دموع الفوتبول

| 09 نوفمبر 2022 |
سنة 1930 كان ألبير كامو حارس مرمى فريق كرة القدم بجامعة الجزائر. وقد أمكن له بعد ذلك بسنواتٍ أن ينتقل من ملاعب الكرة إلى ساحات الثقافة، وأن يحصل على جائزة نوبل للآداب عوضًا عن كأس العَالَم. كما أمكن له أن يكتب عمّا تعلَّمه من لعبة الفوتبول مؤكِّدًا لمَنْ يريد أن يسمع: «لقد تعلَّمت أنّ الكرة لا تأتي إلى أحدنا من الجهة المُتوقّعة. وقد ساعدني ذلك كثيرًا في الحياة داخل المدن الكبيرة تحديدًا، حيث الناس عادةً غير مستقيمين».
كان ألبير كامو محظوظًا دون شكّ حين عاش مع كرةٍ من هذا «الطراز». كان الفوتبول «عاقلاً» في ذلك الوقت بما يكفي كي يعتقد مُمارِسوه أنّ «العقل السليم في الجسم السليم». لكن ماذا في وسعه أن يعلّمنا اليوم؟ وأيّ فوتبولٍ نعني؟
***
تغيّر كلّ شيء في الفوتبول اليوم. لا شكّ في ذلك. ولعلّنا نستطيع أن نقول إنّ كلّ شيء تغيّر فينا أيضًا. خاصّة إذا تناولنا الموضوع من جهة التصنيع وما يتطلّبه من تسويق. فإذا نحن أمام فرجة محسوبة في فيترينة برَّاقة كلُّ شيءٍ فيها فاقدُ العفويّة: اللعب والجدّ والمناهج والغايات، وحتى اللاعبون والمُتفرِّجون الذين أصبحت ردود فعلهم أشبه بمُفرداتِ سيناريو مُحْكَم.
***
حرص والدي على إغرامي بالمُطالعة والشطرنج ونجح في ذلك. إلّا أنّه فشل في صرفي عن كرة القدم. ولعلّي ازددت افتتانًا بها نتيجةً لذلك. كان مدير مدرسة ابتدائيّة وكان عليه من ثَمّ أن ينتقل بنا في البلاد حسب حركة رجال التعليم. وقد أمضيتُ معظمَ طفولتي وجانبًا من مراهقتي في إحدى القرى الصغيرة الرابضة على كتف الوطن القبليّ التونسيّ.
كانت ألعابنا الفرديّة والجماعيّة تنويعًا على ما سنسمّيه فيما بعد «ألعاب القوى». منافسات في المُصارعة والعدو أو القفز أو رمي الأثقال وغيرها من الألعاب التي لم تكن تتطلّب منّا غير ما تجود به الطبيعة من حولنا. أمّا الألعاب التي تتطلّب «عتادًا» خاصًّا فلم تكن تتجاوز ما سهل الوصول إليه ورخص ثمنه: ثمار الأشجار. بعض العصي نقتطعها من الأغصان ونصنع منها المقلاع والخذروف. أنواع من الحجارة المصقولة نتّخذ منها «قِطَعًا» للعب الدامة أو الخربقة، وهي نوع من الشطرنج الشعبي. كرات زجاجيّة في حجم حبّات الزيتون نشتريها في الأعياد. إلخ.
لكن أهمّ ألعابنا كانت لعبة كرة القدم. كان لكلّ أسرة قريبٌ مهاجر إلى أوروبا كثيرًا ما يهدينا كرة جلديّة عند زياراته الصيفيّة. وإذا لم يتوفّر ذلك تدبّرنا أمرنا للحصول على كرة بلاستيكيّة بهذه الطريقة أو تلك. أو صنعنا كرةً من القماش وبقايا الكراتين أو من أيّ مادّة تصلح لصُنع الحلم. لذلك نستطيع أن نقول إنّ أبناء جيلنا كانوا يولدون بِكُرةٍ في أقدامهم. ولعلّ الكرة تظلّ الأقرب حتى لدى جيل اليوم: جيل «البلاي ستايشن» وأبناء «السمارتفون».
***
شيئًا فشيئًا أخذت هذه الكرة «تنتفخ» وتكبر حتى سكنت رؤوسنا وحلّت أحيانًا محلّ أكبر أحلامنا وزحفت على العقول والوجدان مثل «التسونامي» الذي لم يسلم منه شيءٌ حتّى الدموع. وشيئًا فشيئًا أصبحت دموعُنا تلك عنصر وحْدَتِنا جمهورًا ولاعبين عند الهزيمة أو الانتصار. كما أصبحت جزءًا من سيناريو «الفرجة». وبات علينا قبل أن نذرف دموعنا بكلّ احتراف أن نتثبَّت من أنّنا داخل «الكادر»، أي أمام عين الكاميرا!
***

هكذا تحوَّلت الدموع في علاقتها بالفوتبول إلى مفهوم واستعارة. وقد انتبهت إلى ذلك عدّة مرّات في حياتي. أذكر من بينها مرّتين تحديدًا: مرّة في بداية الشباب، ومرّة في منتصف الكهولة.
