاريخية «المملوك الشارد» التي تنطلق من حادثة القلعة التي دبَّرها محمد علي باشا للتخلُّص من المماليك، فتتَّخذ من نجاة أحد المماليك محوراً لأحداثها، ويتتبع الراوي رحلة هروبه وتشرُّد عائلته، وفي أثناء ذلك يلمّ بالأحداث التاريخية التي وقعت خلال النصف الأوَّل من القرن التاسع عشر، من خلال حركة شخصيات الرواية في ثلاث بيئات: مصر ولبنان والسودان. وبالرغم من أن الرواية تقوم على حادثة قريبة من عصر الكاتب إلا أنها تحفل بالمغامرات والمصادفات المدهشة، ويستلهم الراوي الكثير من تقنيات الراوي الشعبي في تحبيك أجزاء الحكاية، ومدّ متوالية الأحداث، وتتبادل شخصيات الرواية موقعَي الراوي والمروي له، فلكلّ منها قصّتها التي تحكيها للآخرين: «ما كاد الأمير بشير يعود إلى رجاله في الخيمة بعد أن استمع لقصّة أمين بك، حتى جاءه رسول قادم من بني سويف» (ص62) «حدَّثَ الأمير أمين أباه بالخبر من أوَّله إلى أخره» (ص53) «وأخذت زوجة الأمير تقصّ على غريب حكاية أبيه باختصار» (ص130).

قد يدفعنا هذا التجاوب الواضح بين روايات زيدان والمرويّات الشعبية وموقفه منها، إلى اعتبار ذلك نوع من التضارب بين التصوُّر والممارسة الفعلية، وهذا صحيح على مستوى النظر، لكنَّ الأمر قد لا يكون مجرَّد تضارب أو ازدواجية بقدر ما هو وقوع خلف حجاب المعاصرة الذي لا يتيح لصاحبه رؤية المشهد بكلّ تفصيلاته، بما في ذلك موقعه داخل هذه المرحلة التي كانت تشهد تغييراً ثقافياً واسعاً، ومتعدِّداً في مكوِّناته ومرجعيّاته، فالإحيائيّون كانوا يصوغون مواقفهم، ويؤسِّسون تجاربهم الأدبيّة في ظلّ تجاذبٍ شديد بين عالمَيْن؛ عالم في طريقه للأفول، وعالم جديد تتشكَّل ملامحه، ويحاول خلق أدواته الخاصّة، وكان من المتوقَّع أن ينطبع هذا التجاذب في مواقف الكتّاب، وتجاربهم الفعليّة.

يمكن القول إن حالة التحوُّل التي كان يشهدها المجتمع والثّقافة، آنذاك، قد ضبّبتْ وعيَ الإحيائيِّين فاتَّسعت المسافة، لدى البعض، بين الموقف الفكري والممارسة الفعليّة. ومع ذلك، نجد جرجي زيدان يسجل موقفاً متقدِّماً وإيجابياً تجاه التراث السردي بصورة عامّة، وبعض أنواع المرويّات الشعبية بصورة خاصّة، ولا ننسى أن هذا الموقف يعود إلى مرحلة، كانت السيادة فيها للتقاليد الأدبيّة والتصوُّرات النخبوية التي تحدِّد للأدب صورة مخصوصة، لا يندرج ضمنها فنّ القصّ، ويسعى أنصارها إلى محاربة كلّ ما يتعارض مع تلك الصورة. غير أن زيدان أبدى بعض التحفُّظ تجاه الحضور الكثيف لرواة السِّيَر الشعبية، الذين كانوا يحيون ليالي القاهرة وبعض مدن الشام، بالسمر والقصّ. وسوَّغ هذا التحفُّظ بالاستناد إلى اعتبارات إصلاحية وتنويرية لا تتَّهم الخيال، ولا تهاجمه إنما تبدي حذرها من خطورة غياب الوعي الجمالي، لدى المتلقِّين، بالطبيعة الفنّيّة لهذه النصوص السردية، والتلقّي شبه التداولي لها، حيث تغيب المسافة بين التخييل والواقع، وتتحوَّل النصوص، بالنسبة إليهم، إلى وهم، و-من ثَمَّ- تحلّ محلّ الواقع.

مواضيع مرتبطة

فنّ لعب كرة القدم
ترجمة: عبدالله بن محمد 10 نوفمبر 2022
نسخة استثنائية في رحاب ثقافتنا
مجلة الدوحة 10 نوفمبر 2022
دموع الفوتبول
دموع الفوتبول 09 نوفمبر 2022
جابر عصفور.. التراث من منظور الوعي بالحاضر
حسن مخافي 07 سبتمبر 2022
القاضي والمتشرِّد لأحمد الصفريوي.. حين لا تكون الإثنوغرافيا سُبّة
رشيد بنحدو 02 يناير 2022
فيليب باربو: اللّغة، غريزة المعنى؟
ترجمة: مروى بن مسعود 02 يناير 2022
رسالة إلى محمد شكري: الكتابة بيْن الصمت والثرثرة
محمد برادة 02 يناير 2022
إشكاليةُ اللّغةِ العربيّةِ عندَ بعضِ الأُدباءِ والإعلاميين
د. أحمد عبدالملك 15 ديسمبر 2021
محمد إبراهيم الشوش.. في ظِلّ الذّاكرة
محسن العتيقي 01 نوفمبر 2021
بورخيس خَلَفًا للمعرّي
جوخة الحارثي 06 أكتوبر 2021

مقالات أخرى للكاتب

«النار ما تورِّث إلّا رماد»: هيمنة ثقافة المطابقة على المغايرة
06 أكتوبر 2021

«النارْ ما تورِّث إلّا رماد»، صيغة يمنية لمَثَل عربي يتمّ تدواله في العديد من البلدان العربية، تقريباً، بصيغ متقاربة، ويراد به وصم الأبناء الذين تنكَّبوا سيرة آبائهم، وسلكوا طريقاً خاصّاً، مبتعدين عمّا قد يُعتَبر ميراث الآباء في النباهة أو النجابة أو...

اقرا المزيد