جوائح الفن التصويري

| 01 أبريل 2020 |
تناولت الفنون التشكيليّة موضوع «الوباء» كواقع عياني قابل للإدراك والتوثيق، وتجربة تستجيب للأسطرة والترميز، وكمفهومٍ فلسفي يحمل على كاهله هواجس الإنسان وقلقه من المجهول والموات، فضلاً عن كيفية توظيف السُّلطة للجائحة في خطابها. في هذه القراءة سيتم التركيز على أعمال فنّيّة أوروبية، لم يُعنَ بها كثيراً في الثقافة العربيّة، وتقع في الفترة الممتدة بين القرن الرابع عشر والقرن التاسع عشر.
في إحدى المنمنمات التي تعود للعصور الوسطى، والمقيدة لرسَّام مجهول في كثير من المراجع، وتحمل عنوان «دفن ضحايا الطاعون» (1353م)، تحضر الإشارة إلى جائحة «الموت الأسود»، التي أصابت أوراسيا (القارتان الأوروبية والآسيوية) وشمال إفريقيا في القرن الرابع عشر، وتدرج في علم الأوبئة على أنها أكثر الجوائح فجائعيّة في تاريخ البشريّة، متجاوزة من حيث عدد الضحايا، وفق الدراسات الحالية، وباء فيروس الجدري الذي نقله المُستعمرون الأوروبيون إلى أميركا اللاتينية، والأنفلونزا الإسبانية سنة (1918). وفيما يبدو أن الوباء نشأ في آسيا، وبدأ بالتفشي، ووصل أوروبا بالطرق التجارية البحرية، وألقى مرساته في ميناء ميسينا في صقلية الإيطالية، ومنها انتشر في عموم أوروبا.
توجد منمنة «دفن ضحايا الطاعون»، في كتاب «The Chronicles of Gilles Le Muisit»، وهي «تواريخ» وحوليات كتبها المدوّن والشاعر والراهب الفرنسي «جيل لو مويزي Gilles Le Muisit» (1272-1352). وقاد البحث عن هويّة الفنَّان الذي صوّر هذا الكتاب، أثناء كتابة هذه السطور، إلى الناسخ ورسَّام المنمنمات «Pierart dou Tielt» (1340-1360). مفاده أن الراهب «جيل لو مويزي» كان قد أصبح أعمى في أواخر أيامه، فجُمعت المخطوطات والوثائق التي دونها عن يوميات الدير الذي كان يرأسه في مدينة تورناي البلجيكية، إضافة لأحداث عاصرها وسجّلها، ومنها وباء الطاعون. وأخيراً وصلت المخطوطات المكتوبة باللاتينية، إلى الرسام «Pierart dou Tielt»، الذي قام بإنجاز منمنماتها اعتباراً من النصّ حسبما يبدو.
كما هو معروف، اتّسمت العصور الوسطى الأوروبية بهيمنة الميتافيزيقيا اللاهوتيّة، ومركزية الخطاب الذي يقوم على أسبقية الإيمان على المعرفة العقلية. لذلك لم يكن استقلال الفنّ عن العقيدة أمراً يمكن أن تتصوّره العقلية الدينية آنئذٍ. الأمر الذي أخصع التعبير الجماليّ ليكون شأناً حِرفيّاً، وجزءاً من الفرائض الروحيّة، ومن الإرشاد والتعليم الكنسي، مما استدعى غياب وظيفة الفنّ الجمالية، ومتعة التلقي، وغض النظر عن إضافة اسم الفنَّان على العمل التصويريّ، كما هو الحال في «دفن ضحايا الطاعون» في مدينة تورناي.
نُفِّذ العمل في القرون الوسطى المتأخّرة، التي خبرت المجاعات والأوبئة، واندلاع الحروب الأهلية مراراً؛ وقيام انتفاضات اجتماعيّة هنا وهناك؛ إضافة إلى شيوع ما يعرف بالهرطقة الدينية. وأدَّى العدد المنخفض نسبياً للمصابين بوباء الطاعون بين اليهود، إلى تحكّم ما يعرف اليوم بـ«نظريّة المؤامرة»، وعمل ذلك على اتهام اليهود بتسميم الآبار وتلويثها بالطاعون عمداً، وفي أحسن الأحوال اعتبر وجودهم تجسيداً للشرور بين الساكنة «المؤمنة»، فتعرَّضوا للملاحقة والاضطهاد الأوروبي حينئذٍ.
