حرب الخوارزميّات بعد سَكتَة الفيسبوك

| 01 نوفمبر 2021 |
يوم الاثنين 4 أكتوبر/تشرين الأول 2021 ليلًا «سكتت» منصّةُ فيسبوك عن الكلام المُباح. توقّف نصفُ الفضاء الأنترنوتيّ عن العمل. كَفّت الأرضُ عن الدوران. خُيِّلَ إلى الكثيرين أنّهم يقتربون من نهاية العالَم فازدهرت «نظريّة المُؤامرة». ثمَّ تَمَاهَى متصفِّحُ الفيسبوك مع صفحته فأحسّ بأنّ الهجوم يستهدفه شخصيًّا. كذا تشكَّلت كلّ العناصر المُؤسِّسَة لحدثٍ تراجيديّ بامتياز.
إلّا أنّ التعاطف مع فيسبوك سرعان ما تمخَّض عن نقيضه. يكفي أن نتابع تصريحات فرانساس هوغن «المُوظّفة» السابقة. لقد تغيَّرت «زاويةُ التبئير» في يومين: تمَّ استباقُ محاولةِ فيسبوك تأويلَ الأمر على أنّه اختراقُ معلومات أو اعتداءٌ على الحرّيّات، وتمَّ إظهارهُ في صورة الدفاع عن «الديموقراطيّة الرشيدة»: يمتلك «زوكربرغ» 55 بالمئة من حقّ التصويت في مؤسَّسته. هكذا تمَّ الجزم بأنّه صاحبُ القرار النهائيّ في اختيار «الخوارزميّات» التي تدمّر الصحّة الذهنية للشباب وتخرّب المُجتمع وتفضّل الربح على سلامة العامّة! إنّه يمثّل «منوالاً» اقتصاديًّا واجتماعيًّا غير ديموقراطيّ. وبوصفه «ديكتاتورًا» فإنّه المسؤولُ الأوّل عن خطّ فيسبوك التحريريّ و«مخاطره»!
***
لماذا تمَّ التركيز أميركيًّا على «مخاطر الفيسبوك» بهذا الإجماع تقريبًا وفي هذا التوقيت تحديدًا؟ وهل كانوا غافلين عن هذه «المخاطر» إذا صحّ وجودها؟ أم أنّ «الكلّ يعلم أنّ الكلّ يعلم» والكلّ لديه في «عِلْمِهِ» مآرب أخرى؟!
***
لنتّفق أوّلاً على أنّنا أمام نوعٍ من المُؤسَّسات الربحيّة القائمة على مبدأ «اقتصاد الانتباه» (économie de l’attention).
هذا يعني أنّك كلّما أطلت وقتَ المكوث أمام الشاشة أمكنَ لهذه المنصات أن تحوّلك إلى مصدر ربح من خلال بيع فضاء إعلاني معادل لذلك الوقت. ذاك هو المبدأ الأساسيّ الذي تبني عليه هذه المنصات وفيسبوك تحديدًا «مُودِيلَها» الاقتصاديّ. من ثمَّ أهمّية أن يدور فيها خطاب حاقد أو فضائحي أو مؤامراتيّ، فهذا هو الخطاب المثير للانتباه بامتياز. لقد أثبت التحليل العلميّ اليوم أن الخبر المُزيَّف أو الكاذب يروَّج ستّ مرّات أسرع وأوسع من الخبر الدقيق. وحين نعلم أنّ معدّل الانتباه لا يبلغ عشْرًا من الثواني فإنّنا ندرك كيف يحتدم الصراع بين المنصّات على تلك الثواني العشر. صراع تُستخدَم فيه الخوارزميّات أساسًا. فهي طريقة تحويل الانتباه إلى «مادّة رقميّة». الأمر معروف وثابت ولم يكن في حاجة إلى الوثائق المُسَرَّبة.
تلك هي المسألة إذن! كيف نضع اليد على خوارزميّات هذه المنصّات التي خرج «مُودِيلُها» عن السيطرة؟
ليس من باب الاتّفاق أنّ يحدث هذا بَعْدَ «تسونامي الربيع العربيّ»، و«الثغرات» التي سجّلتها انتخاباتُ أميركا وروسيا وفرنسا، و«صراع الديكة» بين بوتين وترامب. لقد ساهمت كلّ هذه المُعطيات في تغيير «طاولة اللعب» بين الصين وسائر حيتان العالم. كلّ ذلك على خلفيّة فيروس الكورونا وهو يتمخّض عن إنسانه الجديد: «الهُومُو كُوفِيدُوس».
