دون كيخوطي.. من مجهول الكُتب إلى مجهول العَالَم

| 06 أكتوبر 2021 |
يبدو الأفق، الذي تفتحُهُ رواية «دون كيخوطي دي لامنتشا» للتأويل، كما لو أنّه متاهةٌ لا حدّ لأغوارها. وهي عُموماً صفةُ ما يَبقى ويدومُ في الكتابة وبها، أي الديمومة التي تؤمِّنها الكتابةُ بما تَهَبُهُ من إمكانات للتأويل والتمديد. فأراضي هذه الرواية، المُشرَعة باستمرار على التأويلِ المُديم للمعنى، لا تنتهي؛ منها، تمثيلاً، أرض الحُريّة التي انتصرَت لها هذه الرواية، وأرض الكتابة فوق الكتابة، وأرض تشظّي الحقيقة، وأرض اختراق القراءة لجدار كلِّ مَنع، وأرض «الظاهر» الذي لا يَظهر إلّا ليكون غيْرَ ذاته، وأرض الخيال وهو يتصدَّى لفَسادِ العَالَمِ عبْر الحُلمِ باستنبات قيَمٍ تبدو دوماً في طَور الاندحار.
تبدو شخصيّة دون كيخوطي دي لامنتشا، في عمل سرفانتس الروائيّ الموسوم باسْم هذه الشخصيّة ذاتها، كما لو أنّها خارجةٌ أصلاً من الكُتُب، ومصوغةٌ، في البَدء، بالخيال الكتابيِّ المُمتدّ في الخيال القرائيّ كي تؤدّيَ، في هذا العمل الروائيّ، دوراً «واقعيّاً» ينبضُ بالحياة. إنّ لهذه الشخصيّة نسَباً مكيناً إلى خيال القراءة؛ منه تشكّلتْ، وبه نمَتْ، وإليه احتكمَ مصيرُها. لعلّ ما يوضِّحُ هذا الأمرَ هو كوْن دون كيخوطي لا يحتكمُ في أفعاله ومواقفه إلّا إلى مقروئه، ولا يرَى إلاّ بهذا المقروء، ولا يتصرَّفُ إلّا في ضَوئه. فأفعالهُ ومواقفهُ ناجمةٌ عن القراءة، بما يجعلهُ مشدوداً في الأصل، أي قبْل انطلاق حُضوره في نماء الرواية التي تسمَّت باسْمه، إلى عالم الكُتُب، حتّى لقد اعتقد القسيس بيرو بيرث والحلاق نيكولاس وابنة أخت دون كيخوطي والخادمة أنّ «جُنون» دون كيخوطي، الذي وجّهَ مُختلف مُغامراته، يعودُ أساساً إلى الكتُب التي أفسدَت عقله. ذلك طبعاً ما سوَّغ اشتراك هؤلاء الشخوص في المحرقة التي أجهَزوا بها على كتُب الفروسيّة التي منها خرجَ دون كيخوطي. وهو أيضاً ما سوَّغ إقبارَهُم، في مشهد دالٍّ بَعد المحرقة، ما تبقّى من كتُبه بواسطة الجدار الذي بنَوهُ مكانَ باب غُرفة الكُتب لئلّا يهتديَ إليها دون كيخوطي. جدارٌ بُنيَ كي يمْنعَ التأثيرَ الذي تُحدثهُ الكُتُب ويمْنعَ خيالَ القراءة مِن أنْ يَسريَ في الرؤية إلى العَالَم.
