جيني أوديل: أسطورة الاعتماد على الذات (مصادفتي لمقالات إيمرسون)

| 15 فبراير 2021 |
توجد في الحيّ الذي أعيش فيه مكتبة، كأنها وضعت هناك بشكل ماكر، بحيث لا يمكنني مغادرة شقَّتي للذهاب إلى أيّ مكان، تقريباً، دون أن أمرّ بمحاذاتها، اسمها «والدن بوند بوكس»، وهي مجاورة للمقهى الذي أرتاده عادةً، وحتى لو لم أقرِّر دخولها عند مروري بها، للوهلة الأولى، فربَّما أفعل عند مروري بها ثانيةً. والعديد من مراجع كتابي، «تعلَّمْ ألّا تفعل أيَّ شيء: مقاومة اقتصاد الانتباه»، صادفتها هناك، في كتب، منها: «جَدْلُ العُشب الحُلو-Braiding Sweetgrass»، و«تعويذة الحسّي-Spell of the Sensuous»، و«عبقريّة الطيور – The Genius of Birds». لقد كان تأثير تلك المكتبة قويّاً جدّاً؛ إذ جعلني أعتبر كتابي، عندما أراه معروضاً هناك، فطراً نما فيها.
في تشرين الأوَّل (أكتوبر) الماضي، وجدت نفسي في المكتبة، أنظر إلى طبعة لكتاب «مقالات» لـ«رالف والدو إيمرسون»، أصدرتها «دار ﭬينتيدج بوكس»، عام (1990). وبما أنني لم أكن قد قرأت الكثير من كتب «إيمرسون»، حتى بصفتي متخصّصة في اللّغة الإنجليزية، فقد انجذبت، سريعاً، إلى ما كتبه عن الوقت والإدراك: «الطبيعة سحابة قابلة للتغيُّر، وهي هي لا تتغيَّر أبداً، ولا تكون هي نفسها أبداً»، وكانت المهمّة هي (اكتشاف) الفرد الثابت من خلال الذبابة، من خلال اليسروع، من خلال اليرقة، من خلال البيضة، والأنواعَ الثابتة من خلال عدد لا يحصى من الأفراد، والنوع من خلال العديد من الأنواع،؛ والنوع الصامد من خلال كلّ الأنواع، والوحدة الأزلية من خلال كلّ ممالك الحياة المنظَّمة. ألفيتها تحقِّق لي انتشاءً حَظِي باعترافي وإعجابي.
لم تكن قراءة مقالات «إيمرسون» تشبه قراءة كتب أخرى. لاحقاً، سألت أحد الأصدقاء، عندما حاولت وصف التجربة له: «هل سبق لك أن قرأت كتاباً جعلك تشعر كأنك في حالة سُكْر؟». أقوال «إيمرسون» قويّة، وإيقاعاته مذهلة، وجاذبيته لإرادة الفرد مغرية. أنا -عادةً- أقرأ بانتظام، أقرأ فصلاً في اليوم، وأضع وريقات ملوَّنة صغيرة كعلامة عند أهمّ الأقوال، ثمَّ أقوم، لاحقاً، برَقْن أكثرها أهمِّيّةً. لكن نسختي من كتاب «مقالات» لـ«إيمرسون» تحتوي على علامة واحد، فقط، في المقدِّمة التي كتبها «دوغلاس كرييز» (وهي اقتباس من «إيمرسون»: «يبدو أن الدرس الوحيد الذي يعلِّمنا إيّاه هذا العالم المعجز، ويعلِّمه للمقدَّس، هو أن نقف بمعزل، ولا نسمح لأيّ رجل أو أيّة عادة، ولا لأية طريقة في التفكير بأن يقتحموا علينا عالمنا، ويحرمونا من لانهايتنا»). بعد ذلك، دخلت في حالة انخطاف، أصبحت لا أفارق الكتاب، أضع خطوطاً تحت الأقوال، أو دوائر حولها، منكبّة عليه، ووجهي شديد القرب من الصفحة.
