حجاب التلقّي في قصيدة النثر العربيّة

| 03 يونيو 2020 |
لا شكّ في أن الحواجز التي اصطدمت بها قصيدة النثر العربيّة، تمثِّل لحظة حداثة فريدة، لا تقف عند حدود جوهر القصيدة العربيّة وخطابها، بل ثقافة عصر بأكمله أرخى بظلاله على الذات الشاعرة المنهكة بالخسارات والهزائم والتراجعات. «قصيدة النثر» التي، وإن تجاوزت الشكل التقليدي الصارم، اصطدمت بحواجز تتمثَّل في التلقّي بما فيه دائرة النقد وحاجز الذات أمام نخبوية الشعر؛ ما أسفر عن اتِّساع الهوّة بين الشاعر ومجتمعه، الشاعر الذي أصبح يعيش غربة مضاعفة تستأثر بكتاباته الشعرية. لكن، ماهي مميِّزات «قصيدة النثر؟ وما مستقبلها إبداعياً وتلقِّياً؟ وما أهمّ معايير التحليل النقدي لتجاوز حجاب التلقّي، في نطاق العلاقة بين الشاعر والمجتمع؟
ارتهنت «قصيدة النثر العربيّة» إلى كتابة متجدِّدة عبر أجيال من الشعراء، بتنوُّع مرجعيّاتهم والمؤثِّرات الفاعلة في تجاربهم؛ ما جعلها تخلق أسسها المتناسبة مع طبيعتها الإيقاعية واللّغوية والرؤيوية، باتجاهُيْها: الفرانكفوني، والإنكلوساكسوني. وبذلك تقوم على أقنومين هامَّيْن، هما؛ الأقنوم الدلالي، وهو ما أكَّده المنظِّرون الأوائل، كما جاء في تعبير «جون كوهن» «Jean Cohen» بأنها «قصيدة دلالية(1) نتيجة بنيتها النصِّيّة المشَكَّلة ككتلة فنّيّة، والأقنوم السردي «المستعاض به عن غنائية محلِّقة أو مهوّمة»(2). ويتداخل هذان الجانبان في نسيجها البنيوي، خاصّة على المستوى اللّغوي، والمستوى التصويري.
لكن هذا لم يمنع من اصطدام قصيدة النثر بحاجز التلقّي، بسبب غياب النقد القادر على خلق ألفة صحيحة بين نصوصها ومعايير القراءة النقدية، خاصّةً مع هيمنة القراءة التقليدية التي لم تتوافق مع قوانينها الإيقاعية واللّغوية والتصويرية، بل والرؤيوية المرتبطة بالحداثة، وطروحاتها الصادمة، وبهذا شكَّلَ النقد «مشكلة تكملة دائرة الأزمات التي تعاني منها قصيدة النثر»(3).
ورغم الانتقادات التي عرفتها قصيدة النثر في المحيط الشعري العربي، خاصّةً حول شرعيَّتها، تشكِّل إضافةً ذات جدوى في الكتابة الشعرية؛ حيث حاولت أن تحقِّق تراكماً كمِّيّاً، أهَّلَها كي تنفلت من هذا الشَّرَك، نحو البحث عن تحوُّلاتها النوعية، بفعل انخراط العديد من الشعراء في كتابتها، والتفاعل الثقافي، والنقدي معها. بذلك، هي تؤسِّس، بخطًى ثابتة وموضوعية، لمستقبل الكتابة الشعرية، والرهان أصبح يقوم على اتِّجاهاتها الأسلوبية واحتمال التطوير والتغيير المرتبطَيْن بالذات الشاعرة، في مجتمع إنساني، تتعايش فيه الأجيال الشعرية العربيّة بشتّى أنماط كتاباتهم.
سؤال الهويّة
عرفت «قصيدة النثر» العربيّة حملة شرسة حول شرعيَّتها، ومن أهمِّ أسبابها فوضى المصطلح الناجمة عن الترجمة إلى العربيّة، الذي «اشتمل على خطأ جسيم، لكنه شاع واستقرّ، رغم أنه مقلق وغير دقيق، وتراجع عنه مجترحوه أنفسهم»(4). لكن -بفعل التراكم الكمي الذي حقَّقته على مَرّ أجيال من الشعراء- أصبح السؤال يهمّ حقيقتها الشعرية، عوض شرعيَّتها وشجرة انتسابها إلى جنس الشعر أو إلى جنس النثر.