ومع ذلك كلّه، تميَّزَت شخصيّة دون كيخوطي، القادمة من عالَم الكُتُب والمُنتسبة من زوايا عديدة إلى الخيال، بتشعُّب حيَويٍّ كبير داخل عمَل سرفانتس، ممّا وفّرَ لها ديناميّةً لافتةً و«وجوداً» يكادُ يكونُ واقعيّاً، إذ بدَت هذه الشخصيّةُ في سيرورةِ نمائها نابضةً بحياة تكادُ تُبعدُ احتمالَ كونها مُتخيّلة، كما لو أنّ كثافة الخيال الباني لها جعلَها، على نحو مُفارق، أكثرَ إقناعاً بوُجودها الفعليّ. صحيحٌ أنّ كلّ شخصيّة روائيّة ليسَت سوى كائنٍ مُتخيَّل، غير أنّ الأمرَ مُضاعَفٌ فيما يخصّ شخصيّة دون كيخوطي. فالفعلُ الذي يَصدرُ عن هذه الشخصيّة يوَجِّههُ خيالُها المَصوغُ بالقراءة. عَن فِعل القراءة وعمّا تحصّل منها، تأخذُ الوقائعُ والأحداثُ معناها في رواية سرفانتس. وبذلك، ليست شخصيّةُ دون كيخوطي مُتخيَّلة، كما هي حال كلّ شخصيّة روائيّة، وحسب، بل إنّها تحيا، فضلاً عن ذلك، بالخيال القرائيّ، وتحتكمُ إليه في كلّ ما يَصدرُ عنها بوَصفها تجسيداً لعَالَم الكُتب. رغم ذلك كلّه، احتفَظتْ هذه الشخصيّة، وهذا أمرٌ خصيبٌ إبداعيّاً في بنائها، بنبْضها الذي يبلغُ بالقارئ حدَّ تخيُّلها شخصيّةً حيّة، على نحو ما يُجسِّدهُ رُسوخُها في الذاكرة بقوّة. لعلّ هذا ما يُستفادُ من قول كونديرا إنّ دون كيخوطي يكاد «لا يُتصوَّرُ بوَصفه كائناً حيّاً. ومع ذلك، فأيّ الشخصيّات، في ذاكرتنا، أكثر حياةً منه؟».
إنّ قدومَ هذه الشخصيّة من عالَم الكتُب وتشكُّلَ حِكمتِها أو جنونِها من داخل خيال القراءة أمران دالّان في رواية «النبيل الألمعيّ دون كيخوطي دي لامنتشا». بالمُمكن القرائيِّ واحتمالاته وعوالمه، كانت شخصيّةُ دون كيخوطي تُبْدلُ الرؤيةَ إلى الأشياء، وتُحدِثُ قلباً في ماهيّةِ كلّ ما يُرى، ضمْن تداخُل دالٍّ بين الخياليِّ والواقعيِّ بلغَ حدَّ الالتباسِ الباني للغُموض بوَصفه حقيقةَ كلّ شيء. إنّه الغموضُ الذي شكّل أحدَ الرهانات الكبرى في هذه الرواية، وفي فنّ الرواية بَعدها بوَجه عامّ، حسب تصوُّر كونديرا لهذا الفنّ. ومن ثمَّ، يمكنُ الحديث، بمُوازاة مع خروج دون كيخوطي المُتكرِّر إلى العَالَم الذي كان موضوعَ تأمّل في بعض الدراسات، عن خُروجه هو ذاته من الكتُب بَعد أن فعلَتْ فيه القراءةُ فِعْلَها السّحريّ. من مجهول الكُتب إلى مجهول العَالَم، يتحدّدُ مسارُ المُغامرة على حُدود الخطر عند دون كيخوطي، دون أن ينفصلَ مصدرُ الخروج عن الوجْهة التي قصدَها، حتى وإنْ أُريدَ بالجدار، الذي حلَّ مكانَ باب غُرفة الكتُب، أنْ يفصلَ دون كيخوطي عن الرّحم التي فيها تشكَّلت شخصيّته قبْل الخروج إلى العَالَم، ذلك أنّه ظلّ يحملُ عالمَ الكتُب بداخله لمُواجَهة عالَم آخَر بدا غريباً لدون كيخوطي مثلما بدا فيه هو نفسُه أيضاً غريباً. وهذا دليلٌ على قوّة القراءة في اختراق أيِّ جدار يُريدُ عزْلَها عن أرْضها، وتجفيفَ نبْعها، ومنْعَ تدفّق الماء الذي منه تأتي. يتعلَّق الأمرُ، إذاً، في شخصيّة دون كيخوطي بخُروجيْن؛ خُروج من عالم الكُتُب التي ظلّ دون كيخوطي يحملُ خيالَها ويُجسِّده، وخروج إلى العَالَم الذي كفّ، في رواية سرفانتس، عن أن يظلّ مُتماسكاً أو خاضعاً لحقيقة واحدة بَعد أنْ تشظّى، وبَعد أن شطّبَ غموضُهُ كلَّ وُضوح مُتوَهَّم. من هُنا الحيَويّة التي تُجسِّدها طريقةُ بناء شخصيّة دون كيخوطي في عمل سرفانتس، ويُجسّدُها، من جهة أخرى، البُعدُ الفكريّ لهذه الشخصيّة في تحديد قوّة هذا العمل الروائيّ.