حافظت الكنيسة على الانفعال الروحي المشبوب باستمرار، وكان من أهم ردود الفعل على جائحة «الموت الأسود»، بث عقيدة هروبية من العالم، فاصطبغ الفنّ بالروح الدينيّة. وبالعودة إلى رسم «دفن ضحايا الطاعون» نعثر على فضاء قبري، حيث لا شعائر ولا مظاهر دينيّة ولا دنيويّة، فنحن أمام الآلة الجهنمية للموت الخالص، حيث لا رحمة إلهية ولا شفقة بشريّة. ويكاد المتلقّي أن يشعر بانعدام الهواء في المنمنمة، مكان لا عمق فيه، ولا منظور، الخلفية مسطَّحة وزخرفية بحتة على بساطتها. وتبدو الصورة المؤطّرة كما لو أنها نعش هي الأخرى، ولا تواصل بين الشخوص التي تتصدّى لمُهمّة الدفن. والانفعال يتأتَّى من التكرار، ومن خلال الخطوط المتوازية للأجساد المنحنية، والحركة المبرمجة للشخوص، كذلك توازي التوابيت في قافلة تأخذ طريقها إلى الجبّانة. ويمكن ملاحظة الميل إلى التبسيط والتعميم، ومعالجة تصوير الجسم بطريقة تبدو فيها الشخوص أشبه بظلال، لا حجم ولا ثقل لها بسبب غياب المنظور. كما أن هناك عدم اهتمام بما هو ذاتي وحسي مميّز في الشخوص المصوّرة، بل تكاد تستنسخ نسخاً كما التوابيت التي تُحمل إلى اللحد. كلّ شيء ظاهر في اللّوحة، ومنجز بوضوح وبألوان فاتحة نسبيّاً، وتفوح من الرسم رائحة حلوليّة الموت، ونظرة سكونيّة ميتافيزيقية متعالية عن الحياة الدنيا، يتحوّل معها فعل الدفن لفعل صارم، لا إمكانية فيه للتحرُّك بحريّة، أو حتى النظر جانباً، ولا خروج فيه عن الانضباط أو الانتظام أو التكرار، ليقول بالترفع عن الأمور الأرضية الفانية، فموت الإنسان المادي يعني يقظة الإنسان الروحي المستقيم.

كلّ ذلك يبرر سطوة الموت التي عمّت في أواخر القرون الوسطى، ويعثر على أفضل تعبير لها في الرسم الشعبي الموسوم بـ«رقصة الموت»، والذي أعيد رسمه مراراً وتكراراً في جميع أنحاء أوروبا. وفيها مشهدية غروتسكيّة لهيكل عظمي (مجاز الموت)، يدعو شخوص من فئات دينيّة، واجتماعيّة، وعمريّة، متنوِّعة للرقص معه حول أحد القبور. تتغيا الصورة تذكير البشر بأنهم سواسية في الموت، بأن مسرات الحياة الدنيا ومباهجها إلى زوال، وعلى الجميع الاستعداد للموت الكوني. ومن شدّة تأثير فكرة «رقصة الموت»، فإنها كانت عابرة الأشكال والأجناس الأدبيّة والفنيّة، وتجلّت في التصوير والحكاية والشعر والمسرح، وكانت تُؤدّى في العروض الدينيّة والاحتفالات التي كانت ترعاها الكنيسة مثل عيد الفصح. ومن بين العدد الهائل لتصاوير هذه الرقصة القبرية، أذكر الرسم القوطي الذي أنجزه عام 1493م الفنَّان الألمانيّ ميكائيل فولغيمون (1434-1519)، معلم الفنَّان آلبرخت دورِر. وفيها احتفالية تكاد تكون متهكّمة يفيض منها حسٌ ساخر، يتحدّى نزيف الموت في التصاوير الكنسية بالتآلف الهزلي مع الموات. يُراعى في رسم الهياكل العظمية محاكاة الواقع، وتبدو كما لو أنها رقصة أحياء يتلبَّسهم الموت الذي يحتفون به. وفي العصر الحديث ماتزال «رقصة الموت» تُؤدَّى في الكرنفالات التي يتواشج فيها الدينيّ مع الدنيويّ في وحدة لا تنفصم، وفي معرض الحديث هنا نتذكّر معاً فيلم «الختم السابع»، الذي اقتبس فيه انغمار بيرغمان «رقصة الموت» كي يسدل الستار على الحبكة الفلميّة.