لقد كنت مهيّأة لفهم رؤية «إيمرسون» للتعالي. قبل شهر، كنت قد قمت برحلتي السنوية إلى محميّة مستنقع قرن الإلكة القوميّة عند مصبّ النهر شمال «مونتيري»، في «كاليفورنيا». كان هدفي المزعوم هو رؤية طيور الشاطئ المهاجرة، بما في ذلك طيور الرمل، التي تحتوي أسرابها الغامضة على أكثر من مجرَّد شيء قليل من المتعالي، كما كان هدفي، أيضاً، هو التعافي، وسماع نفسي وأنا أفكِّر. لم يسبق لي أن كنت أبداً شخصية عمومية، وقد فوجئت بالدعاية التي حظي بها كتابي «تعلَّم ألّا تفعل أيّ شيء». وسرعان ما وجدتني غارقة وسط كَمٍّ من الالتزامات والآراء التي أعقبت ذلك. أصبحت أشعر، أحياناً، بأنني لم أعد أعرف موضوع كتابي، أو ما الذي فكرت فيه، بالفعل، وقد شعرت بحاجة ماسّة إلى تقديم نوع من التوضيح.
بعد تجوُّلي في تلال مستنقع قرن الإلكة، إلى حين إغلاق المحميّة في الساعة الخامسة، قرَّرت -باندفاع- عدم العودة إلى المنزل مباشرةً. بدلاً من ذلك، اتَّجهت بسيّارتي ناحيةَ الشرق، وعلى الرغم من أن درجة الحرارة كانت (100) درجة، وكنت قد مشيت طيلة اليوم، فقد شرعت في صعود طريق شديد الارتفاع بالقرب من قمّة «فريمونت» في «سان خوان باوتيستا». كنت مدفوعة بأكثر من مجرَّد فضول؛ كنت أحاول التخلُّص من شيء ما. لم تكن هناك رحمة في جانب التلّ الجافّ والعاري من الأشجار، وفيه تهبّ ريح حارّة استمدَّت صوتها الخشن والمخشخِش من قطيع بقرات حلوب غريبة المظهر. شعرت بأنني ألهث لكي أستطيع التنفُّس؛ بالمعنى المادّي، وبالمعنى المجازي. عندما وصلت إلى قمّة الطريق، كانت الشمس قد بدأت تغيب عن سلسلة جبال «ديابلو» عبر الوادي، ملقيةً عليها بظلّ أرجوانيّ من عالم آخر. كنت مفعمة بمزيج متقلِّب من المشاعر. كتبت في دفتر ملاحظاتي، وقد بدأ عَرَقي يجفّ، أن «الألم الذي أشعر به هو محاولة الرغبةِ الإقدامَ على الفعل» وأن «الذات الحقيقية، إن تَمَّ تحريرها من القفص، ترفض أن تعود إليه مرّةً أخرى».
«الإرادة» التي كتبت عنها لم تكن إرادتي أنا، تحديداً، بل كانت إرادة فنّان، وتردُّداً خارج النطاق، يجب بذل مجهود كبير للإنصات إليه. تناولَتْ «مقالات» «إيمرسون» هذه الذات المستمعة، وحفَّزتها، وخاصّة مقالة «الروح المتعالية». شعرت بالانجذاب إلى أنموذجه اللاهوتي للتخلّي عن الذات، والتجلّي، وهو ما لا يختلف عن الطريقة التي وصفت بها الكاتبة -Simone Weil» الحبّ والاهتمام، أو الطريقة التي ينتظر بها الرسّام «أغنيس مارتن»، وحيداً، طيلة أيّام وأسابيع، من أجل رؤية الكمال. كتَبَ «إيمرسون» يقول: «تَهَبُ الروح نفسَها، وحيدَة، أصليّة وطاهرة، للوحيد الأصيل والطاهر الذي، بهذا الشرط، يستوطنها بكلّ سرور، ويقودها ويتحدَّث من خلالها». لقد أدركت اشتياقي للوضوح المطلق، ورحلتي التي تقطع الأنفاس، في وصف «إيمرسون» لـ «ارتقاء الحال»، حيث «مع كلّ دافع إلهي يمزِّق العقل قشرة المرئي والمحدود الرقيقة، ويخرج إلى الخلود، ويلهم أجواءه وينهيها».