وتبعاً لسؤال الشرعية، تَمّ الاجتهاد في البحث عن هويَّتها، بشكل لا ينفصل عن الذاكرة الشعرية العربيّة، من خلال النبش في التراث الصوفي وسجع الكهّان وغير ذلك، على غرار «الشعر الحرّ»؛ حيث ذهب بدر شاكر السياب ونازك الملائكة ونقّاد هذه المرحلة التحديثية في بحث عن نصوص تؤصِّل لهذا الشعر، مثل الموشَّحات، والبند، وكتابات شعراء المهجر.
لقد أدّى الاهتمام بجدل التسمية والشرعية، والقبول أو الرفض، إلى تلافي الخوض في ماهيّة «قصيدة النثر»، وما تراهن عليه الكتابة الشعرية والتجارب العالمية التي جاءت بها. وقد ترافق هذا مع قصور النقد في سَنّ قوانين واصفة لرؤيتها الشعرية، وبذلك تَمَّ تجاهل الدراسات الأكاديمية والمناهج المدرسية والمجلّات العلمية لقصيدة النثر، بعدم البحث عن مرتكزاتها النصِّيّة وفحص نتاج شعرائها، بل غياب النقد النصّي، أسهم في تفشّي مقولات خاطئة حولها، مثل ما ذهبت إليه نازك حين اعتبرتها تصدر بلغة عربيّة، لكنها تعمد -في جوهرها- إلى روح غربية.
إن مأزق «سؤال الهويّة»، مأزق حقيقي في البنية الذهنية العربيّة المحافظة تجاه التطوُّر والتغيير في صورته الحداثية، وبذلك لم يرتبط، في الساحة الثّقافيّة، بالخوض في ماهيّة «قصيدة النثر» ومحاولة النظر في جوهر شعريَّتها، والبحث في جنيالوجيا رؤيتها، بقدر ما اشتغل بسؤال الذاكرة بشكل عقدي وتاريخي، ولعل غياب النقد سبب وجيه نحو هذا النزوح.
مرجعيّات الكتابة
تبعاً لما سبق، تعرَّضت «قصيدة النثر»، أيضاً، بشكل لم يلحظه الرافضون لشرعيَّتها، لجملة من المؤثِّرات الفاعلة، منذ التوقُّف الأوَّل لمجلّة «شعر»، خريف عام 1964م، بسبب مشكلات داخلية بين شعرائها، وأهمّها الاصطدام بجدار اللّغة؛ ما أسفر عن توقُّف المشروع الحداثي، نظراً للتباين الفكري في المنطلقات والأهداف، ومن بينها الكتابة الشعرية المتمثِّلة في «قصيدة النثر» مثل «جبرا إبراهيم جبرا» الذي لم يصنّف كتاباته ضمن «قصيدة النثر»، بل في «الشعر الحرّ» محافظاً على المصطلح الغربي الذي ينطبق على شعر «والت ويتمان». كما توسَّع الخلاف إلى حدود الموقف من التراث، حيث هناك مَنْ أعلن أنه لاتراث له، بل هو خارج المورث كلِّه.
رغم هذا، لم يذهب البعض منهم هذا المذهب، مثل «أدونيس» الذي خصَّص صفحات من المجلّة للشعر العربي القديم، والبعض الآخر انكَّبوا على ترجمة أشعار الغربيين، ما أسفر عن بزوغ تيَّارَيْن مهمَّيْن قد وسما الكتابة الشعرية، آنذاك؛ تيار الثّقافة الأنكلوساكسونية مثل «جبرا إبراهيم جبرا»، و«توفيق الصايغ» و«يوسف الخال»، وتيّار الثّقافة الفرانكفونية مثل «أحمد سعيد أدونيس»، و«أنسي الحاج»، و«شوقي أبي شقرا»، علاوةً على انفتاحهم على ثقافة متنوِّعة مثل التشكيل والدراما وفنون أخرى تتواشج -بشكل أو بآخر- مع كتابة «قصيدة النثر».