في عام 1411م، وتحديداً في الكتاب المُقدَّس المعروف بمخطوطة Toggenburg (سويسرا)، وتعرف بـ«الوباء في مصر في مخطوطة الكتاب المُقدَّس في توغينبروغ»، نعثر على منمنمة تتناول الطاعون الأسود، وفيها ينقلنا فنَّان مجهول الهويّة إلى حجرة منزلية، يستلقي فيها رجل وامرأة على فراش المرض، ويرافقهما شخص يبدو أنه طبيب يقوم بتعطير الهواء، فقد كان يعتقد بأن الطاعون ناتج عن الهواء الفاسد أو الأبخرة السامة. تبدو المنمنمة أقرب إلى الصورة التوضيحيّة حول الأعراض السريريّة للمرض، رغم أنها مندرجة في الكتاب المُقدَّس، كي تشير إلى الوباء السادس في مصر الفرعونيّة، والموصوف في سفر الخروج (9: 8 – 9). ومن الواضح، أن الفنَّان استمد المادة الخام لمنمنمته من سياق عصره، وواقع الموت الأسود المنتشر في أوروبا. ومن اللافت للانتباه أن المصابين في المنمنمة، على ما يبدو، يشعران بالحمى، الأمر الذي يبرِّر كشف أجزاء من بدنهما من تحت الملاءات في الرسم، وبجسد طافح بالدمامل والبُثور (الطاعون الدبلي). من جانبٍ آخر يلاحظ أن الطبيب المعالج لا يرتدي أي لباس واقٍ خاص، فالمعرفة الطبيّة لم تكن قد توصلت إلى علاج الطاعون، واقتصرت على تشخيص المرض واللجوء لوصفات سحريّة ورجاءات إعجازيّة. وفي معرض الحديث هنا نذكر أن استخدام الزي الواقي المُميّز لأطباء ومعالجي الطاعون لن يتحقَّق إلّا في القرن السابع عشر كما سنرى لاحقاً. بيد أنهم في هذه المرحلة كانوا يتمتعون بأهمّيةٍ كبيرة، وتمّ منحهم امتيازات خاصّة، وسُمح لهم بإجراء عمليات التشريح للبحث عن علاج للوباء، ذلك أن هذه العمليات كانت محظورة في عموم أوروبا القروسطية.
في عام 1499م أنجز الفنَّان الهولنديّ المُولد «جوزي ليفيرنكس Josse Lieferinxe»، لوحة «القديس سيباستيان يتوسط لدى الرب في إحدى الأوبئة». لا يعرف الكثير عن حياة جوزي ليفرينكس، باستثناء أنه مارس الرسم في جنوب فرنسا في أواخر القرن الخامس عشر، واختصّ بإنجاز لوحات مُصَلَّيات ومذابح الكنائس والأديرة. ولوحته المذكورة نفذت لتزيين المذبح المُخصَّص للقديس سيباستيان في إحدى كنائس مرسيلية.
كان القديس سيباستيان، الذي يُشار له في العنوان، ضابطاً رومانيّاً شاباً، استُشهد رمياً بالسهام في عهد الإمبراطور ديوكلتيانوس للدفاع عن إيمانه المسيحيّ. وربطت سيرة القديس مع الوباء في القرن السابع، أثناء تفشي الوباء في مدينة بافيا الإيطاليّة، حيث تقول سيرة القديس الكنسيّة، إنه تمّ العثور على رفاته حينها، فنقلت وكرمت بدفنها في إحدى الكنائس، الأمر الذي تمخض عنه توقّف الوباء للتو بأعجوبة. وما أن ذاعت هذه السردية الكنسيّة، حتى تمتّع القديس بشعبيّة كبيرة في إيطاليا، ومنها في جميع أنحاء أوروبا مع انتشار الأوبئة، لدوره الإعجازي في إنهائها على اختلافها وتنوّعها وتلوّنها وشدّتها.
وفقاً لجماليات الفترة التي أنجزت فيها اللّوحة، يظهر القديس سيباستيان في الجزء السماوي من اللّوحة، وقد غطت جسمه السهام التي تستدعي استشهاده وتحديد هويّته. يركع القديس في حضرة الرب، ليتوسَّط ويتوسَّل من أجل إنهاء الوباء. في الأسفل مباشرة، تدور المعركة المجازية، التي توجز علّة الوباء بمقتضى الرؤية الدينيّة القروسطية، ألا وهي المعركة بين الخير والشر، ذلك أن العقيدة المكرسة وقتئذٍ اعتبرت أن الأوبئة هي نتاج الانزياح عن الصراط الكنسي، وبالتالي فهي عقاب إلهي. ولكن في الوقت نفسه، تُترك فسحة أمل من خلال العودة إلى الإيمان والتطهر والاستقامة لإنهاء العقوبة المفروضة.