تعاضدت هذه المعطيات لتجعل الديموقراطيّين والجمهوريّين في أميركا يتّفقون بشكلٍ غير مسبوق على مهاجمة فيسبوك وغيرها من المُؤسَّسات الكبرى التي يُطلَق عليها اسم «الغافا»، على الرغم من كونها مؤسَّسات أميركيّة تسيطر على مواطني العالم وتجعلهم بالتالي تحت سيطرة أميركا. وما كان لذلك أن يحصل لولا اشتراك النّخب الحاكمة في المصالح وانتباهها «مُؤَخّرًا» وبعد كلّ ما حدث وفي ضوء ما قد يحدث، إلى أنّ «سياسيّ الهُومُو كُوفِيدُوس» المحكوم بقواعِد التواصل عن بُعد والاقتصاد عن بُعد، إذا أرادَ أن «يَحْكُمَ»، سيكون محتاجًا إلى «التحكُّم» ولو بنسبةٍ معيَّنة في هذه المنصّات.

لقد باتت هذه المنصّات «مطمع» السياسيّين، الأمر الذي جعلهم يتقاتلون للسيطرة عليها ويتعاضدون على عدم تركها تحت تصرُّف «جماعات أو أفراد غير مضمونين» يسيّرونها عن طريق خوارزميّات قد تخرج عن السيطرة. هكذا اتّضح أنّ المسألة هي أوّلاً وأخيرًا مسألة حرب خوارزميّات تُخاض بالخوارزميّات وعلى الخوارزميّات.
***
أدركَ «زوكربرغ» المسألة بحذافيرها ولم يجد دفاعًا أفضل من استراتيجية «النيران المُضادّة» لتسيير الانتباه في اتّجاه آخر. فهو في نهاية الأمر أحد سادة «اقتصاد الانتباه»! هكذا كشف عن مشروع «الميتا فيرس» وعمد إلى إطلاق «تسميته» الجديدة في هذا التوقيت تحديدًا. إنّها حرب الخوارزميّات. و«الميتا فيرس» عالم الخوارزميات بامتياز. ولفيسبوك وغيرها من المنصّات في هذا العالم أسبقيّة المُبادرة في هذا المجال. وكان من الطبيعيّ أن ينقل المعركة إلى هناك. إلى ملعبه، حيث ظلّت السلطات الحاكمة متخلِّفة بعدَّة «نقلات» على «الرقعة التشريعيّة». وهذه السلطات عاجزة حتى الآن عن سدّ جميع الثغرات في الإبّان، غير قادرة على التحكّم في هذه المُؤسَّسات العابرة للقارّات والحدود الفيزيائية، فما بالك بالحدود الرقميّة؟!
***
ظهرت فكرة «الميتا فيرس» في أدب الخيال العلميّ منذ ثمانينيات القرن العشرين لكنّ الفكرة لم تكتسب تسميتها إلّا في التسعينيات. نحن هنا أمام شيء شبيه بعالم الميتافيزيقا لولا أنّه يعني ما وراء العالم الرَّقميّ نفسه، حيث «الديميورج» رقميٌّ والمجرّاتُ سيبرانيّةٌ والحياةُ حسبَ خوارزميّات.
عالَم متعدِّد متشابك تتمُّ «رقمنة» كلّ شيء لتصبح جديرةً به. بما في ذلك الخير والشرّ. عالم لا يعترف بحدود بينه وبين العالم الفيزيائيّ. إنّه عالم التفاعل والتداخل بواسطة فتوحات تقنيّة بعضها لم يخرج من الورشات وبعضها دخل حيِّز الاستخدام، كالطابعات ثلاثيّة الأبعاد وخوذات «الواقع المُعزّز» وتقنية الهولوغرامات، وغير ذلك كثير.
الكلُّ سيتجسّس على الكلّ عن طريق نوع من «القرصنة العفويّة». الكلُّ سيراقب الكلَّ رقميًّا في هذا العالم على جميع المُستويات، بما يعنيه من بُنى تحتية وأيديولوجيات ودوائر معرفية وإيطيقا ممثَّلةٍ في مجموعات متزايدة من «الهاكرز» يسمّون أنفسهم اليوم «القراصنة الأخلاقيّون» ولا أحد يدري كيف سيتسمّون في الغد.
لكن ماذا يعني «الميتا فيرس» في معجم «مارك زوكربرغ» في هذا التوقيت تحديدًا؟
قد لا يخلو الأمر من جوانب نفسانيّة طبعًا. العالمُ الواقعيّ خيَّب ظنّ «زوكربرغ» وفيسبوكِهِ وضيَّق عليهما الخناق. وليس أمامه إلّا الفرار (بمنخرطيه) إلى «العالم الافتراضي». عالم «الميتا». عالم «الما وراء، حيث لا أحد يتحكَّم في الديميورج الأكبر. وفي الخيال، وحيث يمكن حتى الآن على الأَقلّ أن يتمَّ استغلال الصمت القانوني (أكاد أقول الفقهي) الذي يتيح انتشار ديانة جديدة أو صوفيّة مبتكرة، يقوم فيها الإبحار مقام الصلاة ويقوم فيها الانتباه مقام التأمُّل والتفكير!