كنت في العشرينات من العُمر على عتبة الجامعة، وقد بدأتُ أشارك في المُظاهرات الطلابيّة وأحضر الأمسيات الشعريّة دون أن أكفّ عن ممارسة لعبتي المُفضَّلة. خاصّة في نهايات الأسبوع. لا أذكر المكان تحديدًا ولا أذكر الأشخاص المُشاركين. لكنّي أذكر أنّنا كنّا في ذروة المُقابلة. وصلتني الكرة فراوغت لاعِبَيْنِ أو ثلاثة متقدّمًا نحو مرمى المُنافس. أرسلتُ النظر لأرى إنْ كانت الفرصة سانحة للتهديف. بلغني من أقاصي الملعب تشجيع البعض فأحسست للحظات بنشوة قريبة من الإغماء. تخيّلت أنّي في «الكامب نو» أو «السنتياغو برنابيو»، وأنّ الآلاف تنظر إليّ وتلهج باسمي. أذكر ذلك جيّدًا وبأدقّ التفاصيل إلى اليوم. قرَّرت أن أتقدَّم بمفردي وأحاول التسجيل. فجأة امتدَّت ساقُ أحد لاعبي الفريق المُنافس وحصدتني حصدًا من على ساحة اللعب. وقعتُ أرضًا واحتكَّت مرفقي اليمنى بالأرضيّة طويلاً، ولم أستطع منع أنفي من الارتطام العنيف بالأرض.
لم تكن تلك أوّل مخالفة تُرتكَب ضدّي، فاللعبة توأم للمُخالفات. لكنّها كانت مخالفة خاصّة تآلفت في ذهني مع أحساسٍ خاصّ سبقها، وخاصّة مع تعليق خاصّ لم يفارق ذاكرتي من يومها حتّى الآن. نهضت مترنّحًا وفي ذهني أنّ الحَكَمَ لا شكّ قد صفَّر، لكنّ اللعب تواصل. اقتربت من غريمي صارخًا مهدِّدًا فإذا هو يحدِّق فيَّ بدهشة ويقول لي: «لماذا أنت غاضب؟ أنا لم أرتكب خطأ مادام الحَكَمُ لم يتفطّن إلى ذلك».
لقد ربّاني والداي وربّاني المُعلِّمون وربّاني الأدب والفكر وربّتني الحياة حتى تلك اللحظة على اجتناب الخطأ عن اقتناع لا خوفًا من أن يتفطّن إليه «الرقيب». لكن تلك الكلمات أطاحت بكلّ ذلك. وبات يقينًا لديَّ أنّي لا يمكن أن أمارس هذه اللعبة التي يكفي أن يغفل عنه «الحَكَمُ» ليصبح الخطأ أمرًا طبيعيًّا.
كانت تلك لحظة فارقة في تحوُّل الدموع عندي إلى مفهوم. لقد بكيت طويلاً وبحرقة لحظتها لا بسبب الألم المُنجرّ عن الضربة، بل بسبب تلك الكلمات المعدودة المُلقاة بنبرة البداهات «المُرعبة». كانت تلك الكلمات كافية كي يتحطّم طموحي الكرويّ كلّه وكي يُضاء أُفقي في الحياة بنوع من الشمس المُعتمة.
***
بعد ذلك بسنين طويلة بكيت بالحرقة نفسها وأنا أشاهد مارادونا يسجِّل هدفًا بيده في غفلة عن الحكم التونسيّ. فجأةً عادت بي الذاكرة إلى تلك اللحظة: ها هو أحد أكبر لاعبي العَالَم يؤكِّد الشيء نفسه. عندئذ تأكّدت من الحقيقة المُرّة: أنا واحِدٌ من مجانين الفوتبول لا شكّ في ذلك. لكن هذه اللعبة ليست لأمثالي. كانت تلك خلاصة الدروس التي تعلَّمتها من الكرة: إنّها اللعبة التي يكفي أن تغفل فيها عين الرقيب حتّى تتحوَّل اليدُ السارقة إلى يدٍ مقدَّسة.
***
مرّةً أخرى يذكّرني ذلك بألبير كامو وولعه بكرة القدم وكيف أنّه تعلَّم من تجربته الرياضيّة «أن يكسب دون أن يشعر بأنّه إله وأنّ يخسر دون أن يحسّ بأنّه قمامة».
مرّةً أخرى أقول إنّ ألبير كامو كان محظوظا جدًّا. ولو عاش بيننا اليوم لأرعبه أن يرى مضمون الحكمة الكرويّة يتلخّص في هذا السؤال: ما فائدة أن تكسب نفسك في الحياة إذا أنت خسرت البطولة في الفوتبول؟!
سؤال مؤرِّق حقًّا حين يُطرَح على مجانين كرة القدم تحديدًا، وأنا منهم، فإذا كأنّهم بين يدي أبي الهول.
لقد اعتدنا أن نجعل للبكاء «طقوسًا» كي نختفي خلفها وأن نجعل للضحك «أسبابًا» كي نمارسه على الملأ. حتى سهل علينا أن نمارس الضحك بنوع من «الرقاعة» في بعض الأحيان.
بينما ظللنا نحتشم بالدموع إذا اضطرّنا إليها الألم. أو إذا ذرفناها حزنًا في المآتم وعند الكوارث والإخفاقات. أو إذا غصصنا بها ونحن نتوجَّع على أحبّة رحلوا أو ونحن نشيّع شهداءنا في حرب أو نودِّع ضحايانا في جائِحة.
نحن اليوم نبكي فرادى ونضحك مجتمعين. ولا نبكي «جماعةً» إلّا حين يتعلَّق الأمر باستعارة دموع التماسيح. أمّا فيما عدا ذلك فلا شيء يوحّدنا اليوم في فرحٍ أو حزنٍ مثل دموع الفوتبول!