بفعل هذا التجاوز للشعر الحرّ، والارتماء في أحضان «قصيدة النثر»؛ خضعت نصوصها لإبدالات مهمّة، مثل خضوع أسلوب كتابتها إلى المؤثِّر الديني المتمثِّل في الكتـاب المقدَّس عند «يوسف الخال»، الــذي تأثَّــرت به -بالمقابل- جماعة كركوك(5)، وشعراء بغداد(6)، بالإضافة إلى تغيَّر المراجع النقدية النظرية، من «سوزان برنار»(7) إلى «ميشيل سندرا»(8) وصولاً إلى «بريان كليمنس» و«جيمي دونام»، بكتابيهما: «مقدِّمة لقصيدة النثر.. أنماط ونماذج».
علاوةً على تداخل التجارب بين أجيال الشعراء، سواء على مستوى النماذج المرتبطة بالكتابة الشعرية أو بالمواقف التاريخية، «سنجد تتابعاً جيليّاً، تتآزر أصواته لخلق مناخات قصيدة النثر المتنوعِّة، بدءاً ممَّن تبقّى من الستِّينيين الذين يُعدُّون روّاداً منافحين، بصبر وجرأة، عن النوع الجديد، وشعراء المنجز السبعيني الذين يُشْهَدُ لهم أنهم كرَّسوا تجربة قصيدة النثر، وسرّعُوا فعّالية كتابتها وقراءتها أيضاً، حتى الأصوات الجديدة التي انصرفت إلى تطوير الشكل الشعري، ولم تنشغل بما حول النصوص من هوامش خارج نصِّيّة، ومماحكات جيلية أو فنّيّة»(9)، الشيء الذي نتج عنه إبدال من مفهوم «جيل الشعراء» إلى مفهوم «جيل الشعر».
كما عرفت «قصيدة النثر» انمحاء التعارض بين تجربة شعراء الداخل وشعراء الخارج؛ حيث تَمَّ تجاوز ذلك الانقسام في المواقف السياسية الظرفية، وأصبح الاهتمام منصبّاً على الأسس الفنّيّة، والجمالية. وبذلك انخرط شعراء قصيدة النثر، على اختلاف أجيالهم ومواقفهم واتِّجاهاتهم، في تعميق الكتابة الشعرية، استناداً إلى أسلوب ترسيخ مشروع الحداثة، سواء على مستوى التحديث الشكلي للنصوص، أو في التعبير عن معاناتهم الإنسانية المشتركة.
الذات الشاعرة وبنية الكتابة
لقد تَمَّ اصطدام «قصيدة النثر» بجدار التلقّي نتيجة بعض العيوب الداخلية التي طالت نصوصها، ومنها «تضخيم الذات (…) وتعالي خطابها على المتلقّي وافتراض جهله، غالباً»(10)، علاوةً على التداخل الحاصل بين الوظيفة الجمالية والوظيفة الاجتماعية؛ حيث أُسندت إلى القصيدة مهمّة التغيير والبناء، خارج مفهوم الجماعة، وأصبحت الذات الشاعرة، بمفردها، تمثِّل ضمير الحياة المعاصرة وقضاياها الحداثية.
وسيظلّ هذا الجدار قائماً، إذا لم يتمّ الالتفات إلى خصائصها الفنّيّة التي من شأنها أن تعدِّل أفق التلقّي، بالنظر في كلّيَّتها وبنائها العضوي الكامن وراء شكلها الفوضوي، فهي نصّ شعري يستلزم قراءة على الورقة قراءة بصرية، وليست سمعية أو موسيقية، مع اعتماد مفاتيح نصِّيّة جديدة، من شأنها أن تفتحه على جماليات لغوية وإيقاعية وتصويرية تستفيد من الخطاب السردي، وباقي الفنون المجاورة للخطاب الشعري الحداثي.
بذلك تمثَّل المأزق الذي وقعت فيه «قصيدة النثر»، في الشكل الذي لم يتقبّله المتلقّي بعد، باعتباره شكلاً متناقضاً؛ يأخذ هيئات خطِّية متنوِّعة على الورقة، وما يرافقها من فوضى التوزيع وعلامات الترقيم والبياضات وتمزيق وحدة الجملة الشعرية، إضافةً إلى التواشج الحاصل بين الشعري والسردي، حيث لم يتمّ تطويع المنظور القرائي بعد، تجاه ما تقترضه مثل هذه النصوص من الآليّات السردية في تشكيل خطابها الشعري،
ويضاف إلى هذه الحجب، حجاب الاشتغال على لغة شعرية مخالفة للأنساق التركيبية والأسلوبية المعروفة. أمّا الإيقاع فلازال يشكِّل عائقاً واضحاً في تحقيق مفهوم «الاتِّصال الجمالي»، ما دام الجهاز الموسيقي يضغط على المتلقّي في تمييزه بين الشعر والنثر؛ لذلك يتنامى هذا الجدار خارج قانون التماثل لما هو متعيّن في ذاكرة المتلقّي.