لقد ركّزَت بعضُ الدراسات التي تناولَت عملَ سرفانتس، في رَسْمها لقوّة هذا العمل وعُمقه ودَوره التأسيسيّ، على الإبداع الذي وَسمَ بناءَ الشخصيّة الروائيّة فيه. غير أنّ ثمَّة مَنْ استجْلى قوّةَ هذا العمل وعُمقَه من زاوية البُعد الفكريّ المُضمَر في سَيرورة هذه الشخصيّة، والساري في ثنايا الرواية، إلى حدّ أنّ مِن الكُتَّاب مَنْ شدَّدَ على حيَويّةِ هذا البُعد، وعلى المعرفة التي يُنتِجُها، مِن مَوقعِ الاشتغال الروائيّ للفكر، أي مِن موقعِ فكر الرواية. ذلك، مثلاً، ما أضاءهُ كونديرا الذي يقول بتكثيف شديد: «إنّ مؤسِّس الأزمنة الحديثة، بالنسبة إليّ، ليس ديكارت وحسب، بل أيضاً سرفانتس». بهذا الاستنتاج المُكثَّف، يُلمحُ كونديرا إلى ما أسّسهُ سرفانتس عبْر فنّ الرواية، إذ ذهبَ كونديرا، في سياق هذا الاستنتاج الذي يُوازي بين الرواية والفكر، إلى أنّ فنّ الرواية، الذي أرسَتْ أسُسَهُ رواية «دون كيخوطي دي لامنتشا»، عالجَ في القرون الأربعة التالية على ظهور هذه الرواية التأسيسيّة كلَّ الموضوعات التي حلّلها هايدغر في كتابه «الوجود والزمان». فقد أسّس سرفانتس لفنّ نهضَ باستكشاف الوُجود المَنسيّ، وهو الاستكشاف الذي لم يلتفت إليه، حسب كونديرا، لا هوسرل ولا هايدغر في نقدهما للأزمنة الحديثة التي كرّسَت في نظرهما نسيانَ الوجود. وبذلك، كان كونديرا يُشدّدُ على مَسلك قرائيٍّ يقومُ على الإنصات لفكر الرواية، وللمعرفة التي أنتجَتها مُنذ هذا العمل التأسيسيّ.
تساءلَ كونديرا، في الفصل الذي عَنونَهُ «إرث سرفانتس المذموم» ضمن كتابه «فنّ الرواية»، قائلاً: «ما الذي تريدُ رواية سرفانتس الكبيرة قوله؟». وفي استجلائه لقضايا هذا السؤال الذي شغلَ دارسين كثر قبْله، ميّزَ، في البحوث التي أثارَت هذا الموضوع، بين جوابيْن؛ الأوّل يَرى أنّ هذه الرواية نقدٌ عقلانيّ لمثاليّة دون كيخوطي الغامضة، والثاني يَرى في الرواية تمجيداً لهذه المثاليّة ذاتها. في سياق ذلك، عدّ كونديرا التأويليْن معاً خاطئيْن، لأنّهما لا يرومان العثورَ في أساس الرواية على سُؤال مفتوح، بل على حُكم أخلاقيٍّ جاهز، وهو ما يتعارضُ أصلاً مع «روح الرواية». فالتحرُّرُ من الأحكام، الذي أرستْهُ رواية «دون كيخوطي دي لامنتشا» رهانٌ روائيٌّ مُرتبطٌ بفكر الرواية، وهو أيضاً رهانٌ قرائيّ يُعلِّمُ آدابَ تأويل الرواية؛ تأويلها بمنأى عن الأحكام، وبالاستناد إلى السؤال، والارتياب، ودرجة التعقيد. فرواية «دون كيخوطي دي لامنتشا» من الأعمال التي تُتيحُ الإنصاتَ لفكر الرواية مِن أكثر من زاوية، أي الإنصات للفكر الذي ينمو، وهو يتقاطعُ مع انشغالات المُفكِّرين، جماليّاً بالأساس؛ ينمو من داخل قوانين الفنّ الذي إليه يَنتسب.