(1803-82)
«الروح المتعالية» هي مقالتي المفضَّلة، لكن «إيمرسون» اشتُهر بـمقالة «الاعتماد على الذات»، تلك المقالة الشهيرة التي يمجِّد فيها الفردانية، المقالة التي يعلنُ فيه «إيمرسون» أنه «مَنْ يريد أن يكون رجلاً عليه أن يكون مخالفاً للآخرين»، ويحتقرُ المجتمعَ، باعتباره «شركة مساهمة، يتَّفق فيها الأعضاء، من أجل تأمين الخبز، بشكل أفضل، لكلّ مساهم، على أن يتنازل الآكِلُ عن حرِّيّته وثقافته». مرّة أخرى، نجد الكتابة هنا مغرية، فأيّ شخص يمضي على غير هدى، في هذا العالم، سيشعر بالطمأنينة حين يسمع: «لا شيء يمكن أن يجلب لك السلام غير نفسك»، أو أن الإرادة العقلية يمكن أن تنتصر على القدر. يمكن أن يكون الأمر بهذه البساطة حقّاً: «في الإرادة، اعمل واكتسب، فبذلك تقيِّد عجلة الحظّ، وبعد ذلك ستركن للجلوس خوفاً من أن تعود للدوران». لم أكن محصَّنة ضدّ هذا المقال. لقد وضعت سطراً تحت «الرجل العظيم هو الذي في وسط الحشد يحافظ، بكلّ لطف، على استقلالية العزلة». ولكني كلّما نظرت إلى هذه الكلمات، لاحقاً، دخلت في صراع مع نقطة المقال الغامضة. لم أدركها على الفور، لأن تلك النقطة الغامضة كانت نقطتي أنا، أيضاً.
بدأ الصراع عندما عدت إلى المنزل للاحتفال بعيد الشكر. تكون تجمُّعات عائلتي صغيرة: نجتمع أنا ووالدي وعمّي في منزل جدَّتي، وهو واحد من مجموعة منازل صغيرة مخصَّصة للمسنِّين. هذا العام. ما إن دخلنا إلى المنزل حتى واجهتني معضلة. التحقت والدتي، على الفور، بجدَّتي في المطبخ، بينما عبر والدي فناء المنزل إلى غرفة كان يجلس فيها عمّي. عندما سألت أمّي عمّا إذا كانت تحتاج إلى المساعدة في المطبخ، طردتني؛ لذلك توجَّهت إلى الفناء الضيِّق لأنتظر على هامش حديث يدور حول الانتخابات التمهيدية المقبلة. هذا التقسيم مألوف لدى الكثيرين: النساء يعملن في المطبخ، والرجال يتحدّثون عن السياسة في الغرفة المجاورة.
اتَّكأتُ، بشكل محرج، على الجدّار، لأنه لم يكن هناك كرسيّ ثالث، واستمرَّ الحوار كما لو أنني غير موجودة هناك. جُلت بنظري في الغرفة، فوقع على لوحة مهمّة. كان هناك، على الرفّ، شيء لم أنتبه لوجوده أبداً: نسخة من رواية «النافورة» لـ«آين راند»، الرواية المفضَّلة لدى معتنقي الحرِّيّة الفردية. الشخصية الرئيسية هي مهندس معماري متمرِّد، عنيد، عصامي وحداثي، شاركه «إيمرسون» ازدراءه للمجتمع، واتَّبع نصيحته بكلّ تأكيد: «لا تسمح لأيّ رجل أو أيّة عادة، ولا لأيّة طريقة في التفكير أن تقتحم عليك عالمك وتحرمك من لانهايتك».