الشعريّة والوظيفة الجماليّة
لقد حاولت «قصيدة النثر» العربيّة، باختلاف أجيال شعرها، التأسيس لمفهوم الشعرية، بشكل يتناسب مع سياقها التاريخي وسياقها الحداثي، وما حجاب التلقّي الذي يدخل في دائرة أزمتها إلّا بفعل الرؤية النقدية التي لم تنفلت، بعد، من القراءة التقليدية للشعر العربي، والانشغال بإشكالات سطحية أبعدته عن استكناه جوهرها وأقانيم خطابها الشعري.
وممّا زاد من كثافة هذه الحجب، هو انفتاح «قصيدة النثر» على مجالات خارج الشعر، والخوض في جدل ماهيَّته ووجوده في حياة الإنسان؛ من خلال قضايا تؤسِّس لسؤال الوجود الذي أصبح «من أبرز الأسئلة التي تقدَّمت بها لتجاوز ذلك الحجاب الجداري المفترض؛ فهي -إذن- لا تتحدَّد بالمهمّة الشعرية للشعر، بل تعنى باكتشاف العالم ومواجهته ورفضه»(11).
هذا ما جعلها تقوم بوظيفة تتجاوز ما هو اجتماعي إلى النهوض بمهمّة وجودية تتلازم -منطقيّاً- مع رؤية الشاعر؛ ذلك أن العالم المتغيِّر باستمرار، «في اتِّجاه الحرِّيّة، يستلزم وجود شاعر مماثل في رغبة التغيُّر»،(12) و-بالمقابل- وجود شعر خارج قوانين ثابتة، في ملاءمة مع الوجود المنخرط، بشكل من الأشكال، في سلسلة تغيُّرات لامتناهية.
ولم تقف عند هذا الدور الوجودي، مادامت لم تستأثر بالمهمّة المعرفية التقليدية التي دأب عليها الشعر بما هي مهمّة فنّيّة، بل مهمّة جمالية؛ لغويّاً وإيقاعياً ودلالياً، والتي تبرز -بجلاء- على مستوى التلقّي؛ ما يستدعي الوعي بنظام نصوصها التي أصبحت تراهن على خرق أفق انتظار متلقِّيها الذي دأب على تجربة قرائية تتَّصف بالجزئية والتماثل، وبثقافة شفهية تنطلق من المعلوم إلى المعلوم، خلافــــاً للمتعيَّن في ذاكرته. ويظهـــر هذا،جليّاً، من خلال السؤال نفسه المثير لإشكال التسمية، كما جاء على لسان الشاعر «عباس بيضون»: «هل الشعر شعر والنثر نثر، ولن يلتقيا؟»(13).
نحو مقترح للتحليل النصِّي
وإذا كانت قصيدة النثر قد تجاوزت هذه الإشكالات، حيث حقَّقت تراكماً كمِّيّاً، فإنها انفتحت على مرحلة جديدة للتحقُّق من تحوُّلاتها النوعية، باعتماد نظريّات ومناهج ما بعد البنيوية، مثل السيميائيّات والأسلوبية وجماليّات التلقّي بما يتناسب مع أعراف القراءة الخاصّة بالنصوص الحداثية، وتغيُّراتها الشكلية والمضمونية؛ وبهذا يستطيع النقد تجاوز حجاب التلقّي، ومساعدة القارئ على إنجاز عمليّة تلقٍّ واعية، استناداً إلى بعض المعايير المقترحة والتي تمَّ تدعيمها بجانب تطبيقي على نماذج شعرية متنوِّعة.
ورغم زئبقية النصّ الشعري، إن مسألة اقتراح معايير لتحليل نصوص قصيدة النثر، تضع النقد في مأزق حقيقي؛ خاصّةً في أفق العلاقة بين الذات والموضوع، التي يحاول أن يرتقي بها إلى درجة من الصرامة العلمية والضبط المنهجي، في أفق التوصُّل إلى نتائج موضوعية، تتناسب مع طبيعتها ورهاناتها الوجودية، والجمالية، محاولاً إقامة قطيعة شبه نهائية مع القراءات الشعرية السابقة.