للبُعد الفكريّ، الذي تنطوي عليه رواية «دون كيخوطي دي لامنتشا» تفرُّعاتٌ مُتشعِّبة بتشعُّب «المفهومات الفكريّة» التي تشتغلُ روائيّاً في هذا العمل، وبتشعُّب الأراضي الوُجوديّة التي استكشفَتْها هذه الرواية من داخل الحكي. لعلّ أوّل ملامح هذا البُعد الفكريّ هو التعقيد الذي به قدّمَتْ رواية «دون كيخوطي دي لامنتشا» العَالَم، وبه أرسى سرفانتس ما سمَّاه كونديرا، «روح التعقيد»، التي هي «روح الرواية» بوجه عامّ، أي تمكين الأشياء، بما فيها الأشياء التي تبدو في العادة بسيطةً، من الانطواء على غُموض شديد لا ينفكّ يُجدّدُ مجهولَهُ باستمرار، ولا يتوقّفُ عن الإفصاح عن طيّات هذا المجهول التي لا تنتهي. لا ينفصلُ هذا الملمحُ الفكريّ عن سَيرورة الغامض في رواية «دون كيخوطي دي لامنتشا»، كاشفاً، عبْر «روح التعقيد» أنّ حقيقة الشيء في تشظٍّ دائم، بل إنّ اشتغال الغامض يبلغُ حدّاً يجعلُ كلّ شَيء مُلتبساً بضدّه، حتى لقد تحوَّل هذا الالتباسُ ذو الملمح الضدّيّ نفسُه إلى موضوعةٍ تواترتْ في هذه الرواية، وتخلّلت الحكيَ وحوارات الشخوص. تجلّى هذا الالتباس، الذي فيه يمتزجُ الشيءُ بضدّه، بصورة لافتة في كلِّ ما يَبدو ويظهر. فكثيراً ما بدا السوادُ، في هذه الرواية، بياضاً والبياضُ سواداً، والخيرُ شرّاً والشرّ خيراً، وغيرها من الالتباسات التي زعزَعَت الثنائيات، وحدّتْ من انفصال طرَفيْها لصالح الالتباس الذي يقبلُ اجتماعَ الأضداد وتداخُلَها. لعلّ الالتباس الأكثر جلاءً في رواية «دون كيخوطي دي لامنتشا» هو الذي تجسَّد، في كلّ مسار هذه الرواية، عبْر التداخل القائم بين الجُنون والحكمة، وكان مُحدِّداً رئيساً في بناء شخصيّة دون كيخوطي وفي صوغ البُعد الفكريّ الذي انطوَت عليه. إنّه التداخلُ الذي لا يستقيمُ في ضوئه عدّ دون كيخوطي، حكيماً طوراً ومجنوناً طوراً آخرَ وَفق ما تبدَّى من التقييمات التي رجّحَها كلُّ الشخوص الذين التقى بهم دون كيخوطي. لربّما المُرجَّح أكثر، استناداً إلى عُمق الالتباس الباني للغامض الذي سعَت الرواية إلى استنباته في كلِّ شيء، هو عدّ دون كيخوطي مجنوناً حكيماً في الآن ذاته، دون أيِّ فصْل بين الحكمة والجُنون، لأنّ هذا الالتباسَ القائمَ على لقاء الضدّيّ يسمحُ، بناءً على منْع الحقيقة من التماسُك والامتلاء، بالحديث عن الجُنون الحكيم، ويُتيحُ أيضاً إعادةَ النظر في مفهوم الجنون نفسه وهو ينسبُه، من موقع الغامض في العَالَم، إلى الحكمة العالية.