كالعادة في هذا النوع من التصوير، يحتلّ الجزء السفلي الدنيويّ القسم الأعظم من الرسم، ويتوافق في اللّوحة مع مدينة أفينيون الفرنسية أثناء إصابتها بوباء الطاعون. ويركّز على العمل الذي يقوم به الرجال في نقل جثامين الضحايا. ويهب الفنَّان حسّ الزمن المُتحرّك بكيفية توظيف المنظور، الذي يكسب المكان عمقاً، وبعداً ثالثاً يقسّم أرجاء المدينة إلى داخل السور، ثم باب المدينة، فخارج السور، حيث يجري الدفن في البعد الأقرب من المشاهد.
ترصد عين المتلقي تحرُّك الزمن، مع تحرُّك الموكب الدائم من الجثث، بفعل توافدها وتدفُقها في أبعاد الرسم المُتتابعة. لنلاحظ معاً، في خلفية المشهد الأعمق (داخل السور)، يمكن تمييز رجلين يجران جثة ملفوفة بالكفن، ومن ثمَّ في وسط التكوين، تحت قوس مدخل المدينة، تُرى عربة محملة بالجثامين، وفي مقدّمة اللّوحة (خارج سور المدينة) يتمُّ إلقاء جثة مكفنة في مقبرة جماعية، أودعت فيها جثث سبقتها للموت، ويقع هذا المشهد الذي يحتلّ معظم اللّوحة عند تخوم كنسية أو دير، حيث يجري الكهنة مراسم دينيّة. وفي الطرف المقابل حشد بشريّ مكتظ يعطي فكرة عن السلوكيات البشريّة المختلفة، ورود أفعالها الكونية وهم يواجهون الكوارث: الدهشة، أو الفزع، أو الهستيريا أو اليأس والتسليم.
كما أن الفنَّان يعمد إلى تأكيد حركة الزمن، والإحساس بسيرورته في لحظة فاصلة بين الموت والحياة، فقبل أن يودع أحد الحمّالين (اللحّاد) الجثة في القبر، يسقط فريسة للوباء، يدل على ذلك ظهور دمل أسفل الرقبة، وهي خاصية نموذجية للعدوى التي يسببها الطاعون الدبلي. كلّ ذلك يستدعي أن ينقّل المتلقي بصره في هذا الموكب الزمني، كشاهد ومشارك فيه معاً. وبذلك، نكون مع أوّل الخطو نحو الإيهام التصويريّ، أي نحو تداخل الواقع الفنيّ الجماليّ مع الواقع العياني التجريبي؛ إيهام سيكون له النصر جماليّاً في أَوْجِ عصر النهضة.
من جانب آخر، إن توسط القديس سيباستيان لدى الرب لرفع بلاء الطاعون، لا يعني أنه الحامي والشفيع لمرضى الوباء، ذلك أن الكنيسة منحت هذه السمة للقديس روش. يعرف القديس روش المولود في مونبيليه الفرنسية في القرن الرابع عشر. وتشير سيرته الكنسيّة إلى رحلة حج إلى إيطاليا، كرس فيها نفسه لمساعدة المصابين بالطاعون، فأصيب هو نفسه ومن ثمَّ تماثل للشفاء بعد أن أطعمه كلب بالخبز الذي أخذه من صاحبه. لذلك يمكن التعرف عليه في الرسم بزي الحاج الذي يرتديه والكلب الذي يرافقه. ويمكن أن تلمس قدسيته في لوحة «القديس روش شفيع ضحايا الطاعون» (1623)، للرسَّام الفلامنكي بيتر بول روبنس (1577 – 1640). في اللّوحة ينقل روبنس المتلقّي، إلى اللحظة الحافلة الحاسمة آن توسيم القديس روش شفيعاً.
يحافظ الفنَّان على التوازن الكلاسيكيّ في توزيع مكوِّنات الرسم، ويعتمد هرميّة شكليّة مضمرة في التكوين. في المستوى الأعلى من اللّوحة، ترى الشخصيات الرئيسيّة فوق منصة، أشبه ما تكون بالركح المسرحي: المسيح إلى اليمين، ملفوفاً في قماش قرمزي، وهو ينحني نحو القديس، بينما الملاك إلى اليسار يحمل قرطاساً كُتب عليه باللاتينية: «أنت شفيع المصابين بالطاعون» Eris in peste patronus؛ بينما القديس روش، وكلبه إلى جانبه، راكعٌ بينهما، يلتفت برأسه وجسمه نحو السيد المسيح.