بجانب «النافورة»، كانت هناك، وسط إطار، صورة لنورَس أسود الرأس، مرسومة، بعناية، بقلم رصاص. بعد التحديق فيها لبضع لحظات، أدركت -أخيراً- أنني أنا التي رسمت تلك الصورة. تساءلت عمّا قد يكون دفعني لأن أرسم لجدَّتي طائر نورس أسود الرأس، طائر الساحل الشرقي الذي ربَّما لم أره أبداً، ثم أدركت أنني رسمته منذ سنوات، قبل أن أصبح مولعة بمراقبة الطيور. ربَّما كنت أبحث عن موضوع لطيف وعامّ للرسم، وبحثت عن «نورس بحري» على «جوجل»، فرسمت طائراً، بناءً على إحدى نتائج البحث، دون التمييز بين الطيور. (من الناحية الفنِّيّة، لا يوجد شيء اسمه «نورس بحري». هناك، فقط، أنواع مختلفة من النوارس.
بشكل غير متوقَّع، تجمَّد كلّ شيء في تلك اللحظة: الغرف المختلفة، الرسم، «النافورة»، «الاعتماد على الذات»، والنقد الذي رأيته حول كتابي «تعلَّم ألّا تفعل أيّ شيء». تماماً كما كنت قد أعدت رسم شكل النورس دون أن أعرف ما هو، رأيت أنني قد أخذت من عائلتي، ومن طريقة تنشئتها لي، نوعاً معيَّناً من الفردانية، وأنني أقوم بتثمينها ونقلها للآخرين دون أن أعلم. لقد فعلت ذلك طوال حياتي، وخاصّةً في كتابي « تعلَّم ألَّا تفعل أي شيء». حول صيغ العزلة التأمُّلية المفضَّلة لديّ، الشبيهة -إلى حَدٍّ بعيد- بعزلة «إيمرسون» التأمُّلية، برزت مجموعة كاملة من الظروف، مثل شيء أخذ يحتلّ بؤرة التركيز. وجود النساء في المطبخ جعل محادثة الرجال ممكنة، تماماً، كما ارتكزت رحلتي إلى الجبل، وكلّ الوقت الذي قضيته في المشي، والمراقبة، ومراودة «الروح المتعالية»، على قائمة طويلة من الامتيازات؛ من الخاصّة (امتلاك سيارة، امتلاك الوقت)، إلى العامّة (امتلاك قدرة جسدية، الانتماء لطبقة متوسطة عليا، نصفي من عرق أبيض والنصف الآخر «من الأقلِّيّة الناجحة»، وأن أقطن حيّاً أمشي فيه، بأمان، في المدينة التي أريد، وأكثر من ذلك). كانت هناك بنية تحتية أحاطت بتجربتي للحرّيّة، وكنت مشغولة جدّاً بالسعي وراءها إلى درجة أنني لم أرَها.
كنت قد شاهدت، في الليلة السابقة، وثائقي «حياة تحت المجهر» لـ «أسترا تايلر»، وهي سلسلة من المقابلات مع فلاسفة معاصرين، في أماكن مختلفة. بينما يظهر ضيوف الفيلم الوثائقي الآخرين بمفردهم، تتجوَّل «جوديث بُتلر» في مقاطعة «ميشن» في «سان فرانسيسكو» مع «سونورا تايلر»، الناشطة في مجال الإعاقة وحقوق الحيوان. وُلدت تايلور مصابة بمرض التهاب المفاصل، وهي تستخدم كرسيّاً متحرِّكاً للتنقُّل. في لحظة ما، تقول «بُتلر»، «أفكِّر، فقط … في أنه لا أحد يذهب في نزهة دون أن يكون هناك شيء يدعم ذلك الذهاب خارج أنفسنا، وأنه كانت لدينا -ربَّما- فكرة خاطئة، مفادها أن الشخص القادر، جسديّاً، يتمتَّع بالاكتفاء الذاتي بشكل كلِّي».