إنّها الحكمة المشدودة بوشائجَ عديدة إلى قوّة الأثر الذي تُحدثهُ القراءة وإلى طاقتها على الفِعل، إلى الحدّ الذي تبدو فيه هذه الطاقةُ جنوناً، لأنّ الجُنون الحكيمَ من سِمات القراءة ومُحدِّدات هُويّتها. أثمّة قارئٌ، وَفق ما يُمكنُ استنتاجُهُ من شخصيّة دون كيخوطي ومن موضوعةِ جُنون القراءة، لمْ تُخرجْهُ القراءةُ عن «صوابه» أو عن «عمائه»، ولم تجعلهُ يتحدَّثُ إلى نفسه بصَوتٍ خفيض وحتى بصَوتٍ مُرتفع قد يبلغ حدَّ الصراخ؟ أثمّة مَنْ لم تجعلْه القراءةُ يَضحكُ ويبكي، ويُلامسُ التناقض الباني لكيانه؟ أثمّة مَنْ لم تُره القراءةُ الشيءَ في غير الصورة التي تكرّس بها في العادة؟ لا حدّ إذاً لجنون القراءة، لكنّه جنونٌ حكيمٌ يُفكّكُ المعنى المُعتادَ للجنون، ويفكّكُ وَهْمَ الحقيقة الوحيدة، ويُلقي بمعنى الحقيقة في التشظّي المانع للامتلاء. إنّ هذا التفكيك أحدُ رهانات استنبات الغموض في كلّ شيء. أمّا التأويل الذي ذهب إلى أنّ عمل سرفانتس رامَ نقْد كُتُب الفروسيّة فيبدو اختزاليّاً إلى أبْعد الحدود، على نحو ما تنبّهَ إليه بعضُ الدارسين، مُعتبرين أنّ كتُب الفروسيّة لم تكُن، في هذا العمل، سوى لعبةٍ كتابيّة، لأنّ البُعد الفكريّ في عمل سرفانتس ذو تفرُّعات شديدةِ التشعُّب، وهو أوسع من استقصاءِ كلّ مَلامحه.
الملمح الثاني الذي يُمكنُ الإشارة إليه في استجلاء البُعد الفكريّ في رواية «دون كيخوطي دي لامنتشا» غيرُ مُنفصل عن سابقه؛ يتجلّى أساساً في حِرص الرواية على التشديد أن لا شيء يتحدّدُ بصورَته التي بها يبدو ويَظهر. كلُّ ما يظهرُ هو غيرُ ذاته. وبذلك، فإنّ هذه الرواية تطرحُ بصَمتٍ سرديٍّ سؤالاً فكريّاً شديدَ التعقيد، هو «ما الظاهر؟»، وتستبعدُ، في الآن نفسه، إمكانَ الجواب عنه اعتماداً على افتراض باطنٍ ما لهذا الظاهر، إذ تُغلِّبُ، وَفق الاحتمالات التي يُتيحُها التأويل، ترجيحَ أنّ كلّ ظاهر هو غيرُ حقيقته باستمرار، ولا يُحيلُ، تبعاً لذلك، على حقيقة وحيدة. «الظاهرٌ»، أيُّ «ظاهر» شاهدٌ على أنّه علامةٌ على ما لا ينفكّ يتبدَّل ويتلوَّن. فرواية «دون كيخوطي دي لامنتشا» تُسائلُ الظاهرَ لا لتكشفَ أنّه ينطوي على باطن قارّ، بل لتُشدِّد على أنّ كلّ ظاهر مُغايرٌ لذاته. فما يَظهرُ، في كلّ ظهور، ليس، وَفق التصوُّر الارتيابي الذي تبنيه الرواية، هو نفسهُ. إنّه مُنطوٍ على التباسٍ لا يرتفع، وعلى غموضٍ مُتجدِّد، وعلى شُسوعِ المجهول. فتكرار تعامُل دون كيخوطي، مثلاً، مع مظاهرَ من خارج صورَتها الأولى يكشفُ، من زاوية، عن الوَهم المُوَجِّه دوماً للإدراك، ويوضِّحُ، من زاوية ثانية، أنّ الشيءَ هو غيرُ ذاته، وأنّ الحقيقة في تشظٍّ دائم، وغير قابلة للالتئام في معنى وحيد مُمتلئ ومُغلق. استناداً إلى ذلك، تنتصرُ رواية «دون كيخوطي دي لامنتشا» للمعرفة المُنفلتة، ولِما يُسمّيه كونديرا «حكمة اللايقين»، التي هي حكمة الرواية بوَجه عامّ. تنتصرُ الرواية لهذه المعرفية وَفق مقوِّمات الفنّ الذي يجعلُ منها رواية، ووَفق الوشائج المُتشابكة التي ينسجُها هذا الفنّ بطرائقه الخاصّة. في سياق الإلماح إلى هذه الوشائج الصامتة التي تشتغلُ في رواية «دون كيخوطي دي لامنتشا»، يُمكنُ الإشارة إلى ما يصِلُ موضوعة السِّحر بما يظهر من الأشياء مُنفصلاً عن نفسه. فالحُضورُ القويّ لموضوعة السِّحر في رواية «دون كيخوطي دي لامنتشا» ليس أمراً عرَضيّاً، إنّ له وشائجَ قويّةً بالبُدُوّ الخادع، وبظهور الشيء في غير صورَته «الأصليّة» (هل للشيء أساساً صورةٌ أصليّة؟). تنمو موضوعة السِّحر في الرواية بانسجام تامّ مع قابليّة الشيء للتلوُّن في ظهوره وبظهوره. وكثيراً ما استحضرَ دون كيخوطي السِّحرَ لتعليلِ ما لا يستقيمُ استيعابُه، أو لإقناع رفيقه سانتشو بعكس ما يبدو له، أو لتسويغ تمكينِ خيالِ القراءة من أنْ يسريَ في الوقائع. إنّ بَين موضوعة السِّحر وموضوعة الجنون وموضوعة الخيال وموضوعة الظاهر المُنفصل عن نفسه وشائجَ تتشابكُ خيوطُها على امتداد رواية «دون كيخوطي دي لامنتشا»، إذ لا حدّ للوشائج في هذه الرواية، ولا حدّ للاحتمالات التي تُمكّنُ التأويلَ من تمديد هذه الوشائج والإسْهام في تعقيد تشابُكاتها.