في المستوى الأدنى من اللّوحة، يشحن الرسّام الانفعال، ويشدّد دراميّة المشهد في ست شخصيّات تومئ إلى معاناتها، وتتوسّل طالبة الحماية والشفاعة من القديس. هكذا، قدَّم روبنس مشهداً يومياً، يقوم على وحدة الموضوع والمكان، مشهداً لا يترفّع فيه العلوي عن النزول والاقتراب من الدنيوي.
أما في لوحة «ساحة السوق في نابولي أثناء الطاعون» (1656)، للفنّان الإيطالي «دومينيكو غارجيولو Domenico Gargiulo» (1609-1675)، الرسّام الباروكي بامتياز، الذي اشتهر برسم المناظر البانورامية للمدينة، حتى أن رسومه تحمل بعداً توثيقيّاً لكثير من أحداث عصره، وتهجس برسم الحشود البشريّة. وفي اللّوحة ينقلنا الفنَّان إلى سوق نابولي، الحيز المكاني الذي يلخص انهيار التجارة، وسوق العرض والطلب في المدينة، وقد استحال إلى ساحة يتمسرح فيها الموت في مشهديّة كارثيّة مروّعة.
تتنوّع مكوّنات الحشد البشريّ المديني في السوق اجتماعيّاً، وجنسيّاً، وعرقيّاً. ويعكس العمل مخاوف وآلام السكّان وفجيعتهم. بعض الأصحاء يحاول مساعدة المرضى، بينما يحاول الآخرون إزالة الجثث المُتكدّسة، ومن اللافت للانتباه أن البعض منهم يغطي الأنف والأفواه بقطع من القماش، بسبب الاعتقاد أن الجثث تنقل العدوى. وكما هو مألوف في الفنّ الباروكي الذي لا مجال للفراغ فيه، تمتلئ ساحة السوق بالتفاصيل التي تتمحور حول الخطيئة والموت، ومع ذلك، ورغماً عن الكارثة، هناك دائماً بارقة أمل، كما يظهر في الجزء العلوي من التكوين، حيث تتوسَّط شخصيّة نيابة عن السكّان لرفع البلاء.
عند هذا المنعطف الكونولوجي، سوف أتطرّق إلى النقش النحاسي المعنون «طبيب الطاعون» (1656)، الذي يرجّح أنه من إنجاز النقّاش والناشر الألمانيّ «بول فورست Paul Fürst» (1608-1666). وظهر الرسم مرافقاً لقصيدة ساخرة تهكميّة، مكتوبة باللاتينية والألمانيّة. وفيه ينتصب الطبيب بقامته محتلاً الرسم بالكامل، وفي العمق الخلفي تلوح مدينة، وأشخاص يفرّون من أمام طبيب بزيه المُميّز حين التعامل مع مرضى الطاعون. تتكوّن البدلة الواقية من الوباء، والتي لا تختلف مبدئياً عن البزة المُستخدَمة في الأوبئة المُعاصِرة، من جبّة سوداء منسوجة من قماش سميك تمَّ تشميعه، وقفازات وقبعة من الجلد نفسه، وقناع مزوَّد بعدستين بلوريتين لتغطية العيون، وأنف على شكل منقار مخروطي له فتحتان، ويُحشى عادة بالنباتات العطرية والقش والتوابل، ويوظَّف ككمامة لتحمُّل الروائح العفنة. وبسسب هذا الأنف المنقاري في القناع عُرف الطبيب شعبياً بـ«Doctor Schnabel»، ومعناها الحرفي «الدكتور منقار». يحمل أطباء الطاعون عادةً قصبة طويلة تساعدهم في فحص وتحريك الموبوئين دون الحاجة إلى لمسهم والاتِّصال المُباشر معهم كما هو جلي في الرسم. وقد استخدم اللباس الواقي لأوّل مرّة في نابولي عام 1620، ومنها انتشر لعموم أوروبا.

من كلّ ما سبق، نصل للقول إلى أن المصابين بالوباء في التاريخ الأوروبيّ، لم يكونوا سواسية فنيّاً من حيث توفر «العناية الإلهية» أو الرعاية الصحّية؛ بل وجد من شكّل هامش الهامش في التاريخ الفنيّ باستمرار. مع هذه الفكرة نكون قد اقتربنا من لوحة فرانثيسكو دي غويا (1746 – 1828) الموسومة «عنبر الموبوئين» (1792). ينقلنا الفنَّان الإسباني إلى مطرح داخلي كهفي بارد في مشفى مفترض، أو عنبر مخصّص للمصابين بوباء لا يأتي على تحديده، ويصوّرهم، على اختلاف فئاتهم العمريّة والجنسيّة، ضحايا العزلة والتخلّي المؤسف، وقد تراكموا في العنبر المقبب، وتكدَّسوا مع وحدتهم ليواجهوا فظائع المعاناة والاحتضار والموت. ويتفاقم الانفعال في اللّوحة، مع محاولة أحد المصابين مساعدة آخر بإعطائه شربة ماء، أو لمسة عزاء وسلوان (أو عساه فرد آخر من الهامش، خاطر بحياته وآثر تقديم العون)، وأنوفهم مغطاة كي تتحمّل الرائحة الدفراء للأجساد العفنة.