«تايلر»، التي تؤثِّر إعاقتها في استخدامها ليديها، أخبرت «بتلر» عن الوقت الذي عاشت فيه في «بروكلين»، وكيف تجد نفسها ملزَمَة بأن تقضي، في حديقة ما، ساعات من الإعداد النفسي؛ قصد الحصول على قهوة دون مساعدة. تقول: «إنه نوع من الاحتجاج السياسي، بالنسبة إليَّ، أن أدخل إلى المقهى، فأطلب قهوة، وأطلب المساعدة، لأن المساعدة -بكلّ ببساطة، في رأيي- هي شيء نحتاجه كلُّنا». بعد توقُّفهما في متجر لبيع الملابس العتيقة لشراء سترة لـ«تايلر»، لأن البرد أصبح قارساً، تعود «بتلر» للحديث عن هذه القصّة:
«أرى أن ما هو على المحكّ، هنا، حقّاً، هو إعادة التفكير في الإنسان كنوع يعتمد أفراده، بعضهم على بعض. وأعتقد أنه عندما تدخل المقهى… وتطلب القهوة، أو تطلب المساعدة للحصول على القهوة، فأنت -أساساً- تطرح السؤال التالي: هل نعيش في عالم، يساعد فيه بعضنا بعضاً، أم لا؟ هل يُساعد بعضنا بعضاً بخصوص احتياجاتنا الأساسية، أم لا؟ وهل الاحتياجات الأساسية قد وُجدت لنتَّخذ القرار بشأنها كشأن اجتماعي، لا كمسألة شخصية أو فردية تخصّني أنا أو تخصّك أنت، فحسب؟ إذن، هناك تحدٍّ للفردانية، يحدث في اللحظة التي تطلب فيها شيئاً من المساعدة مع فنجان قهوة. أتمنّى أن يتبنّى الناس ذلك، فيقول أحدهم: نعم. أنا، أيضاً، أعيش في هذا العالم… الذي أدرك فيه أن بعضنا بحاجة إلى البعض الآخر لتلبية احتياجاتنا الأساسية. وأريد تنظيم عالم اجتماعي، وسياسي على أساس هذا الاعتراف».
تذكَّرت هذا الحوار في ذلك المنزل الصغير، في عيد الشكر. جدَّتي، التي تتمتَّع بصحّة جيّدة، تَمَّ -مؤخَّراً- تشخيص مرض «باركنسون» لديها. بعد أن اجتمعنا كلّنا في غرفة المعيشة، أرتني جهاز الإنذار الطبّي (المعروف، أيضاً، باسم «زر الذعر») المعلَّق حول رقبتها، وأشارت إلى وحدة تحكُّم صغيرة في زاوية الغرفة، يمكن الاتصال بوالديّ، من خلال الضغط على الزرّ. قبل ذلك بأسابيع كانت قد سقطت في غرفة المعيشة هذه، وبما أنها لم تتمكَّن من التحرُّك أو الوصول إلى الهاتف، فقد ظلَّت مستلقية على الأرض، لساعات عديدة، إلى أن جاء والدي ليزورها كعادته.
فور علمي بقصَّتها، وبذلك الزرّ، انتابني الرعب ممّا قد يحدث كلّه. لقد جعل هذا جدّتي تبدو معتمدة على غيرها، بشكل فريد. ولكن، عندما فكَّرت في (زرّ الذعر) في سياق «تحدّي الفردانية» الذي طرحته «بتلر»، بدا لي وكأنه نسخة متقدِّمة وملموسة من حالة الاعتماد على الآخرين، بشكل أو بآخر، التي نعيشها منذ الولادة. إذا كانت جدَّتي، الآن، معلَّقة بهذا الخيط المحدَّد، فقد سلَّطتِ الضوء، ببساطة، على العديد من الخيوط الأخرى التي تبقينا كلّنا مرفوعين عالياً. لقد كان، أيضاً، توضيحاً مادِّيّاً قويّاً للطريقة التي يتمّ بها تقييد الحرِّيّة بواسطة عوامل خارجة عن سيطرة الفرد – «عجلة الحظّ» ذاتها، التي اعتقد «إيمرسون» أنه بوسعنا تجاهلها.