عن السؤال الفكريّ المُتعلِّق بالظاهر، تتولَّدُ، في عمل سرفانتس، أسئلةٌ فكريّة أخرى، منها بصورة رئيسة سؤال «ما الواقع؟»، و«ما حُدود الخيال فيه؟»، و«أثمّة فاصلٌ بينهما؟». إنّ تنامي هذه الأسئلة وتداخُلها هُما أيضاً أحدُ تجليات الالتباس الذي ينتصرُ للغامض. تبدو هذه الأسئلة، التي توَلِّدُها الرواية وَفق ما يَحتكمُ إليه فكرُها جماليّاً، كما لو أنّها ترومُ قلبَ الرؤية الاعتياديّة للأشياء، على نحو يجعلُ الواقعَ وليدَ الخيال لا العكس. فالخارقُ أو الخياليّ لا يتحدّدُ، مِن منظور دون كيخوطي، بحُدوث وقائعَ غريبة، بل بحُدوث وقائعَ لا تنضبطُ لمَنطق كتُب الفروسيّة ولمَنطق مُغامرة الفرسان الجوّالة، أي لا تنضبط لخيال القراءة. فكثيراً ما كان دون كيخوطي يُبدي حيرتَهُ لرفيقه سانتشو تجاه «وقائع» مُعيَّنة، لا لشيء إلّا لأنّه لم يَسبق أنْ قرأ مثلَها في كُتُب الفروسيّة. كما لو أنّ على الوقائع أنْ تنتظمَ وَفق خيال القراءة، بما ينطوي عليه هذا الأمر من احتمال كون الواقع خيالاً محجوباً، انسجاماً مع مفهوم الظاهر الذي لا يَظهرُ إلّا لينفصلَ عن نفسه، حتّى وإنْ بدا ثابتاً في صورة واحدة. تبدو الأسئلة السابقة مُوجَّهةً بالسؤال الأكبر الذي شكّلَ مدار الرواية الصامت، أي سُؤال تشظّي الحقيقة. فعن سُؤال «الظاهر» وسؤال «الواقع» المُعقّديْن، يَنبثقُ، في كلّ فُصول رواية «دون كيخوطي دي لامنتشا» بقسْمَيْها، سؤالٌ فكريّ مِن صميم «روح التعقيد»؛ إنّه سؤال «ما الحقيقة؟» المُتشابك، في أحداث الرواية، مع الوَهم الذي يلتبسُ بموضوع هذا السؤال ويمنعُ الجواب عنه من أيِّ إقرار. فقد حرَصت رواية «دون كيخوطي دي لامنتشا» على تفكيك مفهوم الحقيقة عبْر الحكي، فكانت الحقيقة، على امتداد الرواية، تتشظّى لا بالحَكي وحسب، ولكن أيضاً بالمَرح المُستنِد إلى قُدرةِ الضحك على زعزعة انغلاق هُويّةِ الأشياء. يُنتجُ مَرحُ هذه الرواية الضّحكَ فيما هو يَسخرُ من الأشياء الجامدة والرؤى الثابتة، ويُمكّنُ الأشياءَ والرؤى من أنْ تُضاء بإحداث شقوق فيها. إنّه مسلكٌ تأويليٌّ آخَر مِن بَين المسالك اللانهائيّة التي يُتيحُها عملُ سرفانتس الكبير للقراءة والتمديد.