يعكس الفنَّان في تكوين اللّوحة مناخ الحبس القمعي، لما يُدعى الحجر الصحي في زمنه، حيث يتمُّ إقصاء أفراد الفئات الشعبيّة من المُتضررين إلى مكانٍ قذر، ويقطع اتِّصالهم مع العالم الخارجي. نحن أمام سجن يكثّف معنى عذاب هذه الجماعة، سواء الجسدي الذي يتعرّضون له بفعل الوباء، أم العاطفي بسبب فقدان الرجاء الدنيويّ والشفيع السماويّ، فكلاهما غائب عن الحضور في هذا العنبر، ما من شيء يعلن الحضور من الخارج، أو الماوراء، باستثناء ضوء غبش يخترق النافذة يكثّف معنى الخارج النائي القصي، على حساب ترميز أمل بارق. تتبدّى لوحة غويا، التي ينسرب من مشهدها معنى الوحدة، والهجران والإحباط والفزع واليأس، على طباق مع لوحة روبنس السابق ذكرها، حيث العناية الإلهية الرحيمة والشفاعة، منبثة في العالم وغير منقطعة عنه. من هنا يبدو التشاؤم اللامتناهي على مصير مرضى غويا السجناء.
من تصوير الهامش عند غويا، ننتقل لخطاب المركز الجماليّ الذي تعكسه لوحة «زيارة بونابرت لضحايا الطاعون في يافا» (1804) للفنَّان أنطوان جان غروس (1771 – 1835). تصوّر اللّوحة زيارة نابليون للموبوئين من أفراد جيشه في مدينة يافا (عام 1799)، وتندرج ضمن الكلاسيكيّة الجديدة التي كرّست كمدرسة تصويريّة مع انتصار «العقل»، وتحديداً مع تبني نابليون للمدرسة الكلاسيكيّة الجديدة كممثّلة رسميّة للثورة، بعد إنجاز جاك لوي دافيد لوحته «قسم الأخوة هوراس» (1784)، على اعتبار أن هذه المدرسة الفنيّة صالحة لتمثيل الأيديولوجيا القائمة على فكرة السُّلطة المركزيّة. ومن جانب آخر، يقود التمعُّن في غائية لوحة غروس (تلميذ دافيد) إلى القول بملاءمة تصنيفها تحت الفنّ الاستشراقي بامتياز.
عرض غروس لوحته في المعرض الفنيّ لعام 1804، فلاقت استحساناً من قِبل أصجاب الرأي والمشورة من النُقَّاد، ممّا أدّى للاعتراف به كفنَّانٍ مكرس. ولذلك ليس بمستغرب أن يكلف من قبل نابليون لتصوير واقعة مهمة، يُقال إنها جرت أثناء الحملة على مصر.
يشكّك المُؤرِّخون بحدوث الواقعة كما تصوِّرها اللّوحة، من ناحية محاذاة بونابارت لضحايا الطاعون، ومدّ يده بدون قفاز ليتلمس خراج أحدهم، غير عابئ باحتمال انتقال العدوى له، ويُقال إن عدداً من جنرالات الجيش ممَّنْ أتى على كتابة مذكراته وتوثيق الحملة ينفي الواقعة جملةً وتفصيلاً، والبعض الآخر يكتفي بأن نابليون مرّ مرواً خاطفاً من المكان المُخصَّص للحجر الصِّحيّ ولم يتوقَّف عنده. وللتعرُّف على أهمِّية إنجاز اللّوحة في سياق تلك المرحلة، لابدّ من الإشارة إلى أن نابليون كان يثبت سلطته في الجمهورية الفرنسيّة، بغية القيام بانقلاب عليها، وتحويلها إلى إمبراطورية (1804) تهدف إلى التوسُّع الاستعماري.