في هذا العالم لن يأتي مَنْ يزعج «زوكربرغ» (أو هكذا يحلم) ليمنعه من البيع، حيث يحلّ البيع محلّ التقوى في «الميتا فيرس». بيع كلّ شيء وأيّ شيء: الخصوصيات. الأحلام. الآلام. الأحقاد. شهوة الفتك بالآخر من وراء القناع أو «الآفاتار». وبيع الوقت تحديدًا. تبيع أنت وقتك لهذه المنصات، وتبيع هذه المنصات وقتك لحيتان رأس المال. مع فارق أنّك الآن في «الميتا فيرس» أو في «ما وراء» الكون الرَّقميّ أو الديجيتالي أو السيبراني، حيث لا حدود ولا قوانين ولا إكراهات تقوم بتعديل النهم الوحشيّ إلى الربح بشكلٍ لا نهاية له إلّا قيامة العالم.
نحن بصدد الفرجة على ميلاد «ديانة» جديدة. محكومة بنفس نقاط الضوء والعتمة. تبدأ بالظهور في مظهر جنّة من جنان الحرّيّة والتسامح وحريّة الفرد في اعتناق ما يريد، ثمَّ تتحوَّل إلى جحيم عن طريق التنكيل بالآخر وإقصائه وتكفيره. كلّ ذلك عن طريق كهنوت مخصوص، أكثر فأكثر عنفًا، وأكثر فأكثر تحجُّرًا. كهنوت يُملَى أفكاره في الكنيسة الفيزيائيّة عن طريق التعاليم وفي الكنيسة الرقميّة عن طريق الخوارزميّات.
***
ليس من شكٍّ في أنّ لمنصّات التواصل الاجتماعيّ أكثر من مزيّة. وليس من شكٍّ في وجود مزايا لا تُحصى ولا تُعدُّ للتقدُّم التكنولوجيّ والعلميّ ولعالم الديجيتال، لكنّ المشكلة تتمثّل في أنّنا نقتحم كلّ ذلك بمعزل عن ضمانة الإيطيقا التي ترسم لنا ملامح القيم التي تحمي إنسانيّة الإنسان، وتجلس على أصابعنا حين نكتب الخوارزميّات وحين نختارها.
علينا أن ننتبه إلى أنّنا كائنات إيطيقيّة. وليست منصّات التواصل الاجتماعيّ سوى انعكاس لثقافتنا العميقة. الخوارزميّات المبنية على «اقتصاد الانتباه» ستسعى إلى استقطاب الانتباه عن طريق العنف. وإذا صحَّ أنّ العنف بنسبة معيَّنة هو بُعدٌ طبيعيٌّ فينا، فإنّ علينا أن نحرص في تربيتنا وتعليمنا وفي ثقافتنا عمومًا على ألّا يتجاوز ذلك العنف نسبته الطبيعيّة كي لا يتحوَّل إلى حالة باثولوجيّة. والحقّ أنّنا حتى الآن عنيفون باثولوجيًّا. نحبُّ الفرجة على حادثة يسيل فيها الدم وتنتهك الأعراض. يسهل علينا التكالب على كاتبٍ أخطأ أو ارتكب سرقة أدبيّة، لكنّنا نتقاعس عن التعليق على كتاب جيّد أو فيلم جميل. نحن نستعيد غرائزنا الوحشيّة والكانيباليّة بأسرع ممّا ننقر على لوح المفاتيح. وهذه مسألة ذات علاقة بثقافتنا قبل أن تكون على علاقة بمواقع التواصل الاجتماعيّ وخوارزميّتها.
إنّ ما يحدث حتى الآن هو للأسف، تلويث كلّ مساحة علميّة نكتسحها بنفس «الأدواء» التي أفسدت علينا المرحلة السابقة. ضيَّق الإنسان على نفسِه الأرض فلوَّث السماء، وها هو يضيّق على نفسه عالم الديجيتال فيشرع في اقتحام عالم الميتاديجيتال بنفسِ قيم العنف والتوحُّش والفساد.
يهرب إنسان الفكرة والحلم إلى عالم «الإمكان» ظنًّا منه أنّه هناك يتحقّق ويحافظ على شعلة حرّيّته. يهرب إلى ذهنه ومخياله، حيث له حرّيّة الضمير والتفكير والتعبير والإبداع، لكن حرب الخوارزميّات تنذر باللحاق به ومحاصرته في عالم «الما وراء الرَّقميّ» أيضًا.
لقد أفسدَ الإنسان الفيزياء بجغرافيتها وتاريخها، ثمَّ لوَّث الميتافيزيقا بحروبه الكنائسيّة الأيديولوجيّة. وها هو ينذر بتلويث «الميتاديجيتال» أو «الما وراء الرَّقميّ» وتحويله إلى نوعٍ من «الغيتو» المُنتِج لشتَّى ضروب القصوويّات.