في عام (1930)، كتب «جيمس تروسلو آدامز»، الكاتب الذي ابتكر مصطلح «الحلم الأميركي»، مقالاً بعنوان «إعادة قراءة إيمرسون»، حاول فيه تفسير سبب إعجابه بمقالات «إيمرسون»، عندما كان شابّاً، ولكنه لمّا أصبح رجلاً وجدها فارغة. ويقول إن صورة الاستقلالية هذه تبدو سهلة للغاية، مشيراً إلى أن «الشرور الاقتصادية لا تزعج حكيمنا بتاتاً». يشير «آدامز» إلى أن اعتماد «إيمرسون» على نفسه كان جزءاً من تيَّار متفائل في الفكر الأميركي، كان مواكباً للوفرة المادِّيّة، والتوسُّع في اتِّجاه الغرب. وقد تمَّت، بالفعل، كتابة «الاعتماد على الذات» قبل خمس سنوات من ابتكار مصطلح «القدَرُ الواضح»، وهي حقبة مجَّدت المستكشف القادر الذي ينطلق وحيداً لترويض برية (مفترضة). غالباً ما كان التقليد التأمُّلي يحظى بالدعم من الخارج، وهي ميزة يتيحها للناس وقت الفراغ (تماماً، كما كانت الفلسفة تعتمد، في اليونان القديمة، على طبقة العبيد)، ومفهوم الاعتماد على الذات قد اعتمد، دائماً، على شيء آخر.
لا يعني أيُّ شيء من هذا أن «الاعتماد على الذات» ليس مفيداً، بوصفه أنموذجاً للرفض والالتزام. كان «إيمرسون»، في زمانه، معارضاً صريحاً للعبودية، وللحرب المكسيكية الأميركية، ولطرد الأميركيِّين الأصليِّين من أراضيهم. في عصرنا، يمكننا -بكلّ تأكيد- استخدام ما يُذكِّرُنا من أجل فحص علاقتنا بالرأي العامّ، والحفاظ على شعور بالحدس المبدئي. أفضل صيغة لفردانية «إيمرسون» تنعشنا، كرَشِّ الماء البارد على الوجه، أو كهزّ صديق لكتفينا، ليخرجنا من غيبوبة. بالنسبة إليَّ، كما بالنسبة إلى الكثيرين غيري، كلّ شيء خارج الذات يتلاشى، بسرعة كبيرة، داخل «الاعتماد على الذات»؛ كلّ الظروف، وكلّ الأشخاص الذين أثَّروا في تجربة الاستقلالية لديَّ، وتصوُّري لنفسي، وحتى في المصطلحات التي أستخدمها في تفكيري. وهذا يخفي الخسائر التي تبدو كمكاسب حقَّقتُها. وبرفع الإرادة مقاماً عالياً فوق الظروف، يَعْرِضُ صورة غير صادقة لتكافؤ الفرص، الذي كان على التعساء أن يبذلوا معه جهداً أكبر.