لكن المعايير المقترحة من قِبَل «حاتم الصكر»، بخصوص «قصيدة النثر»؛ تتجاوز الكشف عن الجوانب الجمالية الفنّيّة شأن المناهج الانطباعية، أو إبراز المعاني والموضوعات شأن المناهج خارج نصِّية، بل يرمي -من خلالها- إلى عملية إنجاز فعل القراءة، انطلاقاً من مرجعية إبستيمولوجية تتمثَّل في مفهوم «المحرِّك الظاهراتي»(14) الذي من شأنه أن يمنح الذات القارئة وظيفة الكشف عن تشكُّلات النصّ، ووضعاً موضوعياً مستقلّاً خارج المعنى النهائي والوحيد المفروض على المتلقّي…
لقد حاول حاتم الصكر أن يأتي بالجديد في مقدِّمته النظرية حول «قصيدة النثر» العربيّة، على مستوى نقطيتَيْن أساسيَّتَيْن؛ تتجلّى النقطة الأولى في العمل على تغيير نظرتنا إلى قصيدة النثر، أو -على الأقلّ- تغيير زاوية النظر، من خلال التحرُّر من التقليدانية التي زجَّت بالنقد في مثالب التسمية والمشروعية، عوض النظر في جوهرها ومهمّاتها الوجودية، والجمالية. أمّا النقطة الثانية، فتتمثَّل في تجاوز المعايير النمطية التي دأب عليها النقد في تعامله مع النصوص الشعرية، نحو معايير، من شأنها رفع حجاب التلقّي.
وإذا كان مُوفَّقاً في التمهيد، لهذه المعايير، بمهاد نظري يبيِّن وظيفة النقد الجديد تجاه قصيدة النثر، فإنه لم يولِ اهتماماً كافياً بالمعايير التي من خلالها يمكن -مباشرةً- تحليل النصّ الشعري، حيث لم يفصح عن الخلفيّات النظرية التي تؤطِّر هذه المعايير بشكل واضح، بقدر ما استدعى بعضها، باقتضاب شديد، مع العلم أنه ينطلق من منطلق «ظاهراتي»، وهذا ما يُفهَم من إفادته: «بل نتوخّى إنجاز فعل قراءة للنصّ ذي محرِّك ظاهراتي يعطي للذات شأناً كبيراً في تشكيل النصّ الذي تنتفي جدوى وجوده الموضوعي المستقلّ الذي يفرض على قارئه معنًى نهائياً واحداً»(15).
وبذلك، حصل لديه بعض الخلط على مستوى بعض النظريات التي لم يتمّ تمحيصها على المستوى النظري وبيان مدى ملاءمتها مع قصيدة النثر؛ حيث جمع بين البنيوية عند «لوسيان كولدمان» والسيميائيات الأسلوبية عند «مايكل ريفاتير». وبالتدقيق في بعض المعايير المقترحة، نجده قد جمع بين نظريَّتَيْن هما: «النظرية الدلالية» و»نظرية السياق»، لكن هذه الأخيرة قد استُنفِذت من قبل نقّاد الشعر الحديث(16)، علاوةً على عدم استحضاره لبنية الخطاب الشعري، خاصّةً البنية الإيقاعية التي لم يلغِها ريفاتير نفسه، بل اعتبرها تتواشج مع الجانب الدلالي. كما أنه تحدَّث عن «حجاب التلقّي» والمهمّة الجمالية التي أصبحت منوطة بها، ولم يتطرَّق إلى نظرية جمالية التلقّي والمفاهيم المسعفة لها في القراءة، كما جاء بها كلّ من «هانس روبرت ياوس» و»وولفغانغ إيزر»؛ وهذا ما يستدعي إعادة النظر في إحداث الانسجام بين أقانيم ثلاثة هي: الخلفية النظرية/ المعرفية، ومعايير التحليل، والمنهج المعتمد، مع العلم أنه يمكن أن نتجاوز المنهج الواحد نحو مناهج متعدِّدة، من شأنها التعامل مع التطوُّرات والتحوُّلات الأسلوبية التي خلقت نصوصاً مختلفة في طبيعة كتابتها، لأننا لم نعد نتعامل مع نصوص موحَّدة، كلّها ضمن «قصيدة النثر».