في ذلك الوقت كانت سمعة نابليون بونابارت قد انتابها بعض التآكل في الصحافة الفرنسيّة، إثر هجوم الصحافة الإنجليزيّة المُعادية له، بسبب سلوكياته العسكرية في الحملة على مصر، ومن ثَمَّ هزيمته.
من هذه السلوكيات المُشوِّهة لسمعته كقائدٍ عسكريّ، وكما أثبتت بعض السير التي تناولت نابليون، الأوامر التي أصدرها نابليون بحق قتل الأسرى من حامية يافا (يُقدَّر العدد بحوالي 3000 أسير) لعدم قدرة الحملة على توفير الرعاية والغذاء لهم فضلاً عن تكاليف الحراسة.
كذلك مع استئناف الحملة، وضرورة تحرُّكها بعد مرحلة احتلال يافا، تؤكّد الكثير من المراجع أن نابليون طلب من الأطباء المرافقين لقواته المسلحة، دسّ السم (الأفيون) للجنود المرضى بالطاعون، كي لا يشكِّل وضعهم الصِّحيّ عائقاً أمام تقدُّم الحملة. كثير من المُؤرِّخين لا ينفي هذا الأمر، ويطلق عليه ما يُسمَّى في راهن اليوم بـ«القتل الرحيم». وفيما يبدو أن بعض الناجين من هؤلاء والمتروكين في يافا، وقعوا في يد القوات الإنجليزية لاحقاً، وأسرُّوا بما حصل معهم، وانتشر الخبر في الصحافة الإنجليزية. لهذا كلّه، كان نابليون يودُّ أن ينظّف سمعته المتردّية بعد الحملة على مصر، وأثناء الانقلاب الإمبراطوري، وخير أداة عثر عليها كانت الفنّ؛ فنّ السُّلطة.
يستدعي الرسَّام العمارة الأندلسيّة بأقواسها المُميّزة، ويغيب الطراز الإسلاميّ المعروف في فلسطين حينئذٍ. ربَّما لمعرفته بالآثار الأندلسيّة، أو لأن ذلك كان ينسجم مع إعادة اكتشاف الأندلس التاريخيّة، وأسطرتها، واستعادة انهيارها في السرديّات الكبرى الأوروبية في القرن التاسع عشر. في اللّوحة؛ يموضع الفنَّان المشهد في حرم مسجدٍ تدل عليه مئذنته، وقد استحال إلى مشفى ميدانيّ مرتجل، أو بالأحرى مكان للحجر الصِّحيّ. في الخلفية، تتبدَّى أسوار المدينة التي تهدَّم أحد أبراجها، بينما يرفرف العلم الفرنسيّ فوق إحدى أعاليها الراسية قرب دخان متصاعد. ومن جهةِ اليمين يمكن تمييز مرفأ المدينة الاستراتيجيّ بالنسبة للقوات الفرنسيّة.
يعلّم الفنَّان الفضاءات السينوغرافية في اللّوحة باستخدام نور يغمر قسماً منها، وظلال تخيّم على القسم الآخر، ويموضع بونابارت في مركز اللّوحة المنار، مع المصابين بالوباء، وجنرالاته الذين يغطون أنوفهم من رائحة تزكم الأنف. في الجزء المغمور بالضوء تصوِّر أجساد الموبوئين بمراعاة المعيار المثاليّ الأكاديميّ، وتعلن أبدانهم العارية عن نفسها، بعضلاتها المتبدية، كمنحوتاتٍ رومانية، على العكس من أجساد المصابين المتواجدين في الجزء الذي يخيّم عليه الظلّ، قرب الشخوص العربيّة التي توزِّع الخبز، أو الزنجيين اللذين يعينان على نقل الجثث (على الأغلب يريد الرسّام بهما الإشارة إلى العبودية في«الشرق»). على هذا النحو، يغرق كلّ ما هو متواجد في الظلّ تدريجيّاً في عتمة دامسة الأمل، حتى الغياب في الموت.
يقدِّم غروس شيخاً، أو طبيباً عربيّاً، يأخذ عيِّنة من القيح بخدش دملة المُصاب، كإشارة منه لاستخدامه كلقاح لبقية أفراد الحملة (يأخذ المرء القيح من المريض ويتمّ إدخاله في دم شخص غير مريض). ولكن تاريخ استخدام اللقاح يدل على أن هذه الطريقة لم تكن مستعملة سنة 1799، الذي صادف زيارة بونابارت لمصابي يافا، كما تشير اللّوحة، ولم يكن الأطباء المُرافقين للحملة على مصر على علم بها آنئذٍ، ولم يعمل بها في فرنسا إلّا عام 1800، لمحاربة الطاعون.