لم يكن من السهل، أبداً، إيجاد حلّ للتوتُّرات بين الفاعل والوضع، وبين الفرد والجماعة. إنني أحاول أن أتعلَّم كيف أعيش في الفضاء الموجود بينهما، وهزّ فضاء تعمّه الفوضى. هنا، يمكنك أن تكون مملوكاً لنفسك وغير مملوك لها، أن تكون مسؤولاً أمام الجماعات، دون أن تبرز التفكير الجماعي المخيف، وتتقيَّد بالتزام واحد: التحقُّق من التزاماتك، على الدوام. في بعض الأحيان (أحيان عديدة)، أكون مخطئاً، وعندها يكون الوقت مناسباً للإنصات إلى الآخرين، وليس لـ«الحفاظ على استقلاليّة العزلة، بعذوبة تامّة». يذكِّرني هذا بمعنى قديم لاسم «الاعتماد»، حيث يعني عكس المعتمِد؛ كان الاعتماد هو الشخص الذي تعتمِد عليه. عندما أفحص هويَّتي، أرى روحاً غير قابلة للتصرُّف تتشبَّث باللانهاية. لكني، في تلك الهويّة نفسها، أرى كذلك تقاطع قوًى موجِّهة، تاريخية وثقافية، تعيقها شبكة لا نهاية لها من اعتماد بعضها على بعض.
تحتوي كتابات «إيمرسون» على نسخة من مفارقة الذات غير الذاتية، حتى لو كانت عيناها موجَّهتَيْن نحو الأعلى والداخل، لا نحو الخارج. في نهاية المطاف، الشيء الآخر المرتبط أكثر بـ«إيمرسون»، إلى جانب «الاعتماد على الذات»، هي الفلسفة المتعالية، والتي يمكن أن تستلزم تعالي الذات بقدر استلزامها للتعالي على المجتمع؛ هذا هو الشيء الذي جعلني أشعر بالانتشاء، إنه اختراق حدود الذات عند الالتقاء بشيء آخر. في «الروح المتعالية» «تنزل علينا كينونتنا من حيث لا نعلم … أجدني مضطرّة، في كلّ لحظة، للاعتراف بأنَّ أصل الأحداث أسمى ممّا أدعوه (إرادتي). في «الدوائر». نجد الكون «مائعاً ومتقلِّباً»؛ الروح «تنفجر متجاوزة ذلك الحدّ من كلّ الجوانب»؛ والقلب «يرفض أن يكون سجيناً؛ ففي أولى نبضاته، وأضيَقها، نجده يميل -بالفعل- نحو الخارج، بقوّة هائلة، ونحو توسُّعات هائلة لا حصر لها». في «التاريخ»، لا نجد الفرد كياناً واحداً، بل «باقة علاقات، وعُجْرَة جُذور، زهرتها وثمرتها هي العالم».
عندما يكتب «إيمرسون» أن «الأفكار تأتي إلى أذهاننا، من خلال طرق لم نتركها مفتوحة أبداً، و… تغادر عقولنا من خلال طرق لم نفتحها طوعاً، أبداً»، يبدو كأنه يصف ذلك اليوم في مكتبة «والدن بوند بوكس»، يوم وجد كتابُه «مقالات» طريقَه إلى يديَّ اللتَيْن لم تستشعرا الخطر. أفكِّر في فِطْر كتابي الذي ينمو هناك، «زهرة وثمار» لقاءاتي حتى الآن. إنها قصَّتي وقصّة من اعتمدت عليهم. سأستمرّ في العودة إلى المكتبة، والانعزال في الجبل، وإجراء مقابلات، والجلوس وحيدة، متتبِّعة مساراً هو حلزونيٌّ أكثر من كونه خطّاً مستقيماً. ومهما يكن اجتهادي في العمل كبيراً، فإنني لن أكون، بذلك، عصامية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*«جيني أوديل – Jenny Odell»: هي مؤلفة كتاب «تعلَّم ألّا تفعل أيَّ شيء: مقاومة اقتصاد الانتباه»، وهي أستاذة تُدرِّسُ «فنّ الاستوديو»، في جامعة «ستانفورد» الأميركية.
العنوان الأصلي والمصدر:
The Myth of Self-Reliance
مجلّة The Paris review، خريف (2020).
https://www.theparisreview.org/blog/2020/01/15/the-myth-of-self-reliance