لقد توفَّق «د. حاتم الصكر» في مقدِّمته النظرية، إلى حَدّ كبير، وذلك لبناء وعي نقدي جديد قادر على تجاوز حواجز التسمية والمشروعية، أو ما له علاقة بالنظرة النقدية التقليدية تجاه الشعر، عموماً؛ حيث نبَّه إلى النظر في جوهر «قصيدة النثر» سواء على مستوى بنية خطابها الشعري أو مهمّاتها الوجودية، والجمالية، في أفق رفع «حجاب التلقّي».
وبخصوص المعايير المقترحة في تحليل النصّ الشعري، يحتاج الأمر إلى مزيد من البحث والمدارسة؛ سواء على مستوى الخلفيات النظرية والمعرفية المتناسبة مع السياق ما بعد حداثي، أو على مستوى المناهج المسعفة في قراءة نصوص «قصيدة النثر»، وذلك بوضع شروط قادرة على تحقيق شرط الصرامة العلمية عوض إطلاق العنان لذات الناقد، من خلال ما سمّاه «حاتم الصكر» «المحرِّك الظاهراتي»، مخافة الوقوع في الانطباعية التي عانى منها النقد، منذ سنوات خلت.
هذا بالإضافة إلى أن تطبيق مثل تلك المعايير المقترحة لا ينبغي ربطها بأسماء الشعراء، بل تبعاً لأنموذج الكتابة أو الاتِّجاه أو الأسلوب؛ للتوصُّل إلى نتائج عامّة وموضوعية رهينة بطبيعة النصوص المدروسة المنضوية تحت «قصيدة النثر» باختلاف شعرائها، مادمنا قد انتقلنا، بحسب تعبيره،من مفهوم «أجيال الشعراء» إلى مفهوم «أجيال الشعر».
الهوامش:
1 – Jean Cohen; la structure de langage poétique. Ed Flammarion.1966. p13.
2 – حاتم الصكر؛ الثمرة المُحَرَّمة (مقدِّمات نظرية وتطبيقات في قراءة قصيدة النثر). إصدارات مجلّة «نصوص من خارج اللّغة». سلسلة نقد1، شبكة أطياف الثّقافيّة للدراسات والترجمة والنشر، ط1، 2019، ص11.
3 – المصدر السابق نفسه. ص12.
4 – انظر حاتم الصكر، «ما لا تؤدِّيه الصفة». دار كتابات. بيروت. 1993. ص33. أدونيس: الأعمال الشعرية الكاملة. ط4. بيروت. 1985. ص5 وما بعدها. حاتم الصكر؛ الثمرة المحرَّمة. م.س. ص23.
5 – جماعة كركوك تتمثَّل في كلٍّ من: (سركون بولص، فاضل العزاوي، صلاح فايق، جان دمون، مؤيَّد الراوي، يوسف سعيد، وغيرهم.
6 – شعراء بغداد، ومنهم: عبد الرحمن طهمازي، عمران القيسي، حسين عجة، وغيرهم.
7 – تمَّت الترجمة الأولى الكاملة في العراق، سنة 1993، من قِبَل الدكتور «زهير مجيد مغامس»، وبعدها بسنوات، تمت ترجمة ثانية في مصر من قِبَل «رفعت سلّام». انظر: سوزان برنار، قصيدة النثر من بودلير إلى الوقت الراهن. ترجمة: راوية صادق، مراجعة وتقديم: رفعت سلّام، ج1 وج2، دار شرقيّات للنشر والتوزيع. ط1. 2006.
8 – انظر: سندرا، قراءة في قصيدة النثر، ترجمة: زهير مجيد مغامس، وزارة الثّقافة، صنعاء، 2004.
9 – حاتم الصكر، مصدر سابق، ص40.
10 – المصدر السابق نفسه، ص29.
11 – المصدر السابق نفسه، ص20.
12 – المصدر السابق نفسه، ص21.
13 – محمَّد العبّاس: ضدّ الذاكرة. المركز الثقافي العربي، ط1، 2000، ص55. نقلاً عن حاتم الصكر؛ مصدر سابق. ص23.
14 – المصدر السابق نفسه، ص51.
15 – المصدر السابق نفسه.
16 – انظر: غالي شكري، شعرنا الحديث إلى أين؟، دار الشروق، بيروت، ط1، 1991.