ينتصب بونابارت في مركز التصوير، كما لو أنه المحراب الذي تتوجَّه له اللّوحة ضمنيّاً كمعارضة استشراقيّة للمسجد. يشاهده المتلقّي وقد خلع قفازه؛ وباقدام،ٍ ودون خشية يلمس دمل الجندي المريض في إبطه، على نحوٍ معاكس لتهيُّب وخشية ضابطيه المُرافقين، اللذين يحاولان إبعاده عن الاتِّصال بالمريض، لتجنُّب تعرُّضه للعدوى. من وجهة النظر هذه يعلن نابليون عن نفسه كقائدٍ شجاع مغوار في ظاهر اللّوحة، ويستبطن فعله، استخصار الاعتقاد في العصر البائد قبل الثورة الفرنسية، بالقدرة الشفائية وبركة لمسة الذات الملكيّة، ولا ننسى هنا أن نابليون كان يحضِّر نفسه للقب الإمبراطور..
مع هذه اللّوحة، حقَّق غروس نجاحاً ملحوظاً، وأثبت نفسه كرسَّام يدور في فلك السُّلطة. وأثارت اللّوحة ضجة كبيرة في وقت عرضها في باريس، وأثنى عليها الفنَّانون والنُقَّاد، وأشادوا بمحاكاتها للواقع، وسلامة الذوق السليم فيها، والصدق في التصوير، وتوثيق حقائق الشرق. مع كلّ ذلك، لا يجانب الصواب القول إن اللّوحة هي التعبير الأصدق عن كيفية استخدام الفنّ عامّة، وموضوعة الوباء خاصّة، في الدعاية والبروباغاندا المُكرّسة لعبادة الفرد القائد الإمبراطور.
بالانتقال إلى نهاية القرن التاسع عشر، نتوقّف عند لوحة «الطاعون» (1898)، للفنَّان السويسري «آرنولد بوخلين Arnold Böcklin» (1827-1901). يعبِّر الرسَّام بأسلوبه الرمزيّ المفرد الذي عرف به، عن كابوس الوباء المتواشج مع الموت. تظهر في اللّوحة بلدة، يتحدَّد دربها الرئيس باستخدام المنظور، بيد أنه منظور لا ينتهي عند نقطة التلاشي الهندسيّة المعروفة، بل يتلاشى هو نفسه في ضبابة بيضاء، أو غبشة غير واضحة المعالم، أو عماء عدمي السيمياء مجهول الماهية. وعلى هذا الدرب الحضريّ يجسِّد الفنَّان الوباء كمخلوقٍ خرافي، هو مزيج من الخفاش والتنين (لنقل تنين وطواطي)، يخبط خبط عشواء، ويمتطيه الموت بمنجلة، على نحوٍ يعاكس اتجاه الحركة الوطواطية.
يتقدَّم الخفاش التنيني مع الدرب والزمن، بينما الموت يطال مَنْ تبقى على الطريق حيّاً. تغمر اللّوحة الألوان الطبيعيّة خاصّة البني الترابي، ويترك الرسَّام الأسود الداجي لرداء الموت وجسد الخفاش (الوباء)، والأسود المخضر لجسد الموت (لون التعفن)، والأبيض الملوث للعماء في العمق، والأبيض الناصع لفستان العروس في مقدِّمة اللّوحة (رمز الطهارة)، واللون الحيويّ الوحيد يتركه للمرأة التي كبت على وجهها، وقد انسدل شعرها الفاحم. ومن اللافت للانتباه أن الرسَّام لم يحدِّد للموت ملامح تشير لماهية جنسه، لا هو بأنثى ولا بذكر، هو ما هو، يتموضع إلى ما وراء المرئي ويتستر بالرمز.
على هذه الشاكلة، فإن حركة الموت، الفارس الذي يمتطي الوباء، تغزو اللّوحة بأكملها، بيد أن حلوليّة كابوسيّة تلفّ المشهد بسكونيّة مُطلَقة، ولا يمكن التكهن بما هو خلف الضبابة. ويبقى السؤال، هل كان الفنَّان يساجل فكرة التقدُّم المُنتصرة في عصره؟
مع لوحة «الوباء» لآرنولد بوخلين، تتوقَّف سطوري التي أتقاسمها مع القارئ، وأنا أكتب في الحجر الصِّحي، بينما الوباء أضحى حاضراً كونيّاً يحيق بنا أجميعن… عسى أن تكون في التجربة عظةٌ نحو عالمٍ أكثر عدالةً ومعرفةً وحسّاً إنسانيّاً!